ليس من السهل استيعاب ما حدث في السودان عبر ربع قرن منذ سيطرة نظام عمر البشير وحليفه لسنوات حسن الترابي على الحكم؛ فلا الشعب توقف عن الانتفاض بسبل متنوعة دون نتائج توازي ما بذل من دماء وأرواح، ولا ما يحدث هنا يمكن فصله عن الأبعاد الدولية والإقليمية، ولا النظام توقف عن استخدام القمع ضد معارضيه وحتى مواطنيه بحرمانهم من أبسط مقومات الحياة. وبالنظر لتاريخ السودان المعاصر وقدرة شعبه على الإطاحة بنظامين باستخدام العصيان المدني والتظاهر، فإن المسار الذي اتخذته مؤخرا حركات معارضة بالمنطقة العربية لم يخرج عن هذا كثيرا، لكنه المدهش انه لم يفلح هذه المرة في السودان نفسه الذي شهد العامين الماضيين مظاهرات بين ضخمة ومحدودة، وسقط في آخرها أكثر من 250 مواطنا بحسب مصادر حقوقية. ترجع الباحثة السودانية الشابة "إيمان شريف" السبب في استمرار البشير وعدم تمكن أي من المعارضة المدنية والحركات المسلحة من إزاحته أو الاتفاق على برنامج لما بعد سقوط هذا النظام لأسباب متداخلة؛ فالمعارضة مشتتة، وقد غابت النقابات والاتحادات المدنية في الداخل، وهي التي كانت تنظم المظاهرات والاحتجاجات كما حدث في الانتفاضتين السابقتين إبان العام 1964 للإطاحة بالفريق عبود، وبعد ذلك في 1985 للإطاحة بجعفر نميري؛ فمنذ سطو جبهة الإنقاذ علي السلطة المدنية دأبت الجبهة علي أدلجة تلك التنظيمات النقابية، وصبغها بلونها السياسي تماماً، كما فعلت الأمر ذاته بالقوات المسلحة النظامية. ميليشيات موازية للجيش: أمنيا، درب نظام البشير مليشيات مسلحة وجعلها تتبع لجهاز الأمن القومي، وأعطاها مميزات وصلاحيات أكثر من الجيش نفسه. وتقول شريف ان تلك المليشيات قد مارست القمع والقتل الجماعي في مناطق دارفور وكردفان وجبال النوبة، كذلك استخدمت نفس تلك المليشيات في قمع وقتل المتظاهرين في هبة سبتمبر من العام الماضي وستفعل ذلك أيضا في أية هبة أو انتفاضة قادمة. وتحمل شريف المعارضة مسؤولية أكبر فيما يحدث؛ ف" اتفاقها كان سيجعل الشعب يصطف ورآها ويتحرك لإسقاط النظام قبل ان يضيع ما تبقي من ارض السودان.. كان هنالك جزء كبير من المعارضة يؤمن بالحوار مع النظام للوصول لصيغة معا للمشاركة في الحكم، ولكن النظام كعادته ينقض وعوده، فقد قام الشهر الماضي باعتقال الصادق المهدي رئيس حزب الأمة لانتقاده لأفعال مليشيات الجنجاويد، وكذلك اعتقل السيد علي مهدي السنوسي رئيس حزب المؤتمر السوداني ، وكذلك الأمين العام للحزب، وكلاهما مازالا قيد الاعتقال". وتتوقع شريف ان تكون هذه الاعتقالات والتصعيد الأخير ضد المعارضة عاملا يسهم في التقائها وربما اتفاقها على صيغة عمل واقعية. أما الكاتب المسرحي المقيم في لندن "بابكر راس بابي" ، فيرجع الأمر لأسباب في الشخصية السودانية نفسها "العيب فينا السودانيين. فالسوداني بطبعه مُسامِح، وقد استغل جماعة البشير هذا جيدا" ويضيف ان الأحزاب السياسية الكبيرة التي تشارك النظام في الحكم، حتى الحركات المسلحة التي انضمت للمعارضة أغلبها انشقاق عن النظام. ويرى بابي أن الحل ليس في التظاهر منفردا، بل في انتفاضة محمية بقوة السلاح؛ بحيث لا يقع هذا العدد من الضحايا فريسة لقوى الأمن، فيعتقل أو يقتل. و كانت منظمات المركز الأفريقي لدراسات العدل والسلم والعفو الدولية وهيومن رايتس ووتش والفدرالية الدولية لحقوق الإنسان ومؤسسة ريدريس REDRESS قد دعوا في بيان قبل أسبوع الحكومة السودانية لأن تلجأ فوراً إلى نسب اتهامات إلى مئات النشطاء السياسيين المحتجزين أو تفرج عنهم، وأن تحقق في جميع الادعاءات بتعرضهم للتعذيب والمعاملة السيئة. وقالت هيومان رايتس سابقا ان السلطات السودانية أخفقت في توفير العدالة بالنسبة للعديد من المدنيين الذين قُتلوا في الاحتجاجات المعارضة للحكومة في سبتمبر/أيلول 2013. عندما يتحالف الإسلام السياسي مع العسكر: أما الموسيقار "ضياء ميرغني" الذي شارك من قبل في انتفاضة 1985 وله مساهمات في العمل العام والمعارض خلال العقود الماضية، فيعتبر أن خطورة الإسلام السياسي الذي يمثله نظام الإنقاذ ومن كان علي شاكلته يجعل من محاربته ومعارضته ، وكأنه حرب علي الدين نفسه بالأساس. وهو ما يجعل بقاءه في السلطة زمن أطول من غيره حتى تنكشف مراميه الحقيقة وتفوح رائحة الفساد والإفساد كما يحدث الآن. مجتمعيا؛ يرى ميرغني ان ما حدث من تغيير وإدخال كثير من السلوكيات والقيم المخالفة للطبيعة السودانية علي مدي 25 عاما جعل من استعداد الشعب للتغيير في غالبه الأعم ضعيفا، وبالنظر لحجم التضحيات التي قدمها هذا الشعب في السابق وترافقت مع خيبة أمله العريضة في الأنظمة التي تسمي ديمقراطية، فقد الشعب لحد كبير الثقة في كثير من القيادات السياسية التي وصلت لسدة الحكم في فترات الديموقراطية المحدودة. الضغط الخارجي كسبيل: ويرى ميرغني الذي كان ضحية لاعتقالات متكررة بما فيها التعذيب في المقار التي عرفت ب"بيوت الأشباح" أنه "لم تعد وسائل الثورة كاملة بيد الشعب. مثلما حدث في أكتوبر وفي ابريل علي اعتبار ان ديكتاتورية 30 يونيو السودانية قد جردت الشعب من كثير من أسباب قوته وحلت النقابات وعملت علي إحلال عناصرها في الجيش ليصبح عقائديا كما هو الحال في جميع تجارب حكم الحزب الواحد، بالإضافة إلى تكوين مليشياته الخاصة واستيراد عناصرها من بعض دول الجوار، كذلك أداة القمع النظامي الشديد، لذلك لا بد من مخرج مختلف وهو الثورة الشعبية المسنودة أو المحمية بالعمل العسكري مع الضغوط الدولية فالنظام في السودان لا يخشى إلا الضغوط الدولية، وهذا هو المخرج الأمثل . نسيبة منصور، إحدى الصحافيات والناشطات في الحراك العام الذي تشهده البلاد، ترى ان النظام مستمر فعلا ولكن لأسباب مختلفة في كل عقد، فمنذ العشرية الأولى ومع وجود عرَّاب النظام الشيخ حسن الترابي لعب النظام علي عاطفة الشعب الدينية بالأخص، وصور السودان وكأنه مستهدف من قبل الدول العظمي لنظامه الإسلامي، هذا التصور عزف علي عاطفة بسطاء الناس المتأججة تجاه الدين وعمل على خداعهم، من جانب آخر عمل النظام على التنكيل الشديد بالمعارضين، وفتح بيوت الأشباح سيئة السمعة لاستقبالهم مما أضعف العمل المعارض السلمي وأدخل المعارضة في منطقة العمل المسلح من خارج السودان، وهو ما افقدها الكثير من تعاطف المجتمع. إعلاميا، نجح النظام عبر آلته الإعلامية في تصوير معارضيه وكأنهم خونة خصوصا بعد التحالف مع الحركة الشعبية التي صورها النظام برأس الكفر وعميلة إسرائيل، فشكل رأيا شعبيا شماليا ضد المعارضة ككل. التمكين الاقتصادي لمنسوبي النظام اقتصاديا، ترى منصور أن جزء من سر بقاء النظام، هو سيطرته علي مفاصل الدولة الاقتصادية ومراكز القرار الاقتصادي عبر ما سمي بالصالح العام حيث شرد آلاف الكوادر العمالية والمهنية المؤهلة لصالح منسوبيه، وسمي هذه المجزرة بالتمكين. وبعد مفاصلة الرابع من رمضان 1999بين البشير والترابي (حيث خرج الأخير عن الحكم) غيرت الإنقاذ جلدها وتخلت عن اللهجة العنيفة والتهديد، وان استمرت الممارسات السابقة موجودة؛ فتحت ضغط المجتمع الدولي وقعت اتفاق نيفاشا (لوقف الحرب بالجنوب) ووقعت قبلها العديد من الاتفاقات مع بعض الأحزاب وان بقيت في ضلالها القديم، تمارس التمكين وتشق صف الأحزاب؛ تارة بشراء الذمم، وتارة بادعاء حرصها علي المشاركة. هل المعارضة ناضجة وواعية لمخططات النظام: وتنتقد منصور بشدة المعارضة السودانية كونها لم تتعامل مع نظام الإنقاذ بالنضج الكافي وغلبت المصالح الحزبية الضيقة في كثير من الأحيان علي المصلحة الوطنية، ولم "تتسامى" علي صراع اليمين واليسار التقليدي، فحين نجحت في الاتفاق علي برنامج حد أدنى (في عدة مؤتمرات في التسعينات ومنها مقررات أسمرة وغيرها) فشلت تماما في إنزالها إلى أرض الواقع.