جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    بعد رحلة شاقة "بورتسودان.. الدوحة ثم الرباط ونهاية بالخميسات"..بعثة منتخب الشباب تحط رحالها في منتجع ضاية الرومي بالخميسات    على هامش مشاركته في عمومية الفيفا ببانكوك..وفد الاتحاد السوداني ينخرط في اجتماعات متواصلة مع مكاتب الفيفا    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    شاهد بالفيديو.. الرجل السودني الذي ظهر في مقطع مع الراقصة آية أفرو وهو يتغزل فيها يشكو من سخرية الجمهور : (ما تعرضت له من هجوم لم يتعرض له أهل بغداد في زمن التتار)    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    آفاق الهجوم الروسي الجديد    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    مطار دنقلا.. مناشدة عاجلة إلى رئيس مجلس السيادة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زيارة لمملكة الضياء
نشر في حريات يوم 06 - 06 - 2014


ياسر عرمان
إلى مانديلا شعاع النور فى كل الأزمنة(1-4)
فى الإسبوع الأخير من شهر مايو 2014م، وبمطار زيورخ ، وفى الصباح الباكر صعدت إلى الطائرة وكنت مرهقاً قررت أن آخذ قسطاً من الراحة ثم أطالع بعض الصحف والمجلات، أو أن اشاهد بعض الأفلام الجديدة، واستغرقت فى النوم بعمق فور إقلاع الطائرة ثم صحوت بعد حوالى الساعتين، وبدأت فى مطالعة بعض موضوعات الجرائد والصحف، التى كانت عناوينها الرئيسية تتحدث عن نتائج إنتخابات الهند والبرلمان الأوربى و كان العنوان الرئيسي لغلاف مجلتي الإكونمست والتايمز حول رئيس الوزراء الهندى الجديد (مودي) ، الذي وضعت صورته فى طول و عرض غلاف المجلتين، وهو نفس الوزير الاول فى ولاية قجرات الهندية، الذى شهد عهده إغتيال المئات بدم بارد ومعظمهم من المسلمين، وهو يحكم 1.2 بليون من سكان العالم، والهند هى أكبر ديمقراطية فى الكرة الأرضية.
الإنتخابات فى أوروبا والهند أدت إلى صعود قوى جديدة – قديمة، وربح وخسارة مرتبط بالإقتصاد والفقر والأخير يلعب دوراً ليحرك الجماهير نحو قوى الإستنارة والتقدم أو الي أقصى اليمين، كما حدث فى الهند وبعض بلديات أوروبا، وقد إتجهت كثير من القوى الصاعدة إلي إستخدام التهييج الإثني والديني وقضايا المهاجرين حتى ولى كثير من الناخبين وجوههم أقصى اليمين.
ثم قررت بعد ذلك مشاهدة الافلام الجديدة واخذت استعرض القائمة وملخص ما كتب عنها وتوقفت عند فيلم (THE BUTLER) والذى شاهدته من قبل ونبهنى إليه الصديق الرشيد سعيد، وقد لعبت فيه مقدمة البرامج التلفزيونية الشهيرة وإحدى أهم الشخصيات الإفريقية الأمريكية (أوبرا وينفري) دورا رئيسيا، والفيلم يحكي عن قصة مؤثرة من قصص كفاح الأمريكيين السود والصعود والهبوط فى حياتهم، و فيلم آخر يحكي عن صعود وهبوط آخر فى بورصة منهاتن فى نيويورك، وكيف إن رأس المال المالي يفعل الأفاعيل بين الأرض والسماء دون وازع و قيم وحدود جغرافية أو أخلاقية.
وأدرت المؤشر مرة اخرى فتوقف عند الفيلم الجديد عن نلسون مانديلا (الطريق الطويل نحو الحرية) وهو مأخوذ عن سيرته الذاتية بنفس العنوان، والذى أدى فيه دور البطولة إدريس ألبا ونعومي هاريس، و قد شاهدت إعلانات من قبل عن هذا الفيلم و تزامن عرضه الإفتتاحى مع رحيل مانديلا فى الليلة نفسها وبحضور بعض أفراد إسرة مانديلا للعرض. ومنذ أن رأيت الإعلانات شعرت بعدم الإرتياح إن البطولة قد إسندت إلى إدريس ألبا ذلك لأنني تابعت ان الدور قد عرض على دينزل واشنطون ومورغان فريمان الذى هو شديد الشبه بنلسون مانديلا ولأنى من المعجبيين بالإثنين لاسيما اداء دينزل واشنطون المبدع فى فيلم مالكوم أكس وأفلام أخرى ولكن حبي لمانديلا جعلنى اختار مشاهدة هذا الفلم العجيب، ورويداً رويدا إكتشفت خطأ إنطباعى عن إدريس البا، وشعرت بالإرتياح أكثر لنعومي هاريس فى دور ويني مانديلا .
دائما تشُدنى المقالات و الكتب والروايات والافلام والمسلسلات والإبداعات الأدبية والفنية بشتى ضُروبها التى توقظ الضمير مثل وخز الإبر والعبارات التي تجعل الدمع يغسل النفس البشرية مثل (الصنفرة) التى تجلي المعادن الصدئة وهى تخاطب العقل وتهذب الوجدان وتذكر بجمال الإنسان ومحدوديته وجهله معاً. والدمع والنفس اللوامة يزيحان ذرات غبار السنين الذى يعلق بالنفس البشرية المجبُولة على الخير والأمارة بالسوء معاً، والتى لو أطلق لها العنان لسطا عليها الزمن وسرق ضمائرنا، ولذا أحببت هذا الفيلم مرتين المرة الأولى لأنه أعاد إلي الحياة واحدة من أنصع صفحات النضال الإنساني فى القرن الماضي والمرة الأخرى لانه عكس واحدة من أهم المحاولات الإنسانية لإنشاء منظمة سياسية عابرة للالوان والثقافات والاديان، والفيلم بمثابة تحية للنضال المشترك لأُناس من خلفيات متنوعة سودا وبيضا وهنودا وملونين ….الخ. " يا خرطوم شن شب وقلبك وسلبك حلبك ؟زنجك؟ بجتك؟ نوبتك؟ عربك؟" كما هو السؤال المحير عند صديقنا الذى مايزال كذلك، التربال الوسيم محمد الحسن سالم (حميد).
إن حزب المؤتمر الوطنى الإفريقي نموذج عالمي لتجمع إنساني سياسي عالمي ضم الأعراق المختلفة على طريق المصالحة الإنسانية القائمة على العدالة والإنصاف والديمقراطية والاخوة الشريفة بلا ضفاف، وهي معادلة وحلم لا يزالان يراودان ملايين الثوريين على وجه البسيطة بغض النظر عن التحديات الكبيرة التى تواجه حزب المؤتمر الوطني الافريقي الآن.
تناول الفيلم شخصيات لطالما أحببتها وتعلقت بها وشكلت جزء من وجدانى وإحتلت مساحة كبيرة من عقلي، و أحببتهم مثل ما يحب المُريد شيخه، و كنت وما زلت من المريدين لوالتر سوسولو هذا المتصوف الكبير الذى خاض معارك المؤتمر الوطني الافريقى كبيرها وصغيرها وعف عند المغنم، وأشاح بوجهه عن سلطة المؤتمر الوطنى الأفريقى التى دفع ثمنها عداً ونقداً، " يخبرك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعف عند المغنم …. فأرى مغانم لو أشاء حويتها فيعيدني عنها الحيا وتكرّمي" ولم يكن له سوى مكتب وسكرتير فى مبانى رئاسة حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى بعد إن إنجلى الوغى و غبار المعارك . والتر سوسولو هو الذى جند مانديلا لحزب المؤتمر الوطنى الافريقى وهذا وحده يكفيه إلى يومٍ بعيد ، وشارك مانديلا لمدة 27 عاماً سُكنة الجزيرة اللعينة (جزيرة روبن) ، والتر سوسولو ميزان الذهب والعقل الذى لايُستفز والمعجون من طين الهدوء والنظرة الثاقبة و الذى ساند مانديلا فى المواقف الصعبة و لم يتورع من إنتقاده كلما لزم الأمر . وحكى لى عدد من قادة المؤتمر الوطنى الأفريقى كيف فى لحظات إدلهمام الخطوب كان لكل سؤال عند والتر إجابة من رحيق التواضع والخبرة والحكمة لا الإدعاء .
فى إحدى جلسات المؤتمر ال(52) لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي والمخصصة للتضامن العالمى جاءنى كولن شيباني عضو اللجنة التنفيذية لحزب المؤتمر الوطنى الافريقى ووزير شئون الرئاسة لاحقاً وقال لى إنك ستكون من بين المتحدثين من قارات مختلفة فى كلمة للتضامن مع حزب المؤتمر الوطنى الأفريقي، وكانت مفاجأة سارة وفرصة نادرة أن أخاطب المؤتمر العام لحزب المؤتمر الوطني الافريقي الذى عقد فى بلوكوانى فى محافظة لوممبو فى 16-20 ديسمبر2007م، وإرتجلت كلمة قلت فيها إن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي هو حزب لكل أفريقيا بل هو حزب عالمي للبشرية جمعاء ونجاحاته نجاحات لكافة الثوريين فى العالم ودعم مسيرته واجب على كل القوى الديمقراطية لاسيما فى إفريقيا، ثم حييت قادته الكبار وذكرت عددا كبيرا منهم بدءاً من جون بيفر ماركس وموسس كوتاني والزعيم ألبيرت لاتولي الحائز على جائزة نوبل للسلام، و إنه الحزب الذى حاز إثنان من رؤسائه على جائزة نوبل، وحييت والتر وألبرتينا سوسولو وويني مانديلا و أوليفر تامبو وكريس هانى …… وختمت بتوجيه التحية لآخر الأنبياء الأفارقة ورسول السلام والمحبة والمصالحة نيلسون مانديلا. وعند الغداء جاءتني ليندو سوسولو إبنة والتر وألبرتينا سوسولو وعضوة المكتب التنفيذى لحزب المؤتمر الوطنى الإفريقي والتي تولت حقائب الإسكان والدفاع وقالت لى إنها إتصلت بوالدتها وعبرت عن إمتنانها لان شخص من السودان قد قام بتحية والديها وسألتني عن كيف حفظت وتعرفت على كل هذا العدد من القادة التاريخيين لحزب المؤتمر الوطنى الافريقى، فأجبتها إن المؤتمر الوطني الافريقي حزبنا جميعاً و إننى إطلعت على السيرة العظيمة لوالتر وألبرتينا سوسولو بعنوان ( والتر وألبرتينا سوسولو فى زماننا ) وقد تاثرت أيّما تأثر حينما أدلى مانديلا فى مقدمة الكتاب باعظم شهادة عن والديها ، واذكر جيداً قوله إننا إذا أردنا أن نلخص نضال شعب جنوب افريقيا فى اشخاص وهذا امر صعب وشائك لما ترددت فى ان اختار والتر والبرتينا سوسولو كنموذج مُلخص لهذا النضال، ثم تحدثنا عن والتر سوسولو وأوليفر تامبو أحب الشخصيات لقلب وعقل مانديلا، وحينما بلغ العمر بمانديلا عتيا ذكر جورج بيزوس محامي القضايا الإنسانية الكبرى و صديق مانديلا الذى دافع عنه و برايم فيشر والإثنين من البيض فى محاكمات روفانا، وظل محاميه ذا صلة دائمة به حتى رحيله لمدة (48) عاماً وزامله فى حزب المؤتمر الوطنى الافريقي.
ذكر جورج فى مقاله الرائع الذى كتبه فى الفاينانشيل تايمز و قمت بترجمته ونشره فى الإعلام الإلكتروني السوداني – كتبه قبل وقت وجيز من رحيل مانديلا بعنوان (صديقي مانديلا لا يهاب الموت)- ذكر إنه فى زيارته الأخيرة لمانديلا سأله عن حال أوليفر تامبو وإذا ما كان قد إلتقى بوالتر سوسولو مؤخراً ولان جورج لا يكذب على مانديلا أجابه بانهم قد رحلوا منذ زمن! ومضت السنوات وظلت ذاكرة مانديلا ندية لأصدقائه ورفاقه القدامى، وإنمحت أشياء كثيرة من ذاكرته عدا رفاق معاركه الذين جسدوا الإنسانية فى أعلى قممها، ونحن مدينين لهم وجداناً وفكراً وشمسهم تظل تضئ على مر الزمن.
الفيلم به بؤرة قوية من الضوء على دور أحمد كاثرادا الهندي الجنوب أفريقي النبيل الذى قال فى لقاء له حول شخصية مانديلا نُشر فى نفس عدد الفاينانشيل تايمز الذى حوى مقال جورج بيزوس، عن اشياء فى حياته تأسف لها و أجاب كاثرادا إنه لم يتأسف على شئ من سنوات جزيرة روبن إلا إنه كان يمكن أن يكون له أطفال لولا إن الزمن تسرب من بين يديه فى جزيرة روبن وحرمه من إحدى احلامه وهذه إجابه مؤثرة.
وقد إلتقيت أحمد كاثرادا عُدة مرات فهو إنسان من مياه التواضع و مانديلا الوفي الذى يعرف قيمة البشر جعله ملازماً له فى قصر الرئاسة فى السنوات التى أمضاها هناك مثل غيمة ونسمة، فالذي لازم مانديلا فى جزيرة روبن ما كان له إلا أن يلازمه فى قصر الرئاسة. وقد أسدى كاثرادا للإنسانية نموذجاً مغايراً بالسنوات الطويلة التى أمضاها فى جزيرة روبن مع قادة المؤتمر الوطني الإفريقي السود ويظل نموذجا آسراً عند كثير من أجيال المناضلين الآن والآتية فى المستقبل، والخير خير وإن طال الزمان به.
حينما زار الراحل زُليكة الإبن الأكبر لوالتر سوسولو مقر مفاوضات نيفاشا ليلتقي بالدكتور جون قرنق بعد أن إنتهى لقائه بدكتور قرنق قال د كتور قرنق لزُليكة لدى أحد أعضاء وفدنا الذى أعتبره عضواً فى حزبكم ولابد أن تلتقى به قبل أن تذهب و أرسل زميلنا في الوفد تعبان دينق قاي طالباً مني مقابلة الراحل زُليكة سوسولو وقد أبلغه إن الحديث عن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي إحدى موضوعاتي المفضلة.
فى الفيلم الذى إحتشد بعدد من المناضلين ظل عقلي مشدوداً لمانديلا ووينى ووالتر سوسولو واوليفر تامبو وأحمد كاثرادا رغم أهمية الآخرين والدور الكبير الذي لعبوه، أبكانى هذا الفيلم وأثار مواجعي، كما لم يحدث من قبل مع أي فيلم آخر شاهدته، وطوال ساعتين ونصف لا تملك دموعك إلا إسداء التحية وينتابك شعور عميق بالرضى وصحو الضمير، وهذه لحظات ليس من السهل العثورعليها، لانها تخاطب أوتار الضمير وعصب النفس البشرية، وتعيد ضمائرنا شابة، فإن ضمائر الشباب السليمة لا يصيبها داء الطمع وهى مخزن للقيم الإنسانية النبيلة. ولا يتجاوز الإنسان هذه القيم التى تدعو إلى الخير والعدالة والحق إلا إذا مات ضميره، إن قضايا العدالة والوقوف ضد التحيزات الإجتماعية والإثنية سيظل صداها يتردد إلى أن يرث الله الأرض وماعليها ( متى إستعبدتم الناس) وصوت عمر المجلجل والذى يسمع عند ناصية الجبل (يا سارية الجبل) .
فى بدايات الدراسة الجامعية حيث كانت البداية وفى مطلع الثمانينيات وقعت عيناي على مجلة (قضايا السلم والإشتراكية) وبها ملخص لمذكرات جون بيفر ماركس النقابي والقيادي فى حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وهو يُلخص كيف أصبح عضواً فيه، وكيف تخطى حاجز اللون وهو يعانى أزمة الإنتماء ذهاباً وإياباً، وكيف تمكن من ربط المسألة القومية وتمييزها عن المسألة الطبقية وضرورة الا يتم إغفال العامل القومى و علاقته بالنضال الطبقى ، وكيف تغيرت نظرته للمناضلين البيض فى جنوب إفريقيا، وكيف أنقذت مناضلة من البيض حياته حينما أطلق البوليس النار وهو يخاطب مسيرة عمالية، و رغم مُضي السنوات يبقى جون بيفر ماركس فى قلب دهاليز الذاكرة وإني مدين له وللأبد فقد ساهم مع آخرين أفراداً وتننظيمات فى توسيع مداركي تجاه قضايا القوميات والتنوع والتعدد الذى يحفل به السودان، وتظل جنوب إفريقيا والقضايا التى طرحت على مناضليها فى إقامة مجتمع قوس قزح ( (rain bow nation وإقامة "الوحدة فى التنوع" شديدة الشبه بالواجبات التى تطرح على دفاتر القوى الديمقراطية بالسودان مع إختلاف الخصائص.
سألتُ عزيز بهات الهندى الجنوب إفريقي والمحرر السابق فى قضايا السلم والإشتراكية والقيادى بالمؤتمر الوطني الإفريقي وهو شقيق المناضل الآخر يوسف بهات عن جون بيفر ماركس وعن تلك المقالة وذكر لي إن تلك المقالة التى تُلخص مذكرات جون بيفر ماركس ربما يكون قد كتبها يوسف دادو الهندي الجنوب إفريقي الآخر وعضو المكتب التنفيذى للمؤتمر الوطنى الإفريقى والامين العام السابق للحزب الشيوعى الجنوب إفريقي، واحزننى ان علمت منه إن بيفر ماركس و صديقه المناضل النموذجى الشهير موسس كوتانى الامين العام السابق للحزب الشيوعى فى جنوب افريقيا ايضاً وعضو اللجنة التنفيذية لحزب المؤتمر الوطنى الافريقى والذى ساعد فى حسم معركة مانديلا فى إقناع الزعيم البيرت لاتولى بالكفاح المسلح إنهما الإثنان لا تزال رفاتهما فى روسيا حيث قضيا نحبهما فى الاتحاد السوفيتى، والكثيرون يتمنون أن تعود رفاتهما مرة أخرى إلي جنوب افريقيا ، وقد ظلت أسئلة جون بيفر ماركس تلاحقني قبل الحركة الشعبية وبعدها ولا زلت أبحث عن إجابات لها، ومن المؤكد إننا جميعاً سنغادر هذا العالم وسنحصد من الإسئلة أكثر من حصولنا على الإجابات، وهذا جزء من جمال الكون الإنساني ونظل نلهث خلف الأسئلة وكلما حصلنا على إجابة ولدت سؤالاً جديداً ، (والطيور الراحلة فى ضل المسا عند المغارب تسألنا كيف نفارق الضفة وكيف يهون علينا النيل !). وعلينا أن نذهب دون ان يهون علينا الظلم وعدم التناسق فى الحياة الإنسانية و حينها تظل ضمائرنا حية .
إننا نحتاج أن نربط بين قضايا القوميات و الإعتراف بحق الآخرين فى أن يكونوا آخرين مع قضايا العدالة الإجتماعية والديمقراطية وسيادة حكم القانون وأي محاولة للنظر بعين واحدة تُغفل ترابط هذه القضايا لن يؤدى إلى إقامة مجتمع جديد فلا يكفي أن تناضل تحت راية المسألة القومية دون ربطها ببرنامج للعدالة الإجتماعية والعدالة الإجتماعية تكون عرجاء دون إقامة مجتمع ديمقراطى، ولايمكن إقامة مجتمع ديمقراطي حق دون الإعتراف بحق المواطنة بلاتمييز.
فى الفترة الماضية تراودني فكرة الكتابة عن أكثر من حدث وعن أُناس راحلين مقيمين ليس بإمكانك إلا أن تقول شيئاً عنهم وأن تتوقف عندهم، والعمل السياسي اليومي مهلك ومستهلك لا يترك وقتا للمراجعة وللكتابة التى تحتاج بعض قضاياها لنظرة فاحصة وعميقة، وهنالك أناس الكتابة عنهم تأخذ من وجداننا وأفئدتنا الكثير وتخلف أسى وحزن، وكيف لنا ألا نكتب ما عرفنا عن محمد الحسن سالم (حميد) وعن متوكل مصطفى أحد أبناء جيلنا المخلصين وعن عميٍ ميلاد حنا صاحب "نحو غد أكثر إشراقاً" وعن ماكير دينق ملو (jet fighter) وديفد دوال فليك والسفير مجوك أيوم، دكتور عبدالحميد عباس وهي أحزان عابرة للحدود تقطن ثلاثة بلدان فى بلد واحد.
ثم رحل محمد وردي (الغروب أسألني منك، أمسياتنا فى شوق إليك)، عبدالحميد علي "عثمان هوايد الليل الصمت والكتمان"، وغادر محجوب شريف الذي إلتقيته لقاءاً راسخاً عقلاً ووجداناً، للمرة الأولى حينما كنت فى العشرين من عمري فى زنازين الإنتظار التابعة لجهاز أمن نميري وفى معيته سيد طه المحامي وهذه قصة أخرى تستحق العودة تفصيلاً، وعبده دهب حسنين يستحق أن نقف عند قبره بوردة ودمعة، وسبق أن عبرت لخالد وسهير عبده دهب عن رغبتي الأكيدة فى تحية ذاك المناضل المتفرد.
توقفت طويلاً عند ما خطه البروفسير مهدي أمين التوم فى مقاله الرائع الذي يثير الشجون والألم تحت عنوان لافت للإنتباه (قبل الرحيل) وكنت أتمنى أن تتاح لي الفرصة للتعليق عليه ولو بإختصار في شبكة التواصل الإجتماعي حينما شاركت أصدقائي فى الإطلاع عليه ووجد صدى طيبا، ففي مقالته التى تميزت بالصدق ونبل الكلمات وبالنظرة الثاقبة لقضايا التعليم والسياسة "وما قد كان وما سيكون والشعب العارف إنه بالإمكان أن يبدع أبدع مما كان وطريق جهنم أن تختار طريقاً لا يمشيه" وأسف البروفسير مهدي أمين التوم على ما ضاع آملاً فيما يُرتجى، وهو يكتب خلاصة أمينة لتجربته للشباب وللأجيال القادمة، وهو من بذل النفس والنفيس فى محاولات تأهيلها و ينتظر منه الكثير مستقبلاً ونتمنى له الصحة وطول العمر ومثله يستحق التحية وأن ترفع له القبعات، وهو يتحدث بكل أمانة وصدق ويذرف الحروف ليحثنا أن نتوقف عند ذكرى ما جرى وما يجري وكيف الخروج من النفق المظلم إلى رحابة مجتمع جديد.
توقف العالم كله عند نلسون مانديلا للحد الذي يجعل المرء يفكر بألا فائدة لمقالة متواضعة أن تضيف أي شئ جديد، ولكن الكتابة عن مانديلا دين مستحق، و تحية مطلوبة قبل السؤال عن فائدة ما نكتب، فمانديلا قد قدم نموذجاَ إنسانياً رفيعاً ساهم فى قطع أي حجة بأن هذا النموذج غير ممكن، وأسدى خدمة كبيرة لكل الباحثين عن التغيير ولذا فإن الذي ليس "بزين عليه أن يسد الدين".
مانديلا الذى خرج من قرية فى ترانسكاي ثم فى مسيرته الطويلة نحو الحرية طاف العالم كله وطاف به العالم ثم عاد فى نهاية تلك الرحلة الباهرة إلى قريته مرة أخرى فى الترانسكاي، ويالها من رحلة ! كان شيوخ قريته يؤهلونه ليكون سلطاناً فى القرية فأصبح سلطاناً فى قلوب ملايين البشر فى العالم أجمع، يتساوى فى الإعجاب به نجوم هوليود وقاطني البيت الأبيض وسكان الأكواخ وهامش المدينة فهو نجم النجوم وسلطان قلوب الفقراء.
كانت الطائرة فى طريقها للهبوط فى مطار جوهانسبيرج كنت على رأس وفد الحركة الشعبية الذى ضم الدكتورة آن إيتو مسؤلة القطاع الجنوبى فى الحركة الشعبية وآخرين، كان ذلك فى 14ديسمبر2007م، ونحن نُلبي دعوة لحضور المؤتمر رقم (52) لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي الذى لم يتخلف عن عقد مؤتمراته فى أحلك الظروف ولعمري تلك لبطولة، وكان ذلك المؤتمر الذي عقد فى الفترة من 16-20 ديسمبر2007م واحداً من أهم مؤتمرات الحزب وشهد صراعاً واسعاً بين تيارين، إحدهما يقوده جاكوب زوما والآخر بقيادة تابو امبيكى والذي إنتهى بإنتخاب جاكوب زوما رئيساً، وقد كان أول مؤتمر يتم فيه التنافس على المستوى القومي بين مرشحين من المؤتمر الوطني الإفريقي منذ إنعقاد المؤتمر رقم (38) فى عام 1949م حينما قام المؤتمر الوطني الإفريقي بإستبدال القيادة المعتدلة بقيادة أشد جذرية، تمثلت فى صعود أوليفر تامبو ونيلسون مانديلا ووالتر سوسولو لقيادته التنفيذية.
كان المؤتمر مشحونا بالعواطف والأفكار والتقاطعات، وأُتيحت لنا فيه الفرصة للإلتقاء بمناضلين تاريخيين من أعضائه وعضويته من الذين قادوا العمل السري ومن سجناء جزيرة روبن، والذين قادوا الكفاح المسلح، ومن الذين عملوا فى الداخل والمنفى، وقد أتاحت إستضافتنا من قبل عضو اللجنة التنفيذية ووزير شئون الرئاسة لاحقا صديقنا كولن شيباني في أحد منازل أصدقائه البيض فى بلوكواني للتعرف عن قرب بعدد كبير من قادة المؤتمر الوطني الأفريقي وعلى التقاليد الديمقراطية وعلى التناقضات الشائكة التى تواجه ذلك التنظيم العظيم، وعلى الرغم من سيول وفيضانات الصراعات التي واجهت ذلك المؤتمر والقضايا الكبيرة التى تحتاج إلى معالجة مثل صراعات السلطة والفساد والمصالح الضيقة والشللية ومجموعات المصالح ومحاولات التأثير من العالم الخارجي، فإن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وهو يجتاز 100 عام من تاريخ تأسيسه لايزال قادراً على خوض المعارك، وقد كان ذلك المؤتمر حدثاً تاريخياً ولوحة قل ما تتكرر، وحينما دُعيت لمخاطبة المؤتمر فى جلسة التضامن الدولي وقد تم إختيار عدد من الأحزاب والمنظمات المشاركة لتمثيل جميع القارات، وفي طريقي إلى المنصة تذكرت المرة الأولى التى إطلعت فيها على مقالة جون بيفر ماركس فى قضايا السلم والإشتراكية و ما تخبئه الحياة ، فها انا ذا أخاطب المؤتمر العام لحزب جون بيفر ماركس ولم يخطر ببالي أن تتاح لي الفرصة في يوم من الأيام لحضور مؤتمر قومي لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي دعك عن مخاطبته، ومن القضايا المؤثرة فى ذلك الإجتماع إنه قد إتخذ قراراً بتكوين أجهزة المؤتمر الوطني الإفريقي ومؤسساته مناصفة بين النساء والرجال ورفع نسبة مشاركتهن في جميع المؤسسات إلى 50% كحد أدنى.
والطائرة تهبط نحو مدرج المطارفي 14ديسمبر2007م، قالت المضيفة إننا في طريقنا للهبوط فى مطار أوليفر تامبو مطار جوهانسبيرج الدولي والرجاء من السادة المسافرين ربط الأحزمة وعندها لم يكن بالإمكان إلا وأن تنحدر دمعة لم أستطع مقاومتها حينما تذكرت.
،،،،،،،،،،نواصل،،،،،،،،،،،،


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.