كنت فى الثانية عشرة من عمرى عندما أعطانى أبى كتاباً صغيراً يحوى رسائل كتبها «نهرو» (زعيم حركة تحرر الهند من الاستعمار الإنجليزى) فى عام 1928 لابنته «أنديرا». كانت الطفلة ذات العشرة أعوام فى جبال الهيمالايا بينما «نهرو» فى السهل أسفل الجبل، والرسائل وسيلة اختصار المسافة. عدتُ هذه الأيام للرسائل، واستوقفتنى نبرة الاحترام لعقل الطفلة التى أصبحت لاحقاً قائدة لشعب الهند، ورئيسة وزراء دفعت حياتها عام 1984 ثمناً لدفاعها عن مبادئ السلام والعدل التى تربت عليها، والتى تظهر بجلاء فى رسائل الأب. ففى تلك النصوص القصيرة يؤكد «نهرو» أن القوة لا يجب أن تخدم صاحبها وتشبع أنانيته ومصالحه الخاصة لأن «القوة ليست حقاً، بل هى امتياز يجب استخدامه بحكمة من أجل حماية وخدمة الناس». كما يلفت انتباهها أن الحضارة لا تكمن فى الأشياء الموضوعية، ولكنها مسألة موقف روحى من الحياة «فالمبانى الجميلة والصور الجميلة والكتب وكل ما هو جميل يقف شاهداً على وجود حضارة ما، ولكن الشاهد الأهم هو الإنسان الذى تجرد من الأنانية وعمل بهمة مع باقى الناس من أجل صالح الجماعة». يفسر «نهرو» ل«أنديرا» الفجوة التى تفصل الأغنياء عن الفقراء، وكيف بدأ الأمر يتعقد مع ظهور القائد أو زعيم القبيلة، ففى البداية كانت كل الأشياء ملكية عامة، وحتى القائد لم يكن يمتلك شيئاً خاصاً، فكونه فرداً من أفراد القبيلة كان له ما لباقى الأفراد. كانت مهمته تنظيم الأمور وحماية ممتلكات الناس. ولكن مع تزايد قوته اعتقد أن هذه الممتلكات تخصه هو، وتصور أن قيادته للقبيلة تعنى أنه يمثلها. وكانت تلك هى اللحظة التى بدأت فيها الهوة بين الغنى والفقير. ولم يلبث القائد أن تحول إلى ملك عندما أصبح المنصب بالوراثة. وتصور الملك أنه يمتلك كل ما فى البلد، بل إنه هو البلد. ونسى الملوك أن الناس قد اختارتهم كى ينظموا أمور الحياة، ويرسوا أسس العدل بين الجميع. نسوا أن سبب اختيارهم أنهم الأذكى والأكثر خبرة، وتوهموا أنهم السادة وكل من هم دونهم فى القوة عبيد. ولكنهم فى حقيقة الأمر هم الخدام. وازداد الأمر سوءاً عندما اعتقدوا أن لا علاقة للناس بوجودهم فى مناصبهم، بل إن الله نفسه هو من اختارهم، وهو ما سموه الحق الإلهى فى الحكم. ولسنوات طويلة أساءوا التصرف، وعاشوا فى رغد بينما شعوبهم تتضور جوعاً. عندما أعدت قراءة أجزاء من رسائل «نهرو» أدركت أنها لا تزال تتماس مع واقعنا اليوم كأن أكثر من سبعين عاماً لم تمر. جاء ملوك وذهبوا وحل محلهم رؤساء ورحلوا والكل يعيش نفس الوهم. المهم ألا نصدق- نحن الناس- أوهام القائد، وأن نُذكَّر أنفسنا أن القوة ليست حقاً، بل هى امتياز نمنحه لمن يقوم على خدمتنا.