يحيي فضل الله [email protected] مشوار ( تاكسي ) داس (عثمان) على الفرامل بعد ان خرج من الشارع، نظر في المرآة عرف انه سيكون من أصحاب الحظ هذا الصباح. رجل تجاوز العقد الرابع يرتدي بدلة كاملة من الشامواه الأزرق وربطة عنق حمراء مخططة بالأزرق، وعناية فائقة بشعره ، اذ يبدو حالك السواد بسبب الصبغة. ( صباح الخير ) (صباح النور، إتفضل ) ( ممكن ، أم درمان؟ ) ( إتفضل ، أم درمان وين؟ ) ( سوق البروش لو سمحت ) جلس الرجل على المقعد الأمامي بجانب (عثمان)، أقفل الباب وتحرك التاكسي، اختلس (عثمان) نظرة فاحصة للرجل الذي تبدو عليه النعمة، وإبتسمت دواخله مؤكدة له ان هذا الصباح سيكون جميلاً ، المشوار الأول في هذا الصباح مع هذا الرجل الشخصية ، على الأقل، إنه لا يبدو من اولئك الركاب الذين يحتجون دوماً على ما يطلب منهم كثمن للمشوار، فتح (عثمان) أحد الأدراج ، إخرج شريط كاسيت ، نفضه من الغبار ، أدخله في جهاز التسجيل، بدأت موسيقى خفيفة تختلط مع صوت العربة ، تململ الرجل وأخرج زفرة من فمه:- ( لو سمحت ، أقفل المسجل ده ) ( حاضر ، بس قلت يعني تسمع ….. ) ( لا ، أنا شخصياً ما بحب الحاجات دي ) ( متأسف يا استاذ ) فعلاً، الناس مذاهب وأذواق، إنك لا تستطيع ان ترضي كل الناس ، حين ظهرت إجهزة التسجيل التي تركب داخل السيارات خاصة التاكسي ، كان ذلك بمثابة لعبة جميلة أدمنها الركاب ، مرة من المرات في تلك الأيام القديمة الضائعة وقف أحد السكارى على ذلك الشارع الذي يفصل بين الديوم والامتداد ، كان يشير بيده إلى كل عربة تاكسي تمر بالشارع وحين تقف العربة يقترب منها سائلاً السائق ( عندك مسجل؟ ) وحين يجيب السائق بالإيجاب يلاحقه بسؤال أهم:- ( جميل ، عندك محمد وردي؟ ) ( متأسف والله ، وردي ما معاي لكن في ابراهيم عوض ) ( وردي ما معاك؟ ، تركب الظلط طوالي ) حتى ولو كنت تحمل معك شريطاً لمحمد وردي يواجهك ذلك السكير صاحب المزاج المحدد بسؤال تفصيلي أكثر:- ( جميل ، الشريط ده فيهو أغنية عذبني وتناسى؟) ( أبداً فيهو جميلة ومستحيلة ) ( ما بنفع.. أركب الظلط ) حقاً انها تلك الأيام الضائعة ، ان يختار الراكب العربة التي يريد حسب نوع الاغنياتالتي يريد سماعها ، لذا كان على سائقي التاكسي عبء آخر وهو عبء متابعة المطربين والأغنيات التي لها رواج عند الناس. ( إتفضل ، سيجارة ) ( لا ، شكراً ما بدخن ) (انت مرتاح ، مرتاح خالص ) إشعل الرجل سيجارته يمتصها بتلذذ عميق، (عثمان) ينظر الى الرجل و يحس بفرح داخلي يغمره حتى اصابع رجليه، إنه عثر هذا الصباح على كنز، يبدو ذلك من نعومة الرجل والتفاصيل التي يتعامل بها مع السيجارة، لا بد ان عربته الخاصة قد تعطلت في مكان ما، أو يكون من ذلك النوع الذي إعتاد على ان يتحرك بسائق خاص للعربة، ذلك النوع الذي بسبب ثرائه يبتعد تماماً عن الإرهاق الذي قد تسببه قيادة سيارة. (لو سمحت دقيقة بس هنا ) نزل الرجل وإتجه الى المكتبة التي أمام مكاتب الحركة ، رجع يحمل في يده عدداً من المجلات والجرائد ، داس (عثمان) على البنزين وتحركت العربة، حين إقتربت العربة من المنحنى عند نهاية حديقة الحيوان قال الرجل:- ( لو سمحت أمشي بشارع السفارة المصرية ) غير (عثمان) إتجاه العربة سريعاً وكان لأوامر الرجل مغزى طيب عنده، إذ ان هذه الأوامر تشير الى مدى ثقة الرجل في جيبه وما عليه إلا ان يكون مطيعاً ، لا بد من احترام القدرة على العطاء، فكر (عثمان) ان بإمكانه ان يرتاح بعد هذا المشوار ، ويرتاح هذه معناها ان يرجع الى المكتب حيث يعمل يثرثر مع بعض الزملاء، يحكي بمتعة عن هذا المشوار المربح، عن هذا الرجل الهيبة، ويمكنه تماماً ان يتخلى تماماً عن فكرة إصطياد الركاب في فترة ما بعد الدوام، بل يمكنه الرجوع فوراً إلى المنزل والإستمتاع بقيلولة تجعل من فترة المساء والليل فترة ذات نشاط ممتد ومريح. حين تجاوزت العربة الصينية التي تقع في تقاطع الشارع الذي على جانبه الحدائق ،الصينية التي تنتصب عليها تلك الطائرة، أوقف الرجل العربة ونزل منها وتحرك الى تلك الصينية، وقف تحت الطائرة يتأملها بتمعن شديد مما جعل (عثمان) يفكر في ان هذا الرجل قد يكون مهندساً ، قد يكون احد المسؤولين الكبار عن الشوارع والطرق، وقف الرجل مدة ليست بالقصيرة ولكنها في حساب سائق التاكسي تعتبر مدة معتبرة تزيد تبعاً لها كمية النقود التي يجب ان تدفع، دار الرجل حول الطائرة من كل الجوانب ، تحرك من تحتها، إتخذ مسافة معقولة تجعله ينظر اليها في كليتها، بعدها رجع الى العربة فتح الباب وجلس ، أخرج سيجارة بينما تحركت العربة و(عثمان) يزداد قناعة بأهمية الرجل ، أشعل السيجارة وقال:- ( أنا ما عارف ليه نحن ما بنصر دائماً على ملامحنا ؟ ، ليه؟ ، يعني هسه الطائرة دي بتخصنا بي شنو؟ ، لا صنعناها ولا عملناها نحنا ، المناسبة شنو البتخلينا نعلقها في الصينية دي؟ ) ( ما يعني نوع من الزينة ) قال (عثمان) متهيباً ده كلام فارغ فارغ جداً، المفروض نحن نحتفي بالأشياء البتخصنا ، الحاجات المن صميم روحنا ، والحاجات البتعبر عن ملامحنا كشعب ، هسه مين عارف تاريخ الطائرة دي؟ ، هي من وين؟ ،منو المهندس الصمما؟ ،منو أول زول حلق بيها في الفضاء؟ ،منو الركب جزئياتها واحد واحد؟ ، نحن لو علقنا في مكانها قندول عيش بكون معناهو أعمق منها ، ده كلام فارغ ) (والله حكاية غريبة ) (عثمان) لا زال متهيباً ( دي مش حكاية غريبة وبس ، دي حكاية بتدل على إننا ناس ساكت ، بدون ملامح ، بدون مميزات ، نحن قاعدين نخجل من الأشياء البتميزنا عن باقي العالم ، هسه لو في مكان الطائرة دي تمثال بتاع طيره ، أي طيره مسكينة من البلد دي ، قول سمبرية ، لا السمبرية طائر مهاجر يجئ مع بدايات الخريف ، قول ود أبرق وعشوشة ، مش في ذمتك يكون احسن من الطائرة دي ؟ ، ياخي القمرية المسكينة دي معناها أقوى وأعمق من الطائرة دي ، ولا شنو يابن العم؟ ) ( كلامك صاح ) (عثمان) تأكد تماماً انه يتحدث مع مثقف أو قل استاذ جامعي. ((ما تقول لي كلامك صاح وتختصر المسألة ، ناقشني بي جدية ، ردك ده ما بحمل أي حميمية مع الموضوع المهم البطرح فيهو أنا هسه ، أنا بتكلم عن كيف نقدر نحتفي بملامح البلد ده ، نحتفي وبدون ما نخجل ، والله العظيم الطائرة المعلقة دي فضيحة ، فضيحة جمالية بحتة ، يعني ايه أعلق طائرة في صينية بتنظم حركة كم شارع في البلد دي ؟ ، يعني شنو؟ ، معناها شنو؟ ،لاحظ أنا قبيل بقول ما بتخصنا في شئ، دائماً الشعوب بتحتفي بعظمائها، بأشيائها العظيمة وتضعها في أماكن عامة في شكل تماثيل في شكل لوحات في أي شكل فني، ولكن نحن نعلق طائرة، طائرة لا صنعت هنا، لا بنعرف عنها حاجة ، ده نوع من الزيف ، ده تزييف للملامح ، و بعدين ….. ) ( يا أستاذ وصلنا سوق البروش ) (آه ، سوق البروش ) ( مش قلت داير تصل هنا؟ ) (أيوه تمام ، عندك فكرة عن الدلاليك؟ ) ( دلاليك؟! ) ( أيوه ، الحقيقة ، عايز أشتري دلوكة معتبرة ) ( جداً يا استاذ ، عندكم مناسبة ولا شنو؟ ) انت مالك؟ ، عندك فكرة عن الدلاليك؟ ) ( يعني.. ) (ممكن تختار معاي دلوكه؟ ) (جداً يا استاذ ) تبع (عثمان) الرجل الى داخل السوق ، أنظار الباعة والمشترين تتعلق بالرجل والسبب في ذلك أناقته، فالبدلة الكاملة الزرقاء تعتبر ملفتة للنظر ومؤكدة تماماً وسط الأزياء البلدية التي تشترك معظمها في اللون الأبيض وما يقاربه، إنحنى (عثمان) أمام مجموعة من الدلاليك المعروضة للبيع بينما وقف الرجل بعيداً متأففاً من ضجة السوق ، نقر (عثمان) بأصبعه على عدد من الدلاليك يختبر صوتها ، إختار واحدة واتجه بها نحو الرجل الذي أشار اليه بالذهاب ، دفع الرجل قيمة الدلوكة ووضعها في المقعد الأمامي حيث كان يجلس، وجلس هو على المقعد الخلفي بعد ان حول معه المجلات والجرائد التي سبق ان اشتراها. ( نرجع الخرطوم بنفس الشارع الجينا بيهو ) ( حاضر يا استاذ ) حسب (عثمان) الوقفات التي جاءت تبعاً لأوامر الرجل الهيبة في ذهنه، حولها سريعاً الى أرقام ، أضاف إليها مشوار الذهاب والإياب، وأطمأن تماماً للخطة التي وضعها في رأسه ، الرجوع الى المكتب، قليولة ناعمة في المنزل، العمل بالتاكسي في المساء والليل الممتد، فكر في شراء بطيخة وكم كيلو من الموز، أوقفه الرجل حين وصلت العربة الى مكان الطائرة المعلقة على الصينية ، نزل الرجل من العربة وفعل ما فعله في السابق ، دار حول الطائرة من كل الجوانب يتمعنها، يبتعد منها مسافة تجعله ينظر اليها بكامل حجمها ، ثم رجع الى العربة، فتح الباب وجلس على المقعد الخلفي، زفر زفرة عميقة وقال:- ( ده كلام فارغ دي فضيحة جمالية ) (عثمان) كان حذراً جداً خوفاً من محاضرة أخرى لا يستطيع هو ان يواجهها، إكتفى فقط بحيرة لا تخصه وصمت، أشعل الرجل سيجارة وحين تجاوزت العربة حديقة الحيوان قال الرجل بهدوء مطمئن:- ( أمشي على عمارة التأمينات ) أوقف (عثمان) التاكسي أمام عمارة التأمينات نزل الرجل أخذ معه الجرائد والمجلات.. نظر الى (عثمان) قائلاً:- ( دقيقة بس.. ) وذهب الى الداخل، نظر (عثمان) الى الدلوكة التي تجلس مرتاحة على المقعد الأمامي واطمأن على عودة الرجل الذي لا يمكن ان يشك فيه أكبر شكاك في الوجود ، طالت غيبة الرجل، (عثمان) يحول كل قلق الانتظار إلى أرقام ويطمئن ، الدلوكة هي علامة أساسية في هذا الاطمئنان ، نصف ساعة لم يأت الرجل وتتكاثر أرقام الإنتظار في ذهنه، يحلم بتلك القيلولة، شرب الشاي عند إحدى النساء اللواتي يبعنه أمام العمارة والرجل لم يأت ، الدلوكة لا زالت في مكانها؛ دلالة بينة لعودة الرجل الهيبة، تتكاثر الأرقام في ذهن (عثمان) ، جلس على مقعد السيارة، خرج منها ليجلس خارجها ولم يأت الرجل. تجاوز الإنتظار الساعة والدلوكة لا زالت في مكانها ، لا يمكن أبداً ان يكون الاستاذ قد نسي الدلوكة وهي سبب أساسي في مشواره إلى أم درمان، لا يمكن أبداً ، نصف ساعة أخرى و(عثمان) مسجون داخل إنتظاره ومقيد بتلك الدلوكة التي تشير الى عودة الرجل الهيبة، ذلك الرجل الذي تحول في احلام (عثمان) الى كمية لا يستهان بها من الأوراق النقدية. خرج الرجل من داخل العمارة وتحفز (عثمان) ، إنتابته رعشة وكأن الأمر مفاجأة ، جهز ما بداخل أحلامه ولكن ها هو الرجل يتجه إلى مكان آخر، إنه يتحرك في الاتجاه المضاد لمكان إنتظار (عثمان) وكأن الأمر برمته لا يعني له شيئاً ، قرر (عثمان) ان يحسم هذا الإنتظار ، تبع الرجل مهرولاً:- ( يا استاذ.. يا استاذ.. يا استاذ ) لم يكلف الرجل نفسه حتى الإلتفات لهذا النداء الحميم مما جعل (عثمان) مضطراً ان يلحقه ويمسك به من كتفه:- ( شنو يا استاذ؟.. ما ما معقول!! ) ( في شنو؟ ) (كيف في شنو؟ ، على الأقل تعال شيل دلوكتك ) ( دلوكتي؟ ، دلوكة شنو؟ ) ( الله ، الدلوكه بتاعتك يا استاذ ) ( دلوكه ؟! ،انا بتاع دلاليك؟ ) ( الداوكه الإشتريتها من سوق البروش ) ( دلوكة شنو؟ ، سوق البروش!! ، انت أهبل؟ ) ( جابت ليها اساءة كمان؟ ، شيل دلوكتك شيلها.. ( يا راجل دلوكة شنو؟ ) ( دلوكتك انت ) ( دلوكتي أنا؟ ) ( أيوه دلوكتك انت ) ( دلوكتي؟ ) ( أيوه دلوكتك ) ( أنا بتاع دلاليك؟ ) ( يا استاذ.. أنا.. ) ( انت؟ ، انت ايه؟ ) ( طيب أديني حق المشوار ) ( مشوار؟.. مشوار ايه؟! ) ( المشوار بتاع الدلوكه ) ( تاني دلوكه؟ ، انا بتاع دلاليك؟ ) ( يا استاذ.. الله!!.. دلوكتك ) ( أنا بتاع دلاليك؟؟ ، انت راجل دلوكه ولا شنو؟ ) ( دلوكتك انت.. إنت الإشتريتها ) وتجمهر الناس بعد ان فقد (عثمان) صبره وهو يرى أمامه تلك الأرقام التي في ذهنه تتبعثر والرجل الهيبة يصرخ بملء الفم:- ( بالله شوف الراجل الدلوكه ده؟، أنا بتاع دلاليك؟ ، أسوي شنو أنا بي دلوكه؟ أما غريبة!! ، أنا عندي دق شلوفه؟ ، دلوكه في عينك!! ) فقد (عثمان) صبره ولملم كل عنق الرجل بين كفيه الخشنتين والرجل يصرخ بصوت مخنوق:- ( أنا بتاع دلاليك؟؟ ) بعد مجهود عنيف ومقدر إستطاع أحدهم ان يخلص عنق الرجل، الرجل الهيبة، من كفي (عثمان) وأخذه بعيداً و(عثمان) يصرخ من الغضب:- ( تنكر يا راجل يا ضلالي؟ ، عندك نفس تقول دي ما دلوكتك؟ ) قاد الرجل المنقذ (عثمان) الى أحد الأركان قائلاً:- ( انت الرجل ده ما بتعرفوا؟ ) ( اعرفوا ليه؟ ، أنا بعرف بس االدلوكه الفي العربية دي حقتو!! ) ( معليش يا ابن العم اهدأ ، ده استاذ طه ، مسكين ، مجنون ) .