محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    تحولات الحرب في السودان وفضيحة أمريكا    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فوكو وقول الحقيقة .. تقديم و ترجمة وتعليق : محمد ازويتة
نشر في حريات يوم 08 - 02 - 2014


التقديم:
تشكل هذه الدروس إطارا معرفيا، بقدر ما يوضح بعض القضايا المنشورة في مؤلفات سابقة، بالقدر نفسه يعمل على توسيع تلك القضايا وإضافة معطيات جديدة ….. يتعلق الأمر هنا بتكملة لما ورد في كتاب ( تأويلية الذات ) المخصص لمبدأ الانهمام بالذات….كما نتعرف ، بشكل مفصل ومن خلال عدد من العلاقات ، على الصراحة الصادقة الحرة كشكل مميز لقول الحقيقة في القديم …..ولا داعي إلى التذكير بكون دروس الثمانينات المرتبطة بانطولوجيا الأخلاق والمتمثلة بالخصوص في تقنيات الذات ، تمثل تتويجا معرفيا خلاقا بحيث إن الرهان فيها مزدوج يجعلنا نتعرف من جهة على البناء النظري والمنهجي للمفكر…ومن جهة أخرى الاستمتاع معه وهو يبحر في العالمين اليوناني والروماني… هناك حيث ارتبط الوجود بالجمال…
الترجمة :
الانهمام بالذات
@ أريد هده السنة أن أتمم دراسة الصراحة الصادقة الحرة كطريقة في قول الحقيقة. الفكرة العامة، لمن لم يتابع المحاضرات السابقة، هي أنه من المهم والأساسي تحليل البنيات الخاصة لمختلف ا لخطابات التي تقدم وتستقبل كخطابات تقول الحقيقة..نسمي هدا النوع من التحليل بالابستيمولوجي . من جهة أخرى يبدو لي أيضا مهما تحليل داخل هده الشروط و الأشكال نوع وشكل الفعل الذي من خلاله تقول الذات الحقيقة عن نفسها …تتمظهر ويتعرف عليها الآخرون كذات قائلة للحقيقة . لا يتعلق الأمر بأنواع الخطابات كما تم التعرف عليها كخطابات للحقيقة وإنما بالتساؤل داخل أي أشكال تتكون الذات في علاقتها بنفسها وعلاقتها مع الآخرين كذات تقول الحقيقة . لقد وصلت إلى هده المشكلة انطلاقا من السؤال القديم المرتبط بتحديد العلاقة بين الذات و الحقيقة ، بمعنى التساؤل من خلال أية ممارسات وأية خطابات أصبح من الممكن قول الحقيقة عن الذات ، وانطلاقا من دلك كيف أصبح ممكنا قول الحقيقة عن ذات المجنون والمنحرف . كيف تم تشكلنا كذوات لمعرفة ممكنة ( الذات العاملة والدات المتكلمة والدات الحية ) . لقد حاولت من خلال نفس العلاقة بين الذات والحقيقة،إنما بصيغة أخرى ، التساؤل حول كيف تتشكل الذوات من خلال خطابات الحقيقة لتصبح قادرة على قول الحقيقة عن ذاتها ومثال دلك مسالة الاعتراف ومحاسبة النفس …إن قول الحقيقة عن الذات هو الذي جعلني أقدم التحليل التاريخي للممارسات المرتبطة بقول الحقيقة عن الذات ، الأمر الذي تمكنت من خلاله إلى الوصول أشياء لم تكن منتظرة ، يتعلق الأمر داخل الثقافة الإغريقية الرومانية بمبدأ هام وهو لزوم قول الحقيقة عن الذات الذي نجده مع الفيتاغوريين والكلبيين وبدرجة اقل في بعض المراسلات والكتابات الحميمية الخاصة …وهي ممارسات ارتبطت بشكل عام بالمبدأ السقراطي ( اعرف نفسك بنفسك ). اعتقد أيضا انه يمكن موقعة هده الضرورة بمبدأ اعم واشمل مرتبط بثقافة الذات في القديم وهو مبدأ ( الانهمام بالذات ) .
الآخر
@ في دراستنا لهده الممارسات الذاتية كإطار تاريخي تطورت من خلاله ضرورة قول الحقيقة عن الذات ، وجدنا شخصا هو بمثابة شريك أو مساعد مهم وأساسي في ضرورة قول الحقيقة عن الذات . لنشر قبل دلك إلى انه ليس من الضروري انتظار مجيء المسيحية ، ليس من الضروري انتظار الشكل المؤسساتي مع بداية القرن الثالث عشر للاعتراف ، ليس من الضروري انتظار المسيحية الرومانية ووضع نظام السلطة الرعوية لكي تكون ممارسة قول الحقيقة مدعومة بوجود الآخر بما هو مستمع ، وبما هو مساعد على الكلام ، وبما هو متكلم عن ذاته …إن قول الحقيقة عن الذات موجود في الثقافة الإغريقية قبل المسيحية ، فقد كان بمثابة فاعلية مع الآخرين وبالضبط مع الآخر أي انه كان ممارسة ثنائية . إن وضعية هدا الآخر الضروري لقول الحقيقة عن الذات تطرح مشاكل كثيرة ، فادا كنا نعرف مظاهر حضور هدا الآخر في المسيحية من خلال المرشد الديني ، كما نعرفه في الثقافة الحديثة من خلال الطبيب والمحلل النفساني وطبيب الأمراض العقلية ..فانه في القديم أكثر غموضا ولبسا واقل تمأسسا بحيث يمكن أن يكون فيلسوفا محترفا أو تقنيا أو استادا مرتبطا بشكل أو بآخر بمؤسسة ما كما هو حال ابيكتيت ، يمكن أن يكون عاشقا أو موجها مؤقتا يساعد الشباب على اكتساب مبادئ أو قناعات ما…يمكن أن يكون مستشارا خاصا وموجها دائما كما هو حال ديميتريس …كيفما كانت وضعية هدا الآخر فان دوره ووظيفته ووضعيته كمساعد أساسي للآخر لقول الحقيقة عن الذات يلزمه أن يتصف بخاصيات مميزة هي:
* أن يتصف بكفاءات خاصة لا تنتمي إلى الثقافة المسيحية ومؤسستها و المرتبطة بامتلاك مجموعة من التمارين تؤهل للسلطة الروحية .
* أن يتصف بكفاءات خاصة لا تنتمي إلى العصر الحديث ومؤسساته والمرتبطة بامتلاك بعض المعارف السيكولوجية والنفسية ….
يتعلق الأمر اذن بامتلاك مجموعة كفاءات هي نوع من الممارسات وطرائق في القول هي بالتحديد ما يسمى بالصراحة الصادقة الحرة أو القول الصريح.
الصراحة الصادقة الحرة
@ بدون شك فان مفهوم الصراحة أو الصدق. هدا الذي هو مكون للفرد ، لهدا الآخر الضروري كي أتمكن من قول الحقيقة عن ذاتي، قد أصبح الآن غريبا وصعبا … لكن المفهوم ترك آثارا في النصوص اليونانية والإغريقية من خلال الإحالات المتعددة للكلمة ، أو من خلال ورود كلمات أخرى تحيل إلى نفس المفهوم ونفس الممارسة ،كما نجد دلك مع " سينيك " حيث يقدمها من خلال مجموعة من الأوصاف و الخصائص ، أو كما نجدها ضمن مجموعة من النصوص المرتبطة بدراسة المفهوم مثال دلك نص ، لسوء الحظ قد ضاع جزء كبير منه ،" لفيلوديم" القرن الأول قبل الميلاد ،ثم مقالات ل" بلوتارك" حول ما يمكن أن نسميه بالمخادعة أو الملاطفة أو التملق والإطراء ….. وهي ممارسات متعارضة كليا مع الصراحة ثم هناك نصوص " جاليان " حيث نجد نصوصا مخصصة للمفهوم وللاختيار المرتبط بالذات المتكلمة المؤهلة لكي تصبح بدورها قادرة على قول الحقيقة مشكلة من خلالها …
لقد وجدت ضمن هدا المسار كيف أن الآخر هو عنصر أساسي داخل لعبة وضرورة قول الحقيقة عن الذات ….. إن دراسة هده الممارسة المرتبطة بالصراحة والصريح داخل ثقافة الذات ترجع إلى الماضي القديم ثم انتظمت وتطورت فيما بعد داخل ثنائية معروفة ( التائب المرشد الديني ) . ( المريض المحلل النفساني ) …إن دراسة هدا التراث القديم جعلني أكتشف شيئا خاصا وهو أنه بالرغم من ارتباط هده الممارسة بالمرشد الروحي…فإنها تبقى أساسا مفهوما سياسيا .
شجاعة الصريح الصادق الحر
@ ان قول الحقيقة كاملة غير كاف لتحديد مفهوم الصراحة الصادقة الحرة ، لكي نتكلم عن معناها الإيجابي يلزم توفر شرطين إضافيين: يلزم أولا أن تشكل هده الحقيقة الرأي الخاص لمن يتكلم بها، ما يفكر به وما يعتقده ، بمعنى إقامة رابط قوي بينها وبينه. .. من الملاحظ ثانيا انه يمكن للاستاد أو المهندس أو النحوي..أن يقول الحقيقة التي يفكر فيها ويعلمها ..دون أن تشكل هده الحقيقة تفكيره الخاص واعتقاداته الخاصة …لكي نتحدث عن الصريح الصادق الحر يلزم الذات المتكلمة ، إضافة إلى ما ذكر ، المخاطرة والمجازفة بالعلاقة التي تقيمها مع الآخر الذي توجه إليه الحقيقة . تفترض هده المجازفة نوعا من الشجاعة، الشجاعة في درجتها الدنيا احتمال فك الارتباط مع الآخر كإمكانية لقول الحقيقة …وفي درجتها القصوى أن نعرض حياتنا الخاصة للموت ….تلك الشجاعة التي يربطها سقراط بالنبل ورفعة النفس.
شجاعة المستمع
@ لقد تطور الشكل الصريح الصادق الحر داخل ما يمكن أن نسميه بلعبة الحقيقة . فالصريح الصادق الحر ، بقوله الحقيقة كل الحقيقة ، يجازف بوجوده وبعلاقته مع الآخر … من جهة أخرى فان من توجه إليهم الحقيقة :
الشعب الذي يناقش القرارات الملائمة للمدينة …و الأمير الذي يلزم أن توجه إليه النصائح … الصديق الذي يلزم أن نوجهه…إن الدور الذي يمكن أن يقوم به الصريح الصادق الحر يلزم الآخرين بان يتقبلوا لعبة الحقيقة حتى ولو كانت جارحة…وهكذا وسواء بالنسبة للأفكار المتوصل إليها داخل المجلس أو لصالح الأمير ومنفعته أو للصديق الذي يعيش العماء والجهل …كل هؤلاء يلزمهم أن يقبلوا حقيقة الصريح الصادق الحر على اعتبار أن الذي يجازف بقول الحقيقة ، كل الحقيقة يلزم أن ننصت إليه …. يتعلق الأمر هنا بنوع من الميثاق داخل لعبة الحقيقة . فادا كان الصريح الصادق الحر قد أظهر شجاعة بقول الحقيقة فان الذي توجه إليه عليه أن يظهر هو الآخر نوعا من النبل و الرفعة في تقبلها…. في كلمتين فإننا أمام شجاعة الصريح الصادق الحر في قوله الحقيقة مهما كانت الظروف….وأيضا أمام شجاعة المرسل إليه في أن يتقبل الحقيقة حتى ولو كانت جارحة.
الصراحة الصادقة الحرة والبلاغة
@ وكما تلاحظون فان ممارسة الصراحة والصدق تتعارض بالكامل مع فن البلاغة . لكي نحدد الأمور في صيغة خطاطة سأقول ما يلي : إن البلاغة كما تم تحديدها في الماضي وكما تمت ممارستها هي في العمق تقنية تهم طريقة قول الأشياء دون أن تحدد العلاقة بين المتكلم و ما يقوله ، بعبارة أخرى فان البلاغة هي فن وتقنية ، مجموعة من الطرائق تسمح لمن يتكلم بقول أشياء ليس من الضروري أن يعتقد فيها لكنها تنتج أثارا بالنسبة للمتلقي في صيغة قناعات وسلوكيات واعتقادات … لنقل ادن إن البلاغي الجيد هو القادر على قول أشياء غير ما يعتقد وغير ما يعرف وغير ما يفكر. كما أن العلاقة بينه وبين المتلقي تظل مفتوحة ، في حين نجد رابطا قويا ، بخصوص نظام الصراحة والصدق ، بين الصريح الصادق الحر وقوله ، كما أن العلاقة مع الآخر تفتح إمكانية الجفاء والقطيعة والانفصال … لنقل أيضا انه ادا كان من الممكن أن نرى في البلاغي شخصا يمتاز بالكذب و تزو يق الكلام بهدف التأثير على المستمعين وإجبارهم على قبول ما يقول …فان الصريح الصادق الحر هو شخص يصدر قوله بكل شجاعة لقول حقيقة ما ، مجازفا بحياته وبالعلاقة مع الآخرين ….
القول الحقيقي للنبي
@ لا يلزم أن نعتقد بان الصراحة الصادقة الحرة هي نوع من التقنية المحددة توازي وتماثل البلاغة. لنقل، رغم صعوبة التحديد، إنها ليست عملا وإنما هي وضعية ، طريقة في الوجود أقرب إلى الفضيلة ، هي أيضا جملة من الطرق والوسائل المحددة يسعى من خلالها الصريح الصادق الحر إلى تحقيق أهداف معينة . هي أيضا وظيفة مفيدة ونبيلة للمدينة و الأفراد. سأقول بدلا من أن تكون تقنية بأنها شكل معين من قول الحقيقة…بهدف رصدها يمكن أن نعارضها بأشكال أخرى من قول الحقيقة:
هناك أولا قول الحقيقة النبوي : لا يتعلق الأمر بتحليل البنيات و المضامين وإنما الطريقة التي يتشكل بها النبي إزاء ذاته وإزاء الآخرين باعتباره ذاتا تقول الحقيقة . إن ما يميز النبي ثانيا هو انه في وضعية الوسيط ، فهو بالتحديد لا يتكلم باسمه الخاص .يمفصل كلاما ليس من إبداعه ويقدم حقيقة تأتيه من الخارج . هو أيضا في وضعية الوسيط بين الحاضر والماضي بحيث يعمل على رفع الستار عما هو محجوب ومستور. هو أيضا في وضعية الوسيط لأنه وحده القادر على التوضيح والتأويل… تتعارض هده السمات كليا مع خصائص الصريح الصادق الحر الذي يتحدد بكلامه الخاص، بأفكاره وتصوراته وقناعا ته الخاصة…كما انه لا ينشغل إلا بما هو كائن يخص الأفراد ، بحيث يساعدهم على بيان ما هم عليه من جهل وعماء من أجال تصحيح أخطاءهم …هو أيضا لا يقول كلاما غامضا وملتبسا ..انه واضح ومباشر بحيث لا يترك للآخر شيئا يؤوله وإنما يترك له مهمة أخلاقية تتمثل في شجاعة قبول الحقيقة كيفما كانت نتيجتها …
القول الحقيقي للحكيم
@ من جهة أخرى نجد نظام الحقيقة الصريح الصادق الحر يعارض شكلا آخر من قول الحقيقة مهم و أساسي بالنسبة للفلسفة هو قول الحقيقة لدى الحكيم. الحكيم بالمقارنة مع النبي يتكلم بلسانه الخاص، يقول حكمته الخاصة بغض النظر عن مصدرها ( الله، التقليد، التعلم …). المهم أنه حاضر فيما يقوله ويصدر عنه ليس كقول ولكن أيضا كطريقة في الوجود تخصه كحكيم. يتميز الحكيم أيضا بكونه كذلك في ذاته ومن أجل ذاته ، وهو ليس مجبرا على الكلام ، على أن يذيع حكمه بحيث انه يظل صامتا إلا ادا تطلب الأمر إشارة ، في صيغة توسل وإلحاح ،أو كلاما استدعته حالة استعجاليه تخص الفرد أو المدينة ، وهنا يلتقي الحكيم مع النبي حيث يكون كلامه غامضا وملتبسا يترك من خلاله مستمعه في الحيرة و اللايقين . يتميز الحكيم أيضا بكونه يقول ما هو كائن ضمن إشارات عامة، ما يهم الفرد في وجوده…وهو في كل دلك عادة ما يتميز بالانعزال الإرادي( نتذكر هنا حالة هيراقليط الذي اختار المغادرة التطوعية بالمقارنة مع هيرميدور صديق هيراقليط الذي طردته جماعة الفزوقراطيين ) و الابتعاد عن الآخرين . بالمقارنة مع الصريح الصادق الحر يمكن القول إن هدا الأخير يتميز بوجوب أداء مهمة توجيه الناس و الأخذ بيدهم وإنارة الطريق لهم ، إنها مهام أوكله الله إليها ، لا يمكن أن يتركها حتى ولو هدد بالموت ، وسيظل يدافع عنها حتى رمقه الأخير . الصريح الصادق الحر هو القائل للحقيقة بكل وضوح و صراحة وشجاعة تخص ما يهم الأفراد في حياتهم .
القول الحقيقي للتقني
@ النموذج الثالث لقول الحقيقة هو النموذج التقني أي الاستاد أو المعلم الذي نجده كثيرا في محاورات سقراط …إن شخصيات مثل الطبيب والاستاد والنجار والموسيقي والرياضي.. يملكون بدون شك معارف وتقنيات يعملون على ممارستها كأشكال نظرية وتطبيقية تأخذ صيغة تمارين يتم تعليمها فيما بعد للآخرين. التقني بهده المعنى هو الذي يكون قادرا على تعلم وتعليم ما سبق أن تعلمه، انه بمثابة وسيط، وهو مجبر على نقل تلك المعارف التي تنتظم داخل التراث…انه ضامن لبقائها داخل نظام المعرفة…وهو في تلقينه لا يتعرض لأي خطر في علاقته بالآخرين…على العكس من دلك نجد الصريح الصادق الحر الذي تأخذ الحقيقة عنده، بما هي فكره واعتقاداته الخاصة، موقع الخطر، خطر فقدان العلاقة مع الآخر بفعل الكراهية التي قد تصل إلى العقاب والعنف والقتل أيضا. لنقل ادن إن الصريح الصادق الحر ليس هو النبي لان هدا الأخير يقول الحقيقة عبر رفع الحجاب عما هو مستور…كما انه ليس بالحكيم الذي باسم الحكمة يقول ،عندما يريد، ما يهم الكائن والطبيعة…كما انه ليس بالتقني الذي يتحدث باسم التراث…الصريح الصادق هوالذي يتكلم باسمه الخاص مجازفا بقول الحقيقة كل الحقيقة.
أربعة أشكال لقول الحقيقة
@ كما هو ملاحظ فإنني لا أعمل هنا على تحديد أربع مهن أو فنون ، أربع نماذج اجتماعية مختلفة في قول الحقيقة ( قول الحقيقة النبوي ، التقني ، الحكمي ، الصريح الصادق ) .صحيح أنه يمكن أن نماثل هده الأشكال الكبرى من قول الحقيقة إما بمؤسسات أو ممارسات أشخاص …غير أنه في القديم عادة ما كان الاختلاف بينهم قائما. لدينا الوظيفة النبوية وقد أخذت صيغة مؤسساتية . لدينا شخصية الحكيم من خلال الصورة المميزة لهيراقليط . ثم هناك شخصية التقني التي نجدها في الحوارات السقراطية أو مع السوفسطائيين . وأخيرا الصريح الصادق الحر من خلال مساره الخاص و المميز .كيفما كان هدا التمييز داخل فضاءات و مجتمعات فان هده الأشكال من قول الحقيقة ليست أشخاصا أو أدوارا اجتماعية. صحيح انه في بعض المراحل التاريخية وفي بعض الحضارات تؤخذ الوظائف الأربعة المذكورة على عاتق بعض المؤسسات أو الشخصيات غير أن الأمر لا يتعلق بأدوار شخصية وإنما بأشكال قول الحقيقة وقد تمظهرت من خلال أنواع من المؤسسات أو أشكال خطابية ….لنتذكر هنا شخصية سقراط الذي يجمع عناصر هي من نظام التقني والصريح الصادق الحر… سقراط ادن هو الصريح الصادق الحر وهي مهمة أوكلها الله إليه ، إنها مهمة ووظيفة تسلمها من الإله من خلال مبدأ ( اعرف نفسك بنفسك) . سقراط أيضا هو الحكيم من خلال مجموعة من العناصر، كزهده في اللذات ورباطة جأشه وقدرته على تحمل الآلام…سقراط أيضا هو هدا الذي لا يتكلم رغم أنه يعرف… هو أيضا التقني من خلال مشكلته المتعلقة بكيفية تدريس الفضيلة للشباب من أجل حياتهم الخاصة وبهدف تسيير شؤون المدينة أيضا.
الصراحة الصادقة الحرة و المسيحية
@ ادا كانت المرحلة الإغريقية الرومانية قد عملت على دمج شكلين أو نظامين للحقيقة هما شكل الصراحة والصدق ثم الشكل الحكمي ..فان المسيحية التي سادت القرون الوسطى قد عملت على دمج شكلين آخرين هما الشكل الصريح الصادق الحر والشكل النبوي المرتبط بقول الحقيقة التي تهم مصير الناس ومستقبلهم أي ما ينتظرهم بعد الموت ….وهي أمور يمكن معاينتها داخل أشكال خطابية متنوعة ومؤسسات تبشيرية …أقصد هنا المبشرين الدومينيكان والفرنسيسكان في القرون الوسطى ، هؤلاء الدين لعبوا دورا تاريخيا في التذكير بالموت المنتظر وبيوم الحساب من خلال تذكير الناس وبكل وضوح بأخطائهم وذنوبهم وكيف ولمادا يلزمهم تغيير سلوكهم بهدف الخلاص… من جهة أخرى نتعرف أيضا على المؤسسة الجامعية التي عملت في تلك الآونة على دمج شكلين للحقيقة هما الشكل التقني المرتبط بالتعليم ونقل المعرفة والشكل الحكمي المرتبط بقول ما يهم الوجود الإنساني ، كينونة الأشياء وطبيعتها ….
الصراحة الصادقة الحرة و الحداثة
@ نستطيع القول ادن كافتراضات أو كمعطيات منسجمة بأن نظام الحقيقة النبوي مازال حاضرا داخل خطابات سياسية ثورية حيث يتحدث السياسي بلسان الآخر ليقول مستقبل الكائن، أي ما يرتبط بمصيره الإنساني …أما الشكل التربوي التقني لقول الحقيقة فينتظم أكثر حول العلم أو لنقل انه مركب من مجموعة من المؤسسات العلمية المهتمة بالبحث و التدريس… أما الشكل الصريح فرغم انه انمحى فقد ترك آثارا واضحة نجدها موزعة بين الأشكال الثلاثة الأخرى لقول الحقيقة: وهكذا فالخطاب الثوري عندما يلعب دور نقد المجتمع السائد فانه يلعب دور الصريح الصادق الحر…أما الخطاب الفلسفي فعندما ينظر إليه كتحليل و تأمل حول المصير الإنساني ونقد كل ما يمكن أن يهم، داخل نظام المعرفة والأخلاق، دلك المصير فانه يأخذ دور الصريح الصادق الحر ….أما الخطاب العلمي فعندما يلعب دور نقد الأفكار المسبقة والمعارف السائدة والمؤسسات المهيمنة وطرائق الاشتغال …فانه يلعب دور الصريح الصادق الحر….
الإحالات المرتبطة بالدروس: وهي إحالات مستوحاة من كتاب (تأويلية الذات أو هيرمانوتيقا الذات )
استهدف فوكو في هذا الكتاب الوقوف بشكل مفصل ،منهجيا وتاريخيا ، على الدور الذي لعبه مبدأ الانهمام بالذات بدءا بالثقافة اليونانية و الرومانية مرورا بالفترة المسيحية وانتهاء بالعصر الحديث…إن القيمة المهمة التي ميزت هذا المبدأ في القديم جعلت منه منطلقا للدراسة مكنت فوكو من الوقوف ، من جهة ،على نوع التقنيات والإجراءات و القصديات التاريخية التي من خلالها تتشكل الذات في علاقتها بذاتها وبالآخر… كما مكنته ، من جهة أخرى ، من إعادة صياغة السؤال السياسي على اعتبار أن الصراعات الحالية لم تكن فقط صراعات ضد الهيمنة السياسية و الاستغلال الاقتصادي ولكنها أيضا صراعات ضد إخضاع الذوات والهويات …لا يبحث فوكو في قراءته لسينيك ومارك اوريل و ابيقور و افلاطون … عما يمكن من مجاوزتهم بل عما يساعد على إعادة التفكير في السياسي…….ضمن مسار البحث في التقنيات التي ارتبطت بتكوين الذات وتشكلها يتوقف فوكو مع الصراحة الصادقة الحرة……يقول فوكو في درس الأربعاء 10 مارس 1982 :
( أوضحت في الدرس السابق كيف أن التصوف بالمعنى الذي يقدمه الفلاسفة الإغريق والرومان كانت له وظيفة أساسية وهي إقامة رابط قوي بين الذات والحقيقة يسمح للمتصوف عندما يصل شكله المكتمل أن يصبح مالكا لخطاب الحقيقة قادرا على توظيفها لحظة الحاجة …يعمل التصوف على تكوين الذات كذات تصدر عنها الحقيقة . يرتبط هدا النظر بضرورة توافر مجموعة من التقنيات والطرق والقواعد الأخلاقية المرتبطة بالتواصل وبنقل خطاب الحقيقة بين مالكها ومستقبلها .في مقدمة دلك مسالة الصمت والإنصات بما هما تقنية وأخلاق ايتيك … وهنا نصادف قضية الصراحة الصادقة الحرة. يبدو لي أن الصراحة الصادقة الحرة تحيل في نفس الوقت إلى خاصية ووضعية أخلاقية كما ترتبط بما هو تقني . الصراحة الصادقة الحرة هي قول كل شيء هي الصراحة الحرة، الانفتاح…. اللذين يجعلان ما نقوله وكما نريد قوله وعندما نود قوله بأن نقوله داخل الشكل الذي نعتقد انه يلائمه . إنها مرتبطة أيضا بالاختيار بالقرار بوضعية من يقول ، وقد ترجمها اللاتينيون بالحرية وتمت ترجمتها بعبارة صراحة القول….) التي يراها فوكو مناسبة .
من جهة أخرى يعمل فوكو على بيان معارضة الصراحة الصادقة الحرة لشكلين آخرين من القول : الاول أخلاقي تعارضه مباشرة وعليها مقاومته انه التملق الخداع ، والثاني تقني وهو البلاغة . يمكن القول بان هدين الخصمين هما في العمق مرتبطين ببعضهما بحيث أن الأساس الأخلاقي للبلاغة هو التملق الخداع كما أن الوسيلة المميزة للتملق و الخداع هي بالضرورة تقنيات وحيل البلاغة . في الكثير من النصوص اليونانية نجد ارتباطا بين التملق والخداع والغضب. الغضب طبعا هو نزق عنفي غير مراقب من شخص اتجاه آخر. يتخد في الغالب شكل فائض في السلطة سواء بالنسبة لرب الأسرة إزاء زوجته وأطفاله ، أو بالنسبة للأمير إزاء الذوات . والقاعدة اليونانية تقول إن التحكم في الذات هو المبدأ الأول المؤدي إلى التحكم في البيت فالمدينة …ومن هنا تطرح مسألة تربية الأمير بحيث تصبح ممارسة السلطة وظيفة محددة لها قواعدها . ايتيك الغضب هو طريقة للتمييز بين الاستعمال المشروع للسلطة وخرق تلك المشروعية . وهكذا فادا كان الغضب هو استعمال فائض السلطة من قبل الرئيس إزاء المرؤوس فان التملق الخداع ينطلق من الأسفل ، طريقة في استمالة ومحاباة الرئيس بهدف الاستفادة من عطفه وأفضاله. الوسيلة التقنية الوحيدة للحصول على تلك الأفضال هي اللغة التي توظف بشكل يجعل الرئيس يعتقد بأنه الأقوى والأغنى والأحسن …المتملق الخادع بهدا المعنى هو الذي يمنع الذات من التعرف على ذاتها كما هي . الصراحة الصادقة الحرة هي مضادة للتملق الخادع دلك أن الهدف منها هي أن تسمح للآخر بان يكون ذاته بشكل مستقل ، تلقائي…تمكنه من الاستغناء عن خطاب الآخر.أما الشكل الثاني الذي تعارضه الصراحة الصادقة الحرة فهو البلاغة .البلاغة كما نعلم هي مجموعة تقنيات وطرائق هدفها ليس إقامة حقيقة معينة، وإنما هي فن الإقناع بأشياء حتى ولو كانت غير حقيقية وهي بدلك مضادة للفلسفة. إنها أيضا إيصال الحقيقة بشكل عار. الأمر الثاني هو أن البلاغة كما تعلمون هي فن منظم له قواعده التي تعلم … بعكس الصراحة الصادقة الحرة التي ليست فنا، لا تحدد بالمضمون، إنها ممارسة خاصة لخطاب الحقيقة، قواعد احتياط وفطنة ترتبط بكيفية قول الحقيقة وزمن إلقاءها…إن ما يحددها هو الظرف والمناسبة الملائمة لقول الحقيقة. إنها قضية شكل بالأساس. الشيء الثالث الذي تختلف فيه البلاغة عن الصراحة الصادقة الحرة هو أن الهدف في الأولى هو التأثير على الآخرين بهدف إخضاعهم ، أما في الثانية فان الهدف هو دفعهم إلى تكوين دواتهم بأنفسهم دون أن تكون للمعلم الصادق الحر أهداف أخرى خاصة به ….
سأحاول أن أعلق على الدروس بصياغة بعض الأسئلة هدفها البحث ، في إطار مقارن، عن خصوصية التجربة العربية الإسلامية على مستوى إنتاج الحقيقة وتداولها ضمن ما يسمى بلعبة الحقيقة…ما هي أشكال قول الحقيقة السائدة والمهيمنة على التجربة العربية؟ .ماهي الآليات والتقنيات المثولية التي تحكمها وتضمن سيرورتها ؟ ما هي العلاقة الممكنة بينها وبين الأشكال التي يقدمها فوكو قارئا التجربة الغربية بشكل موسع ؟
يمكن القول انطلاقا من مشروع الإستاد الجابري وبخاصة مؤلفيه ( العقل السياسي والعقل الأخلاقي ) بان التجربة العربية الإسلامية على مستوى أشكال قول الحقيقة قد هيمن عليها نوعان هما : الشكل التقني والشكل التصوفي.
1 _ قول الحقيقة لدى التقني كشكل منافس لقول الحقيقة لدى الفيلسوف : يتعلق الأمر هنا بالكاتب والمترجم والمؤدب والمستشار… عمل الاستاذ الجابري ، في رصده لنظم القيم في الثقافة العربية كمسلك منهجي لدراسة العقل الأخلاقي ، على صياغة إطار تاريخي للفكر الأخلاقي في الثقافة العربية انطلاقا مما اسماه " بأزمة القيم " والتي بمقتضاها طرح السؤالين التالين وهما : السؤال الأول مرتبط بالتجربة السياسية الأخلاقية للدولة الأموية وهو كيف " حدث" أن شهد العصر الأموي بداية التأليف في " القيم والأخلاق " من داخل الموروث الفارسي ، وهو العصر الذي كان عربيا خالصا، بل العصر الذي ساد فيه التعصب إلى للعرب وثقافتهم : ثقافة الخطابة والشعر؟؟. أما السؤال الثاني فارتبط بالتجربة السياسية الأخلاقية للدولة العباسية وهو : كيف حدث أن تحولت الدولة العربية ، زمن الأمويين ،من دولة مطبوعة بالطابع القبلي في سياستها ونظام القيم السائد فيها ، خالية أو تكاد من الطابع الديني ، إلى دولة توظف الدين من اجل تبرير قيمها واثبات شرعيتها وتوطيد وحدتها وضمان استمراريتها ، زمن العباسيين ؟؟…لا يتعلق الأمر فقط بتحديد نقطة البداية وإنما بتحديد مسار اشتغال وتوظيف لقيم معينة ستتكرس في الثقافة العربية ودلك في تعارض وتقابل مع مرجعيات أخرى حضرت بهذا الشكل أو ذاك في الثقافة العربية ( الإسلامية ، العربية الخالصة، اليونانية )…
يتعلق الأمر، في التجربتين السياسيتين الأموية والعباسية ، بتحديد المسوغات السياسية لانتقال و حضور وانتشار قيمة الطاعة، ذات الأصل الفارسي ، في الممارسات السياسية الأخلاقية العربية بشكل جعلها القيمة المهيمنة على الثقافة العربية بما هي ممارسات وبما هي خطابات أيضا …الأمر الذي يضعنا أمام صيغة جديدة لقول الحقيقة مرتبطة بالتقني الذي يمثله الكاتب والمترجم والمؤدب والمستشار ….وهنا نقف على شخصيتين مشهورتين في الثقافة العربية هما ( عبد الحميد الكاتب وابن المقفع ): يعتبر عبد الحميد بن يحي بن سعيد ( المؤسس الفعلي لخطاب الترسل ( …) كان ، في الأصل ، معلم صبيان أي مؤدبا لأبناء كبراء ووجهاء الدولة) … أما ابن المقفع فكان كاتبا ومترجما من فئة الخاصة (أي صحابة السلطان وهم وزراءه وكتابه ورجال حاشيته ).لقد لعبت طبقة الكتاب في عهد الدولة الأموية دورا كبيرا في تدبير الفعل السياسي على مستوى الإيديولوجية…( بهم ينتظم الملك وتستقيم للملوك أمورهم وبتدبيرهم وسياستهم يصلح الله سلطانهم )…..
ارتبطت وظائف الكتاب في عهد الدولة الأموية بتكريس قيم معينة واداعتها بطرق مختلف ولكنها متكاملة الهدف منها هو ترسيخ وترويج مجموعة من القيم الفارسية التي تمجد الطاعة …في رسالة عبد الحميد إلى زملاءه الكتاب في المهنة وبعد أن يحيط المؤلف بآداب السلطان ،في حاشيته واستقبالاته وحركاته وسكناته بين خاصته داخل القصر ،ينتقل إلى ما يجب أن يكون عليه موقفه من العامة والخاصة عموما …. يتعلق الأمر أساسا بكيفية سياسة العامة وتأديبها بحيث تكون المحصلة هي طاعتها العمياء لأولي الأمر ضمن آليات وإجراءات ترتبط بتقويم السلوك…وهدا هو المقصود بمفهوم الأدب في العصر الأموي الذي يجد أصله في الموروث الفارسي… طبقة الكتاب الجديدة هي فاعلية إيديولوجية غير مسبوقة في الممارسة السياسية السابقة. أما ابن المقفع فقد تميز بكتابه ( كليلة ودمنة ) الذي مثل حسب الجابري ( المرجع الأول في تكوين العقل الأخلاقي العربي ) بل إن هذا الكتاب الذي جمع بين أدب اللسان وأدب النفس كان بالفعل أول كتاب مدرسي في الثقافة العربية الحديثة ترسخت من خلاله ، عقلا ووجدانا ، مجموعة من القيم الكسروية المرتبطة بالطاعة والخضوع والترويج لها….كما تميز من جهة أخرى ( بدور الخبير للدولة الجديدة ، دور المفتي في شؤون الإدارة والحكم بحيث أن مذكرته المعنونة ب ( رسالة الصحابة ) ،( والصحابة هنا هم صحابة السلطان باعتبارهم شركاء في الرأي والتدبير….)، هي بمثابة تقرير توجيهي في السياسة والأخلاق وجهه لأبي جعفر المنصور… إن رسالة الصحابة دعوة صريحة إلى تنظيم الدولة على أساس القيم الكسروية …).
ما هي الآليات المعتمدة ؟
يتعلق الأمر بكتب الأدب التي تضم ( الخطابة والرسائل والآداب السلطانية).. . إن ما ميز هذه الأشكال من الأدب هو الطرق و الآليات المعتمدة في نشر قيم معينة ، فضلا عن القيم التي تكرسها …الأمر الذي يعني أنها كانت موجهة لتأديب اللسان والنفس ( أي تهذيب الأخلاق)… لقد كانت وسيلة الكتاب في ذلك هي:
_ البلاغة : ارتبطت البلاغة ، كتقنية لغوية، بالصنعة والتكلف من خلالها ( تتم صياغة أمر الخليفة في نص بلاغي ترصف فيه الجمل والعبارات رصفا ، وتتزاحم فيه الاستشهادات بالقران والحديث وغيرهما من الموروث العربي والإسلامي في قالب بل قوالب لغوية يراد لها أن تقوم مقام التبرير الديني والبرهان العقلي ) ….لقد شكلت البلاغة في خطاب الترسل قيمة في ذاتها بما تمارسه من سلطة على المتلقي فتحمله على الاستسلام ، لاشعوريا ، لما تقرره من قيم وقناعات …ليس هذا وحسب ذلك أنها بفعل آليات التكرار و الترادف وضمنه أسلوب السجع …إنما تعمل على ترسيخ قيم نمطية ( تفرض نفسها على المجتمع "كعادات أخلاقية " في منأى عن كل نقد ) …..ومما هو جدير بالإشارة هو أن خطاب الترسل لم يعمل فقط على نشر وتكريس الطاعة باعتبارها أول قيمة سياسية دينية في الثقافة العربية وما يرتبط بها دلاليا من هدوء واستسلام وخضوع …بل كرس عددا من السلوكيات الأخلاقية السلبية مثل التملق والخداع والتحايل والتآمر… ليس هذا وحسب ذلك أن عددا من النصوص العربية أو التي أدمجتها الثقافة العربية في صلبها مما له أصول فارسية ….قد تحولت إلى نصوص نمطية ليس فقط في جانبها الرسمي الخاص بالرسائل وإنما في تعلم الأدب بدلالتيه البلاغية والأخلاقية…..هكذا شكلت رسائل عبد الحميد نموذجا في الكتابة يكرس قيما سلطانية تتكرر عبر العصور والأجيال …كما شكلت كتب ابن المقفع، وبخاصة كليلة ودمنة ، ( مرجعا خالدا يرجع إليه متعلمو العربية والمولعون بالحكم ..على مر العصور…)
كان ابن المقفع صديقا حميما لعبد الحميد الكاتب ، تجمعهما المهنة والمحنة ،كما كانا صاحبي مشروع واحد . مشروع نقل القيم الكسروية إلى الحضارة العربية الإسلامية ، قيم الطاعة والاستبداد مع فارق واضح وهو أن عبد الحميد كان كاتبا للدولة الأموية ، كان يراها تنزلق بسرعة نحو السقوط فكان طبيعيا أن يهتم بالأدبيات السياسية التي تتحدث عن الدولة وعوامل قوتها ومكامن ضعفها …فوجد دلك جاهزا في الموروث الفارسي فنقل منه ما هي محتاجة إليه وهو طاعة الرعية متخدا من الترسل سلاحا للبرهان والإقناع …أما مع ابن المقفع فكان يرى الدولة العباسية قادمة فانصرف هو الآخر إلى الأدبيات الفارسية ليس بهدف أن يستوحي شروط الانقاد بل ليقدمها كايدولوجيا متكاملة للدولة الجديدة على أن تصبح الوسيلة هي الكتاب بدل الترسل…( إن ابن المقفع ، و من قبله عبد الحميد ، كان المشرع للدولة الكسروية في بلاد الإسلام ، وهي الدولة التي مازالت قائمة فيها إلى اليوم باسم دين الإسلام في الغالب) ………………………………………….
2 _ قول الحقيقة لدى المتصوف كشكل منافس لقول لحقيقة لدى النبي؟ . يتعلق الأمر هنا بالشيخ أو الولي أو الإمام أو المرشد…يؤكد الجابري أن التصوف رغم انه بدأ كموقف فردي ( فانه سرعان ما تطور إلى ظاهرة جماعية شيخ ومريدون ، رئيس وأتباع وبمعنى أوسع الارتباط بشيخ واحد والالتزام بسلوك واحد وهدف واحد، يجعل من الجماعة الطائفة كيانا واحدا تنسجه علاقة خاصة هي ما يسمونه بآداب الصحبة (…) إن إلحاح الهجويري على أهمية الصحبة وكونها فريضة ، في نظر المشايخ والمريدين معا يشير إلى انه كان يفكر في التصوف وأخلاقياته لا كمجرد نوع خاص من العلاقة بين الله والإنسان بل كإطار للتكوين: تكوين جماعة من المريدين أي طوائف لكل منها شيخ…) . تتحدد العلاقة التي تربط الشيخ بالمريد بكونها علاقة ضرورة وخضوع : فالشيخ ضروري للمريد ليس فقط كمرشد ومعلم بل أيضا كقائد تجب طاعته بشكل مطلق ، طاعة ظاهرة بالجوارح وطاعة باطنة بالقلب……
ما هي خصائص آداب أو حق الصحبة الذي هو بمثابة قانون داخلي منظم للطائفة ؟؟
+ هناك اولا الطاعة العمياء : على المريد أن لا يسافر إلا بإذن الشيخ .وان يتجنب مخالفته في شيء كان، بل عليه أن لا يخالف أحدا من أصحابه ( وادا نحن أردنا أن نلخص علاقة الشيخ بالمريد في كلمة واحدة وجب القول :إنها الفناء ،فناء المريد في الشيخ).
+هناك ثانيا الخضوع لسلطة الشيخ : ادا قبل المريد في الجماعة خضع لسلطة الشيخ المطلقة حيث المريدون هم بمثابة خدم يقضون فراغهم في الخدمة المنزلية من طبخ وغسيل …كما يقدمون الطعام للجماعة وخاصة للشيخ …مع الإبقاء على الكلفة التي تفصل بين المريدين والشيوخ في الأكل و النوم …ويلخص بلاسيوس هده السلطة بقوله ( انه ادا سافر الشيخ كان على ا على المريدين أن يذهبوا يوميا إلى خلوته ليحيوها كما لو كان حاضرا.) … ومن الشيخ والمريد ننتقل إلى الولاية والإمامة العظمى في الدولة الصوفية التي تحكمها هي الأخرى العلاقة السلطوية المكرسة من قبل الشيعة بجميع طوائفها والتي عملت على إلباس القيم الكسروية لباسا إسلاميا بهده الدرجة أو تلك. فاستنادا إلى بعض الأحاديث النبوية التي وردت فيها كلمة الولي..يعلق الهجويري بان المراد( هو أن تعرف أن لله عز وجل أولياء قد خصهم بمحبته وولايته وهم ولاة ملكه الدين اصطفاهم وجعلهم آية إظهار فعله وخصهم بأنواع الكرامات وطهرهم من آفات الطبع وخلصهم من متابعة النفس …) . على انه تجب الإشارة إلى انه ادا كان برهان الأنبياء هو المعجزات فان برهان الأولياء هو الكرامات ، وبالتالي فان الولاية هي استمرار للنبوة كوحي ، كما أن الكرامة استمرار للنبوة كمعجزة…
ما الذي يمكن أن نستخلصه من هذين الشكلين من قول الحقيقة بالمقارنة مع الأشكال الأخرى ؟؟.
يمكن القول بأنهما معا:
+ بالرغم من مرجعيتهما الفارسية و شمال الجزيرة العربية بسوريا والعراق …ومن تعارضهما مع التجربة السياسية والأخلاقية العربية قبيل انهيار الدولة الأموية… فإنهما مع دلك يحضران بقوة داخلها هده تنظيرا وممارسة…
+ أنهما معا يكرسان أخلاقيا قيم الطاعة التامة والخضوع الدائم للشيخ أو الأمير. فضلا عن أخلاقيات الفناء بدل الحياة …
+ أنهما معا يكرسان معرفيا ما اسماه الجابري بدقة بالعقل المستقيل وبولادة ملوك الآخرة .وبالمعرفة الخاصة المنتجة للحقيقة الفردانية التي لاتهم سوى صاحبها. أما النمط الخطابي الذي تؤسسه فمبني على الغموض والالتباس والتأويلات البعيدة …أو على الدفع بالآليات البيانية لتقوم مقام البرهان العقلي .( مثلت البلاغة في الثقافة العربية مع ابن المقفع البديل السلبي للإقناع عن طريق المنطق والجدل…)
+ أنهما معا لا يؤسسان سياسيا لفكر وممارسة سياسية تهم المجتمع ككل وتطرح قضايا تنويرية قادرة على إنتاج آراء جديدة ، دلك أن كل ما تم إنتاجه هنا من أدب للسان وآخر للنفس ثم الآداب السلطانية وميتولوجيا الإمامة… هي معطيات تهم السلطان وكيفية تدبيره للسياسي، فيما يحفظ هيبته ومكانته ونظام حكمه. وبعبارة أخرى فإنهما معا مغلقان يصعب مجاوزتهما بسبب منظومتهما السياسية المركبة من جهة ثم بسبب التأويلات الدينية التي ألبست للقيم السلبية التي يكرسونها .فهم يستندون إلى السلطة الدينية لتبرير ما هو سياسي . + أنهما معا يشتغلان كممارسة مازالت حاضرة في التجربة العربية المعاصرة …..إما بنفس الآليات التقليدية أو عبر إلباسها لبوسا جديدا يلائم الوضع المعاصر…
+ أنهما معا يقفان كمناقضين لشكلين آخرين متقاربين لقول الحقيقة وهما الشكل الحكمي والشكل الفلسفي المرتبط بالصراحة الصادقة الحرة …وهم شكلان حاضران بقوة في الثرات اليوناني الروماني…دون أن نجد لهما موقعا فاعلا ومؤثرا داخل التجربة الحضارية العربية سواء على مستوى السياسة ( لنقارن ما أنتجه أفلاطون وأرسطو بالمقارنة مع الآداب السلطانية وفقه السياسة ) أو المعرفة( لنقارن اثر العلوم والفلسفة على التجربة اليونانية بغياب دلك الأثر بالنسبة للعلوم العربية التي ازدهرت بخاصة في الأندلس) أو الأخلاق( لنقارن أخلاق السعادة بأخلاق الفناء).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.