مدرب المنتخب السوداني : مباراة غينيا ستكون صعبة    لميس الحديدي في منشورها الأول بعد الطلاق من عمرو أديب    شاهد بالفيديو.. مشجعة المنتخب السوداني الحسناء التي اشتهرت بالبكاء في المدرجات تعود لأرض الوطن وتوثق لجمال الطبيعة بسنكات    شاهد بالفيديو.. "تعب الداية وخسارة السماية" حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي ترد على معلق سخر من إطلالتها قائلاً: "لونك ضرب"    تحولا لحالة يرثى لها.. شاهد أحدث صور لملاعب القمة السودانية الهلال والمريخ "الجوهرة" و "القلعة الحمراء"    الخرطوم وأنقرة: من ذاكرة التاريخ إلى الأمن والتنمية    الجيش في السودان يصدر بيانًا حول استهداف"حامية"    مطار الخرطوم يعود للعمل 5 يناير القادم    رقم تاريخي وآخر سلبي لياسين بونو في مباراة المغرب ومالي    مصر تؤكد دعمها الكامل لوحدة وسيادة الصومال    شرطة ولاية القضارف تضع حدًا للنشاط الإجرامي لعصابة نهب بالمشروعات الزراعية    استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وراء تزايد تشتت انتباه المراهقين    بدء أعمال ورشة مساحة الإعلام في ظل الحكومة المدنية    ما بين (سبَاكة) فلوران و(خَرمجَة) ربجيكامب    ضربات سلاح الجو السعودي لتجمعات المليشيات الإماراتية بحضرموت أيقظت عدداً من رموز السياسة والمجتمع في العالم    قرارات لجنة الانضباط برئاسة مهدي البحر في أحداث مباراة الناصر الخرطوم والصفاء الابيض    غوتيريش يدعم مبادرة حكومة السودان للسلام ويدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار    مشروبات تخفف الإمساك وتسهل حركة الأمعاء    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    استقبال رسمي وشعبي لبعثة القوز بدنقلا    نيجيريا تعلّق على الغارات الجوية    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    قبور مرعبة وخطيرة!    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما بعد الناصرية – الجزء الأول..عمرو عادلي
نشر في حريات يوم 21 - 08 - 2014

لم يَخْل الحراك السياسي في مصر من مطلع القرن الحادي والعشرين من صور عبد الناصر ومفردات الحقبة الناصرية ومن السياسيين والمثقفين الناصريين. كانت هذه العناصر جميعاً حاضرة في المظاهرات الداعمة للانتفاضة الفلسطينية في 2000، وفي المظاهرات المناهضة للغزو الأمريكي للعراق في 2003، ثم في حركة كفاية، ومع انتشار الاحتجاج السياسي والاجتماعي في سنوات حكم مبارك الأخيرة. ومع تصاعد المعارضة ضد حكم الإخوان المسلمين خلال رئاسة محمد مرسي القصيرة العهد اكتسب استدعاء ذكرى عبد الناصر ومفردات نظامه السياسي وسياساته وحقبته عامة دلالات جديدة أسهمت بشكل جدي ونشط في صياغة الخطاب السياسي للحراك الشعبي في يونيو ويوليو 2013 فما هي هذه الدلالات؟
كان استدعاء عبد الناصر وفترة حكمه حاملاً لمعاني سياسية مكثفة أسهمت في تطوير هوية جماعية للمواطنين المحتجين على حكم محمد مرسي والراغبين في إنهاء حكم الإخوان المسلمين. حملت صور عبد الناصر جنباً إلى جنب مع صور أنور السادات ومع الأعلام المصرية باعتبارهم جميعاً علامات تمثل القومية المصرية الجامعة للمصريين بحكم انتمائهم للبلاد في مقابلة واضحة مع الأممية الإسلامية التي ينادي بها الإخوان، والتي ترتبط بشكل مبهم وغامض مع الانتماء للوطن في نظر الكثيرين من مناهضيهم، ولكن لم تكن هذه هي الدلالة فحسب بل كان في استدعاء عبد الناصر والناصرية استحضاراً لمفردات كالكرامة والعزة، وهي مفردات من قاموس التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار في الخمسينيات والستينيات على حد تعبير شريف يونس في كتابه الرائع "نداء الشعب"، وكانت الكرامة هنا بالطبع تشير لاستقلال القرار الوطني الممثل في خلع الجيش لمحمد مرسي بدعم أو بناء على طلب الجماهير في مواجهة موقف غربي وخاصة أمريكي فسر من قبل مناهضي الإخوان على أنه داعم لهم.
بيد أن ناصر والناصرية حملت معاني أخرى للحراك الأخير كان أحدها بالقطع استدعاء صور وتمثلات العقد الاجتماعي "الناصري" الذي نشأ في أعقاب الاستقلال الوطني في منتصف الخمسينيات، والذي تمثل في بناء الدولة لتحالف اجتماعي عريض يقوم على عمال القطاع العام، وطلاب الجامعات وموظفي الدولة والجنود في الجيش وغيرهم من قوى الشعب العامل، وليس هناك شك في أن خيال العدالة الاجتماعية منذ بدء الاحتجاج الاقتصادي-الاجتماعي ضد مبارك في 2004/2005 كان ناصرياً بامتياز كونه في النهاية احتجاجاً على تآكل مكتسبات هذه الطبقات الاجتماعية منذ الانفتاح بشكل مطرد ومستمر. ويضاف لهذه الدلالات الثلاث دلالة رابعة لاستدعاء ذكرى ناصر ومفردات الحقبة الناصرية للمشهد الاحتجاجي ضد الإخوان وهو اعتباره رمزاً للحداثة في مواجهة القوى الظلامية المعادية للتحديث. وقد كانت الحداثة وخاصة الادعاء بالتوفيق بينها وبين الأصالة أحد الأركان الأيديولوجية للنظام الناصري كغيره من النظم السياسية التي نشأت في مرحلة ما بعد الاستقلال، وحملت لشعوبها آمال التحديث السريع والتصنيع والعدالة الاجتماعية وانتشار التعليم العام وتحرير المرأة.
لم يكن حضور عبد الناصر ومفردات الحقبة الناصرية جديداً أو داعياً للعجب فكما سبقت الإشارة فإن المثقفين والصحفيين والنقابيين الناصريين ما انفكوا يلعبون دوراً محورياً في صياغة خطاب الاحتجاج السياسي في السنوات الأخيرة لمبارك، ويحضرنا هنا كتابات عبد الحليم قنديل كمثال لصحفي ناصري الانتماء أيديولوجياً وحزبياً كان من أول وأجرأ من تناولوا مبارك وعائلته بالنقد الصريح في العديد من مقالاته الصحفية ثم في سلسلة من الكتب التي أعادت نشر بعضاً من هذه المقالات، وكان هجوم قنديل على نظام مبارك على أساس كونه امتداداً لنظام السادات، وردة عن ثوابت النظام الناصري خاصة في قضايا السياسة الخارجية والاقتصاد. ولم يكن قنديل وحيداً في تصوير نظام مبارك في آخر عهده كصورة شبيهة بالنظام الملكي قبيل ثورة/انقلاب يوليو 1952: ملك/رئيس فاسد تحيط به أسرة فاسدة مع تدهور شديد في وضع مصر الإقليمي والدولي (حرب فلسطين/غزو العراق) وتفاقم للأزمة الاجتماعية في صورة الإضرابات العمالية والتظاهرات المناهضة للنظام، ولم يكن صعباً استشفاف رؤية قنديل للحل لهذه المعضلة ممثلة في تحرك آخر للجيش كي يقضي على مشروع التوريث، ومن ثم مد عمر هذا النظام الفاسد بعد خروج مبارك من الحكم، مدعوماً من الشعب. ولا شك أن رؤية قنديل كانت كاشفة عن بعد نظر شديد وعن فهم عميق لتفاعل الدولة والمجتمع في مصر فالبلاد كانت بالفعل على شفا ثورة، ولم يكن نجاح هذه الثورة ممكناً دون تخلي الجيش عن مبارك، ومن هنا يمكن القول إن قنديل قد تنبأ بأن "الشعب والجيش إيد واحدة" ضد مبارك ونظامه قبل سنوات من تحقق المشهد في أركان ميدان التحرير. وقد عكس ناصريون آخرون كمصطفى بكري هذا الموقف من خلال قراءتهم لثورة يناير باعتبارها انقلاباً عسكرياً وثورة شعبية في آن واحد على الرغم مما يحيط بهذه القراءة من تناقضات وفي الأغلب عدم دقة تاريخية.
مع تصاعد الأحداث في يونيو ويوليو 2013 لعب المثقفون الناصريون دوراً شديد الأهمية في صياغة الخطاب السياسي المناهض للإخوان بالإسهام في تشكيل خطاب قومي مصري في مواجهة خطاب الإسلام السياسي، وفي صياغة الصراع السياسي في البلاد على أنه صراع آخر من أجل تحقيق الاستقلال الوطني (من الولايات المتحدة والغرب مضافاً إليهم مقاطع من الخطاب الساداتي الكاره للفلسطينيين ممثلين في حماس وقطاع غزة)، كما ساعدوا كثيرا خاصة من خلال وسائل الإعلام في الحديث عن تدخل الجيش في 3 يوليو بعزل مرسي على أساس أنه دعم لثورة شعبية أو ما يمكن اعتباره انقلاباً تصحيحياً لإعادة الثورة لمسارها بعدما ضلت السلطة طريقها لأيدي الإخوان المسلمين. وقد تجلت الناصرية الجديدة إن جاز التعبير في عدة مقولات مثلت الإطار السياسي لإقصاء الإخوان من الحكم من خلال تدخل الجيش المدعوم من الجماهير المحتجة والمحتشدة في الميادين منها إنقاذ الدولة الحديثة / المدنية في مصر من الإخوان وأعوانهم، ومنها إنقاذ البلاد من الصدام الأهلي والفوضى. ومع تأجج الصراع السياسي قبيل وبعيد فض اعتصام رابعة العدوية أسهم الناصريون مع غيرهم في تكريس صورة الفريق السيسي باعتباره ممثلاً للجيش المصري من ناحية، وممثلاً للحراك الشعبي المدعوم من الجيش (وربما العكس) من ناحية أخرى.
وتماشى هذا بالطبع مع حضور لساسة ونقابيين ناصريين في الصورة كالدكتور حسام عيسى وزير التعليم العالي والنقابي المعروف كمال أبو عيطة وزيراً للقوى العاملة واللذين استخدما رأس المال التنظيمي والثقافي الذي كوناه خلال حكم مبارك وفي المرحلة الانتقالية لدعم خارطة الطريق التي وضعها الجيش، ولمقاومة ما رآه الكثيرون دفعاً للبلاد إلى هاوية الفوضى من جانب الإخوان الذين كانوا يحرصون كل الحرص على التأكيد على "كسر الانقلاب" و"عودة الشرعية". وهنا وبصورة مبكرة بدأت مفردات الناصرية تُسْتدعى بجانب الحرب على الإرهاب ومواجهة الفوضى لتبرير مصادرة الدولة لمساحات من المجال العام التي تحررت بعد سقوط دولة مبارك الأمنية على يد ثورة يناير 2011 . فنجد أن كمال أبو عيطة قد بدأ يتحدث عن ضرورة تعليق الإضرابات حتى تستقر الأمور، ويذكر العمال بواجباتهم الوطنية، في تجل واضح للتناقض الكامن منذ البداية بين كونه ناصرياً ينطلق من تجربة قوضت العمل النقابي المستقل لصالح مكتساب اقتصادية لعمال القطاع العام، وكونه نقابياً (ولسخرية الأقدار) أحد أبطال الحركة النقابية المستقلة التي تمردت على ذات البنى ناصرية الأصل التي ورثها مبارك كالاتحاد العام لنقابات عمال مصر. وتكرر المشهد بصور ليست أقل درامية مع حسام عيسى الذي وجد نفسه في مواجهة استقلال الجامعات والحراك الطلابي (الداعم جزئياً للإخوان) والذي كان هو ذاته أحد أبطاله منذ نهاية عهد مبارك.
لم يتوقف استدعاء التجربة الناصرية كمستودع للمعاني القابلة لإعادة التأويل في سياق الصراع السياسي في مصر عند صياغة الخطاب المناهض للإخوان قبل 30 يونيو وبعدها إنما انتقل إلى دعم جهود الجيش ومعه تحالف 30 يونيو في تشكيل سلطة سياسية جديدة، وهو ما تجلى بوضوح في الإصرار على رسم أوجه شبه بين السيسي وبين عبد الناصر، وبين دور الجيش في 1952 ( لحظة تأسيس نظام يوليو) ودور الجيش في 2013 لحظة تأسيس نظام ما بعد مبارك وما بعد الإخوان. ولا شك أن هذه الجهود من جانب الناصريين والأطراف ناصرية المخيال والمرجع قد اختلطت بجهود أطراف أخرى داخل التحالف الحاكم تراهن على إحياء الدولة الأمنية، ومصادرة المجال العام مرة أخرى في إطار الحرب على الإرهاب واحتواء محاولات الإخوان لزعزعة الاستقرار وتعطيل المسار الانتقالي التالي على عزل مرسي.
ومما لا شك فيه أن ثمة تناقضاً ما بين المشروعين السياسيين (إن جاز إطلاق وصف مشروع عليهما) وهو أن إعادة السيطرة الأمنية على المجال العام قد تكون قاسماً مشتركاً بين الناصريين والأجهزة الأمنية والاستخباراتية في الدولة المصرية، التي هي نفسها ابنة النظام الناصري القائم منذ 1954، على مصادرة المجال العام وإخضاعه للرقابة والإدارة الأمنية ولكن يظل الفارق شاسعاً بين إعادة إحياء نظام يوليو في صيغة ناصرية جديدة بما يتطلبه هذا من إصلاحات اجتماعية واقتصادية واسعة النطاق تبرر مصادرة المجال العام من جديد، وبين إعادة إحياء نظام مبارك بانحيازاته الاجتماعية والاقتصادية وسياسته الخارجية. ولعل هذا مصدراً حقيقياً للتوتر بين العديد من الناصريين الذي قد يتسامحون مع إحياء الدولة الأمنية وإنشاء مجال سياسي مقيد بوصاية دولتية عسكرية/ قضائية بمقتضى الدستور الجاري إعداده، ولكن مقابل إصلاحات تحقق المطالب الاقتصادية والاجتماعية ( أو بعضها على الأقل) بما يضمن إحياء التحالف الناصري القديم، ويولد نظاماً اجتماعياً ما يحظى بقدر أكبر من الشرعية والتأييد. ويمكن قراءة تشريع الحد الأدنى والأقصى للأجور في هذا السياق. ولكن يظل مربط الفرس حقا هو موقف الجيش من إصلاحات اقتصادية واجتماعية واسعة النطاق ستؤدي حتما لصدام المؤسسة العسكرية مع المصالح القوية داخل جهاز الدولة وفي الاقتصاد، والتي تولدت في عصر مبارك (وربما السادات).
نشر أنور عبد الملك في 1968 كتابه الشهير "مصر مجتمع عسكري"، وقدم تحليلاً ماركسياً لانقلاب/ثورة يوليو 1952 كان أساسه أن الجيش قد تحرك لإنقاذ الأطر العامة للنظام الاجتماعي في مصر فتمخض عن هذا ما يمكن تسميته ثورة من أعلى أو ثورة محافظة وبالطبع لفظ ثورة هنا لا يعني الكثير بقدر ما إنه يشير إلى إصلاحات بحق واسعة النطاق أحدثتها القيادة السياسية الجديدة المنبثقة عن الجيش كالإصلاح الزراعي ومد التعليم المجاني والحصول على الاستقلال الوطني وتمصير ثم تأميم رأس المال الكبير والشروع في التصنيع الثقيل، وكلها مطالب للطبقات العمالية والمتوسطة في المدن والريف منذ نهاية الأربعينيات عجز الوفد عن تحقيقها. وبمعية هذه الإصلاحات صادرت المؤسسة العسكرية (أو السلطة السياسية الناشئة عن تدخله) المجال السياسي وقضت على الوفد والحياة الحزبية ثم ما لبثت أن سحقت أقصى اليمين (الإخوان المسلمون) وأقصى اليسار (الشيوعيون)، وكما قال شريف يونس عزل الجيش الملك ليحتل محله، وليحل التناقضات التي ضربت النظام السياسي بين 1923 و1952 بحل الوفد ومصادرة السياسة وإجلاء الإنجليز وإنشاء نظام سياسي يقوم على البيروقراطية وامتداداتها في التنظيم الحزبي الواحد.
على أن السؤال الحرج الذي يواجه المشروعين معا هو وجود الأدوات من عدمها لمصادرة المجال العام فبينما يبدو الأمر محسوماً فيما يتعلق بإعادة نظام مبارك للحياة إذ إن ترتيبات النظام نفسه هي مصدر استمرار الاحتجاج بشقيه السياسي والاقتصادي، وقد أثبتت السنوات الثلاث التي تلت ثورة يناير أن القمع وحده لا يكفي، وأنه يؤدي فحسب لتأسيس نظم سياسية لا تحظى باستقرار يذكر، ومن ثم فما من مفر من تقديم تنازلات اجتماعية ما تكفل قيام تحالف اجتماعي سياسي لنظام ما بعد مبارك، ولكن يظل السؤال معلقاً عن إمكانية توليد شرعية إنجازية تضاهي شرعية عبد الناصر ونظامه في الخمسينيات والستينيات لتبرير مصادرة المجال العام مرة أخرى، وكذا عن مدى توفر رؤية والتزام لدى المؤسسة العسكرية لإجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية واسعة النطاق في ظل الانقسام السياسي العنيف الحالي، والمرشح للاستمرار، والاستقطاب الذي يتولد عنه بين معسكر مصري وطني لا يجمعه بالأساس سوى الخوف من الإخوان أو الرغبة في إقصائهم عن المجال السياسي، ومعسكر إسلامي آخر يرى أعضاؤه أنهم يخوضون معركة وجودية.
لقد بنى عبد الناصر شرعيته على الإنجاز من اتفاقية الجلاء في 1954 إلى تأميم القناة والانتصار سياسياً في أزمة العدوان الثلاثي في 1956، والموجات الأربع من الإصلاح الزراعي التي خلقت طبقة واسعة من صغار ومتوسطي الملاك في الريف داعمة للنظام السياسي ومخلصة لتوجهاته وسياساته، ولإنشاء قطاع عام صناعي ومعه السد العالي، ومد التعليم الجامعي المجاني مع ضمان وظيفة عامة للخريجين. إن نظام عبد الناصر وتحالفه الاجتماعي أو قل العقد الاجتماعي الذي استند إليه كان من نوع الشعبوية السلطوية كما صنفه بيانكي في الثمانينيات Populist Authoritarianism، وهو ترتيب يقوم على استبدال الحقوق السياسية بمكتسبات اقتصادية. فهل يمكن لأي طرف توليد مكتسبات اقتصادية في المدى المتوسط (ولا أقول القصير) بما يولد تحالفاً اجتماعياً راسخ الأقدام كذاك الذي ولد في دولة ما بعد الاستقلال في مصر، وميز عصر ونظام عبد الناصر؟ والإجابة القاطعة هي بالنفي لأن السياق العالمي اليوم لا يسمح بظهور هذه التحالفات الاجتماعية أو الترتيبات الاقتصادية والسياسية نتيجة ظروف عديدة هي التي قضت على نظامي السادات ومبارك باتخاذ إجراءات اقتصادية تحريرية قوضت شرعية النظام وحكمت عليه بالتفكك البطيء وبمواجهة حركة احتجاجية أخذت تتصاعد حتى وكزته وقضت عليه في يناير 2011.
ولكن هذا لا يحملنا على تجاهل حقيقة ماثلة في مصر وهي أن خيال العدالة الاجتماعية ناصري بامتياز، وأن الناصرية قد لا تكون أيديولوجية متماسكة أو متجانسة كالإسلام السياسي أو الماركسية، وقد لا تكون قوة تنظيمية حزبية أو نقابية إلا أنها ولا شك جزء أساسي من الثقافة السياسية ومن المخيال السياسي للطبقات العمالية والوسطى الحضرية والريفية في مصر. ويضاف إلى هذا أن الفشل المبكر للإخوان المسلمين كان راجعاً إلى أن المشروع الهوياتي الإسلامي كان يفرق أكثر مما يجمع، وأنه أدى لانقسامات اجتماعية عنيفة خلال الصعود السياسي القصير للإخوان المسلمين، بينما أثبتت الصياغات القومية المصرية (والناصرية والساداتية تجليات لها) أنها أكثر رحابة وتقبلاً للتعدد بين المصريين، وبالتالي فإنها تمثل أساساً أيديولوجياً أرسخ لتحالف سلطوي جديد، هو الذي يستند عليه الجيش اليوم وتحالف 30 يونيو في التصدي للإخوان وإعادة تصميم المجال السياسي بإقصائهم منه.
ومن هنا يبدو أن جوهر الإشكال الذي تواجهه مصر اليوم هو أن العقد الاجتماعي الوحيد الماثل في خيال الكثيرين من المصريين ناصري بامتياز عائد لدولة ما بعد الاستقلال، ولكن إعادة إنتاج هذا التحالف غير ممكنة في ظل الظرف العالمي الذي يقضي على مصر بالاندماج في النظام العالمي لا اقتصادياً جراء الاعتماد على تدفقات السلع ورأس المال من الخارج فحسب، وإنما ثقافياً وسياسياً كذلك، إذ لم تعد هناك مساحة حقاً للصيغ الأولى لدول ما بعد الاستقلال، ولليسار القومي التقليدي، أو للاقتصاد الدولتي. هذا بالطبع لا يعني أنه ما من مساحة للتحول الاقتصادي والاجتماعي في مصر، إذ إن الوضع القائم خاضع للتفاوض ولا شك وخاضع لإعادة الترتيب لإنتاج نظام اجتماعي ( وليس سياسياً فحسب من الناحية الإجرائية) أكثر شعبية وأكثر شرعية في عيون الغالب من المصريين بما يضمن له البقاء والاستقرار. ولكن شروط هذا التفاوض من الأصل تجعل الصيغة الناصرية القديمة أو تجلياتها الجديدة غير ممكنة ولا محتملة في أي وقت قريب رغم كل الدعاية والنشاط الإعلامي المكثف. فهل هذا يعني أن الناصرية قد ماتت وأننا بصدد غياب أي إطار لإعادة بناء النظام الاجتماعي في مصر؟ إن الإجابة مرة أخرى هي بالنفي. قد تستمر الناصرية مرجعية ما للدولة وللقوى السياسية، ولكنها مرجعية مرشحة للتجاوز إلى مرحلة ما بعد الناصرية. والمقصود بها صيغة لتحالف اجتماعي يضمن دوراً أكبر للدولة في توزيع الدخل والثروة، وفي تمكين المزيد من المواطنين من المشاركة في النشاط الإنتاجي ومن ثم في الحصول على عوائد النمو الاقتصادي (خلافاً لما كان قائماً في عهد مبارك الأخير)، ولكن دور الدولة هنا لا يعني حلولها محل القطاع الخاص من خلال التأميم أو توسيع القطاع العام ولا يعني قطعاً حلول البيروقراطية محل المجال السياسي بمصادرة الحريات النقابية والطلابية والحزبية، إنما يعني استحضار ترتيبات العدالة الاجتماعية من خلال تعريف دور الدولة في اقتصاد تعددي وفي مجال سياسي تعددي بما يدفع بالناصرية هنا إلى وضعية قريبة من اليسار الجديد رافضة للصيغة النيوليبرالية من الرأسمالية ولكنها ليست بالضرورة تدور في فلك اشتراكية أو رأسمالية الدولة.
إن هذا المقال لا يهدف بحال إلى وضع صيغة محددة ومعرفة مسبقا لما بعد الناصرية أو لكيفية قراءة التجربة الناصرية في مرحلة ما بعد مبارك وما بعد بعده إنما تهدف لبدء النقاش العام حول هذه القضية، وللشروع في حوار مفتوح حول الأسس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لنظام اجتماعي أكثر شرعية وأكثر استقراراً في السنوات القادمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.