هذا العنوان اترككم معها ولتحكموا بأنفسكم عليها ، فهي خرجت من رحم الخصوصية الى رحم العموم . ليست مجرد انتفاضات قلم ، ولا هي حقا اسطورة نتلوها على الأطفال نستجمع منها في قلوبهم ، الشغف ،والحماس ، والرهبة ، والأنفعال الطفولي الجميل ، وليست أطروحة نضعها بين أيدي كبار الكتاب ، نستنتج فيها مواقع الضعف ومواقع القوة ، هي حياة مرت فوقنا ، ومررنا فوقها ، دخلت في أدق تفاصيلنا ، وعشنا أدق تفاصيلها ، أسدلت بعض الملامح على شخصيتنا ، التي إن كان هناك من كونها ، فسيكون التاريخ الهوية الجنوبية، والحلم الجنوبي، واطفال جنوب ، وسواعد العمل الوطني ، قضايا ، لم نكن نحن من صاغها ، بل ان التاريخ هو من صاغها، هو من دفعنا لصياغتها في قلوبنا قبل عقولنا ، وبأيماننا قبل خوفنا ، كانت قضيتنا التي نسعى إليها في كل حين ، وكل ثانية ، وكل التقاطة نفس وطرح أخرى، جنوب السودان ، تلك التي تشكلت حروفها على مر الزمن ، وتعبثرت أشلائها تحت اقدام القيادات الآفلة والقائمة على الامور ، جنوب السودان لم تكن مجرد وطن ، بل كانت خلايا دم تسبح في أجسادنا ، تدخل قلوبنا ، تغذي عقولنا ، وكانت الهواء الذي نتنفسه ، والماء الذي نشربه ، والطعام الذي نزرده في كل حين ، كانت أحلام نومنا ، وواقع صحونا ، بمعنى آخر جنوب السودان كانت أنا وأنت وهو وهم وأنتم ،جنوب السودان ليست مجرد وطن ، ولا أرض ، ولا هوية نحملها بين أيدينا نتوجه بها إلى العالم ، ولم تكن مجرد رواية نرويها لكم ، ولم تكن مجرد علم تكون من خمسة ألوان ونجمة إن مر عليه المطر زالت معالمه ، وإن هبت عليه الريح تمزقت أوصاله ، ولم تكن مجرد بقعة من أرض علمها الجنوبي بغيمة ،وحين سارت الغيمة في طريقها فقدنا البقعة ، جنوب السودان هي قبل كل شيء حلم تخلج في أعماق أعماقنا ، ترسخ في صحوتنا قبل منامنا ، أصبح بعدها واقعا ، علينا وعليكم وعليهم تقبله شاء أم أبى ، جنوب السودان هي تلك القلب النابض في أجسادنا الموتى ، والريح التي تسري لتصل إلى كل ثنية من ثنيات الحياة ، والمطر الذي تبكيه السماء على الأرض القاحلة تروي عطشها ، جنوب السودان بقعة تلاقت فيها القلوب ، وحنت إليها الأعين ، وانتظرتها الأجيال يوما بعد يوم . ولكن ماذا حدث بعدما حققنا حلمنا جلس قياداتنا هنا ليتقاسموا الغنيمة فيما بينهم ولكنهم اختلفوا في الأمر وقاتلوا في ما بينهم ومات ألاف من المواطنين جراء خلافاتهم وتغيير مبادئهم ومواقفهم النضالية لنكشف اليوم أن الحلم ضاع في يد هولاء الساسة ، الذين يقومون بالسياسة السياسوية الذي نتج الازمة وعصفت بكياننا وبدد حلمنا . كثيراً ما كنت أسائل نفسي ساهماً، وأنا أمعن النظر مترفقاً بها، مداوياً جراحاتها بمرهم مزيجه الصبر والخيال والأمل، ومقلباً صفحات دفتر العمر الشعب أصبح كأالماء من بين أصابع الزمن الذي لا يرحم ولا يقدر عليه أحد: هل كان لهذه الحياة معنى يبرر كل هذا العناء؟ وهل كانت لدروبها الزلقة قيمة تسوغ الاعتداد بالنجاة في اللحظة الأخيرة دائما، والصمود بقليل من الحظ على حافة الحافة؟ هل كانت التضحيات الشخصية ذات جدوى ولها ما يبررها، أم كانت مجرد حرث في بحر هائج الأمواج؟ حين كان يداهمني الارتياب أحياناً، وينوء عليّ بكلكله، كنت أقول في نفسي لنفسي: لم لا؟! ففي كل مسيرة حياة جراح وترضيات، وفيها عزاء كثير وطيبات. فلكل شجرة ظلها، ولكل وردة عطرها الخاص؛ على نحو ما لكل خيار كلفة عادلة، ولكل مجتهد نصيب. الأمر الذي كان يعيدني إلى الاعتصام على باب التصالح مع الأقدار المقدرة، ويحملني على إقامة التوازن الداخلي بين الادعاءات الأخلاقية، والضرورات الموضوعية الملحة على جبهة الحياة العاصفة.