يحيي فضل الله [email protected] تداعيات فناء المدرسة الشرقية الابتدائية يتناثر فيه تلاميذ الصف السادس، عم (تاور) انتهى من مهمته اليومية، رش الباحة التي أمام الفصول مستمتعاً بحركة يده مع خرطوش الماء، داعبت رائحة ذلك التمازج بين الماء والأرض أحاسيس التلاميذ. شجرة النيم الضخمة أمام مكاتب المدرسين تحمل منذ زمن بعيد تلك الدائرة الضخمة الحديدية باعتبارها جرس المدرسة ، تجمعات تلاميذ الصف السادس تمارس حيويتها من خلال ذلك النشاط المتمرد المتنوع. حلقة(دافوري) صغيرة لكنها تثير من الغبار ما فيه الكفاية، لعبة (الرنق) تجمع حولها أكثر التلاميذ بين لاعب ومتفرج، صيحات تعلن عن ذلك الانتصار الذي تتمتع به لعبة (القرقور)، ثمرة أشجار النيم يستفاد من لونها الأصفر والأخضر لتكون علامات تتحرك في تلك الحفر التسع التي تشكل على الأرض بأصابع التلاميذ كي يلعبون (صفرجت). (حسن تعريفة) يتجول بين التلاميذ حاملاً تلك الورقة المرعبة ، ورقة الديون الصغيرة ، حس تجاري مبكر هو ذلك الذي دفع هذا التلميذ النشيط (حسن تعريفة) كي يستطيع ان يبيع ثلاثة أكياس حلوى (حلاوة دربس) في اليوم داخل فناء المدرسة، بعدها يعرف كيف يطارد اولئك الهاربين من تسديد الديون، ولكن تلك الورقة تستطيع محاصرتهم، سرقت منه مرة هذه الورقة لكنه استطاع بعقلية تاجر مجرب ان يعيد تلك الأسماء الى ورقة أخرى، كتبها من ذاكرته، وحين قارن اولئك الذين سرقوا الورقة الأولى بينها وبين تلك التي حاصرتها ذاكرته لم يجدوا أي فرق بين الورقتين ، الغريب في الأمر ان (حسن تعريفة) دائماً ما يتعبه مدرس الحساب. في حديقة المدرسة ،في الحقيقة هي جنينة المدرسة ،تعايشت فيها أشجار الجوافة والليمون والمنقة والقشطة، هناك كان يتقافز التلاميذ بين أغصان أشجار الجوافة مستدعين (طرزان) من غاباته ، مقلدين صرخته الداوية، بعضهم يمارس ذلك التأمل الطفولي وهم مأسورين بكرنفال عودة الطيور والعصافير الى أعشاشها ، كم هم مشاكسون أولئك التلاميذ الذين يمتلكون (النبل)، إنتهازيون يستغلون هذا الكرنفال الحتمي لتقذف تلك النبال بحجارتها مقلقة هجعة طيور وعصافير الجنينة، غالباً ما يجتمع اولئك المتخفون من العيون، يختبئون هناك في البعيد، في احد أركان الجنينة النائية يسفون (التمباك)، بعضهم يدخن سجائر (أبو قندول)؛ تلك العلبة الصغيرة الزاهية بلونها الأحمر وقندولها المرسوم بعناية، يختارون الجنينة مكاناً لهذه الممارسة، لا لأنهم يحبون الخضرة والجو الرايق المزاج، ولكن لأن أوراق شجرة الليمون حين تلوكها أفواههم الملوثة برائحة الدخان سرعان ما تختفي تلك الرائحة التي تدل على الجريمة، كم غريب ذلك العالم السري الذي يصنعه التلاميذ، عالم محكم التفاصيل، عالم في حالاته المتلمسة نحو تكون الضمير، تجارب حقيقة تحاول ان تتمرد على أي واعز، على أي قانون، رغبة جانحة لممارسة تلك الانتهاكات الصغيرة ، طموحات لا تتقيد بالممنوعات. عم (تاور) يتحرك نحو الجرس حاملاً تلك المطرقة الحديدية بينما التلاميذ يهرولون نحو الأزيار والمواسير، أخرجت الكنبات بأدراجها، المذاكرة في الصيف دائماً ما تكون خارج الفصول، في حوش المدرسة، علقت الرتاين على تلك الأعمدة الخشبية التي قدر لها ان تتحمل هذا العبء، ضرب الجرس، وقف استاذ (عابدين) خارج المكتب يراقب انتظام التلاميذ، جلس كل تلميذ في مكانه، ضبط (هاشم آدم) متأخراً، سرح في الجنينة ولم يسمع الجرس، صوت (الألفة) وهو يمارس ذلك الصراخ بأسماء التلاميذ للتأكد من الحضور والغياب يختلط بضربات السوط على جسد (هاشم) سيئ الحظ ، همسات التلاميذ بين المتشفية والخائفة من نفس المصير تعلو، لكن (الألفة) يقمعها، السوط يفرقع و(هاشم) يصرخ.. ( أوعك تاني تكرر العملية دي.. سامع؟ ) استاذ (عابدين) يحذر بصوته الجهوري، هو وكيل المدرسة ، لا يشاهد ابداً داخل الفصول، توقف منذ زمن عن ممارسة التدريس، تحول الى إداري المدرسة، حازماً في الضبط والربط، يشكو منه المدرسون قبل التلاميذ ولا يسمح مطلقاً بأي إختلال في نظام المدرسة من بداية طابور الصباح حتى المذاكرة ، يبدو انه بحزمه هذا يحاول ان يتغلب على ما حدث قبل ثلاثة أعوام حين كان يدرس الفصل الأول، اولئك الأطفال الخارجون عن أي تحكم، طفولة تلقائية ومتداعبة في القول والفعل، كان الأستاذ (عابدين) يحاول ان يشرح لهؤلاء الأطفال الفعل (هرب. (هاء هرب)، يردد الأطفال (هاء هرب) ، لماذا خيل اليه ان هؤلاء الأطفال المساكين لم يفهموا كلمة (هرب) شرحها مرة، مرتين، ثلاثاً ، لكن لم يقتنع بما فعل، تمادى في ذلك الإصرار الذي يتمتع به المدرسون ،جرى داخل الفصل، الأطفال يكتمون ضحكتهم ، جرى مرة أخرى وهو يقول (هاء هرب)، ويردد الأطفال ذلك ممزوجاً بالضحك (هاء هرب ، هاء هرب)، إزداد الضحك، قفز من الشباك، قفز وراءه كل الفصل، يركض حول المدرسة صارخاً (هاء هرب) ، تحولت المسألة إلى لعبة ممتعة لدى الأطفال، يركضون خلفه ويهتفون وراءه (هاء هرب) ، دار هذا الموكب حول المدرسة، إنطلق الإستاذ (عابدين) بأطفاله الحميمين في الشوارع، دخل الموكب السوق، طاف بالأحياء والحلال، يركض وهو يردد (هاء هرب) ويردد معه بنفس الحماس اولئك الأطفال المتلاعبون. ضرب الناظر نافون الى مكتب التعليم، تحركت عربة من المكتب تبحث عن الاستاذ (عابدين) وأطفال الفصل الأول الابتدائي ، بحثت العربة كثيراً وأخيراً وجد وفد مكتب التعليم الاستاذ (عابدين) في حي (الدرجة الرابعة) الذي يبعد من المدرسة مسافة لا يستهان بها، بعد تعب شديد تمكن الوفد من التحكم في هذا الموكب المنطلق الي حيث لا نهاية ، مهدوداً ومقترباً من الإغماء صعد الاستاذ (عابدين) على العربة بينما اطفال الصف الأول الابتدائي فرحين جداً بركوبهم العربة ، احد الأطفال مارس خبثه الطفولي حين صرخ والعربة تمر بالسوق (هاء هرب) ، رددها البقية إلا ان زمجرة قوية اسكتتهم. منذ تلك الحادثة توقف الاستاذ (عابدين) عن ممارسة التدريس ليتحول الى هذا الإداري الحازم. (يا ولد) ينادي استاذ (عابدين)، يهرول عدد من التلاميذ نحوه في سباق حميم. (عايز واحد بس) (نعم يا استاذ) (خلي الألفة يجيب ورقة الحضور والغياب). في مكانه تحت شجرة النيم المعلق عليها جرس المدرسة يجلس دائماً، من هذا المكان يتابع كل الأمور، جلوسه تحت هذه الشجرة بالتحديد ليس اختياراً حراً، ولكنه اختيار جبري لأن احد التلاميذ اراد ان يدعم هروبه من المذاكرة بسبب منطقي فكان ان تسلل الى هذه الشجرة وضرب الجرس معلناً نهاية فترة المذاكرة قبل نهايتها المعلومة وخرج اثرها التلاميذ وكأن الأمر متفق عليه ، اذن لا بد من الإحتياط لمثل هذه الأفعال الخارقة والتصدي لها ، (النظام أساس كل شيئ) هكذا يردد الاستاذ (عابدين) ذلك بقناعة متناهية ولكن. بينما كان الاستاذ (عابدين) يعاقب اولئك (الرجاجين) وقف (محمود) مترنحاً ووقع على الأرض مغمي عليه، إنتهز التلاميذ هذه الفرصة وكسروا ذلك الصمت القانوني، تحرك (عثمان) و(محجوب) نحوه بهمة عالية رفعه من الأرض ، وضع (محجوب) يد (محمود) اليمني على كتفه بينما وضع (عثمان) اليسرى أيضاً على كتفه، تبرع احدهم برشه بماء من الزير، جرجر (محجوب) و(عثمان) (محمود) متجهين نحو الخارج ، الى المستشفى، عند بوابة الخروج أوقفهم صوت استاذ (عابدين) العالي النبرة: (تعالوا هنا ، زريبة هي؟ ،على وين؟) جاء (محجوب) مهرولاً نحوه وبكل تلقائية قائلاً: (يا أستاذ، محمود وقع غمران ومودينو المستشفى). (ادخل المكتب ده وجيب دفتر المستشفى). سجل اسم (محمود) مثلثاً على دفتر المستشفى وحمل (محجوب) الدفتر، وخرج ومعه (عثمان) يجرجران (محمود) الذي حافظ على أنينه وعندما تجاوزوا المدرسة بمسافة لا تتيح الملاحظة والمراقبة تخلى (محمود) عن إعيائه المفتعل وقال قلقاً: (دي ورطة ، نعمل شنو في حكاية الدفتر دي؟) (يا اخوانا حنفوت المناظر بالطريقة دي). قالها (محجوب) متلهفاً: (يا اخوانا نحن نمشي المستشفى، بس يا محمود انت لازم تكون عيان).. (عثمان) دائماً يدبر الخطط، وهذه الخطة من تدبيره، لكن دفتر المستشفى لم يكن في الحسبان، كانت الفكرة ان يقع (محمود) على الأرض وأن يتحرك (عثمان) و(محجوب) به نحو المستشفى في محاولة للهروب من المذاكرة الى حيث تلك المتعة التي توفرها السينما وخاصة ان الفيلم لا يمكن ان يهمل (سانتو ذو القناع الفضي). وقف ثلاثتهم برهة أمام باب المستشفى يدعمون (محمود) بعدد من الوصايا، لبس (محمود) تلك الحالة المفتعلة، أرخى جسده على كتفي (عثمان) و(محجوب)، دخل الثلاثة الى مكتب (الحكيم باشا) المناوب ،(سر الختم)، تجاوز الأربعين، وهو أحد ظرفاء المدينة ومن اهم مهرجيها، عادة ما يتحف دار الرياضة بتعليقاته الساخرة: (أيوه ، في إيه يا ابنائي؟) (محمود ده عيان شوية) رد (عثمان) (سلامتك يا بني ، اقعد بي جاي) جلس (محمود) في الكرسي ببطء مفتعل جداً (حاسي بي شنو يا محمود؟) (عندي حمى) ، بصوت يفتعل الأنين بينما التوتر يبدو على (محجوب) و(عثمان)، اخرج (سر الختم) مقياس الحرارة من الكوب الزجاجي الذي أمامه أدخله في فم (محمود)، أخرجه، نظر اليه بدقة، أدخله مرة أخرى، أخرجه ، تفحص الأرقام بعناية، نظر الى (محمود) قائلاً: ( مافي أي حمى يا ابني ) ( بس هي حمى جوه ) (محمود) يحاول ان يتماسك، ان يحافظ على إعيائه، بينما خرج (محجوب) من المكتب ، لحقه (عثمان) هامساً ( ده ما لقى غير الحمى دي؟) (يا ابني مافيش حاجة اسمها حمى جوه ، برضو بتظهر بالترمومتر) ( يمكن الترمومتر بايظ ) ( بايظ كيف يعني ؟) ( يعني ما احتمال) (انت يا ود بتتفلسف عليّ ولا شنو؟) ( لا ما بس.. أنا) لاحظ (سر الختم) ان (محمود) فقد حالة الإعياء ، بدا حيوياً، نسي انه مريض في غمرة محاولته اقناع (الحكيم باشا) الحصيف. ( انت ود مستهبل ) ( والله يا عم السر) (و المعاك ديل مستهبلين زيك والله كويس ، لكن على منو؟ ، نحن يا أولاد بنضرب السماء بوهيه ) وبإنتصار واضح على العيون تناول (سر الختم) الدفتر وكتب في الخط الموازي لاسم (محمود) المثلث بقلم (الكوبيا) بعد ان مسح به على لسانه بحركة حادة ، كتب بخط عريض وواضح هذه الكلمة (مستهبل). خرج المتآمرون الثلاثة من المستشفى يحملون تلك التهمة الخطيرة بدلاً من الهروب الى السينما ها هم يواجهون هذا الموقف الشائك والفاضح. (انت غبي يا محمود؟، ليه قلت ليهو حمى؟ ، ما تقول عندك اسهال، صداع ، أي حاجة ، ما لقيت غير الحمى دي؟!) (عثمان) ثائراً وقد احس بالتورط. (يا اخوانا هسه نعمل شنو؟ ، نودي الدفتر المدرسة ولا كيف؟) (محمود) بصوت خافت ومضطرب. (أصلو يا اخوانا البقت بقت ، مجلودين مجلودين فأحسن نمشي السينما وبكره يوم تاني) (محجوب) يقترح والبقية تنفذ الاقتراح. بدفترهم الذي يحمل في داخله إشهار الجريمة ، ذهبوا الى السينما ، لا يهم، فالفيلم إستطاع ان يبعد احاسيسهم الصغيرة والمتوترة عن كل تفاصيل المؤامرة؛ تلك المؤامرة المكشوفة. حين دخل (محجوب) البيت متلصصاً خوفاً من اسئلة الوالد يحمل دفتر الفضيحة وهو يحاول التسلل الى الداخل، ارتجف مخلوعا، سقطت تلك الفضيحة ودفترها على الأرض حين سمع ذلك الصوت الجهوري ، (جيب الدفتر دا وتعال هنا). كان الاستاذ (عابدين) مع والده، كان في انتظاره ، رفع (محجوب) الدفتر من الأرض ، لم يكن يتوقع ذلك، اقترب مرتعداً، ناوله الدفتر بيد مرتجفة بينما يحاول ان يتفادى نظرات والده الحادة ، الاستاذ(عابدين) يفتح الدفتر، يضئ بطاريته التي لا يتخلى عنها أبداً ، نظر الى تلك الكلمة الحادة والمكتوبة بعناية ، نظر نظرة حازمة في عيون (محجوب): (أمشي دلوكتي نادي عثمان ومحمود.. هسه سريع).