مشعل الطيب قد تحتفل شعوب الأرض بأعياد إستقلالها كتذكير لأبنائها بأيام التحرر من ربقة الأجنبي المستعمر وكتجديد لروح الإنتماء الوطني وتكريس الوحدة القومية بين أبناء الشعب الواحد .. يوم الإستقلال يكون في هذه الحالات يوما وطنيا حقا يتعاهد فيه أبناء الوطن على تحقيق رفاهية بلدهم وتنميته ويؤكدون فيه انتمائهم له وحبهم وتقديرهم لقادتهم الحريصين على الوطن حاضره ومستقبله .. الإحتفال بالإستقلال في هذه البلدان التي حققت ذاتها ورفعتها وطموح ابنائها يصبح بحق أعيادا وطنية يفرح فيها الجميع بالنجاحات وتحقيق الطموحات ورغبات جيل الإستقلال والآباء المؤسسين .. في حالتنا للأسف الشديد لايذكرنا هذا اليوم سوى بالخيبات والفشل .. فالحكم الوطني في السودان بمختلف عهوده لم يكن سوى تكرار لفشل النخبة السياسية السودانية في إدارة البلاد بتنوعها وتعددها .. لقد سلمنا البريطانيون دولة عظيمة موحدة بمؤسسات ضخمة ومشروع زراعي كبير ومؤسسات تعليمية راقية وجهاز مدني وعسكري كانا قمة في الإنضباط والمهنية .. كان هذا حالنا عندما كانت الدول بجوارنا صحارى بدائية ينظرون إلينا في غبطة ويتطلعون لما بلغناه من تطور ورفعة .. لقد صنع المستعمر الغربي من السودان دولة كانت تقف على الطريق الصحيح للنهضة الشاملة ثم سلمها لأبنائها دون إراقة نقطة دم .. فماذا فعلوا ؟ لقد فشلت النخب ومنذ البداية في إدارة التنوع العرقي والثقافي بمحاولة فرض ثقافة واحدة على غيرها .. كما وفرضت بقوانين السودنة تحكم عرقيات بعينها على مؤسسات الدولة دون مراعاة للحساسيات العرقية فاندلعت بذلك شرارات التمرد المسلح في الجنوب ومنذ العام 1955 .. وبينما كانت مطالب الجنوبيين تتمثل في الفيدرالية والحكم الذاتي انتهت بفضل قصر النظر والتعنت الذي أصاب حكام الخرطوم للمطالبة بالإنفصال الكامل وتحقق لهم ذلك بعد كفاح طويل وخسائر باهظة دفع ثمنها أبناء الجنوب والشمال .. على الصعيد الإقتصادي كان الحكم الوطني كارثة حقيقية .. حيث نخر الفساد مؤسسات الدولة وأصبحت المناصب الرسمية أدوات للغنى السريع ومرتعا للفاسدين .. بينما ابتعدت الدولة عن هموم الشعب وقضاياه لتنشغل بصراعاتها وتحقيق غايات مسؤوليها ورغباتهم .. وأضحى الجيش مركبا للمغامرين والطامحين للسلطة فكثرت الإنقلابات وتعددت ثم أصبح من بعدها أداة لتسوية الخلافات السياسية وإدارة الصراعات في أطراف البلاد .. وبدلا من أن يكون إقتصاد البلاد زراعيا صناعيا تحولت البلاد بفضل سياسات الحكم الحالي ومن سبقه إلى الرأسمالية الطفيلية غير المنتجة فبارت مشاريع الإنتاج وأغلقت المصانع أبوابها بينما غزت البلاد المنتجات المستوردة فربحت طبقة من التجار وضباط الجمارك والمتنفذين وخسر معظم الشعب الذي أصبح كاليتيم في مواجهة جشع السوق وفساد المسؤولين .. تحولت الدولة في ظل الحكم الوطني إلى غول يبتلع خيرات البلاد وأرزاق الشعب دون مقابل .. لقد كرست الدولة السودانية لنشوء الفوارق الطبقية وانعدام العدالة الإجتماعية والفساد والظلم .. بينما كرست الأحزاب السياسية للإستغلال السياسي للدين والطائفة والإستثمار المنهجي للتخلف والتوظيف الأمثل للإنتهازية و النفعية .. وبعد فلا معنى حقيقي للإحتفال بما يسمى بعيد الإستقلال .. ببساطة لأنه لا معنى له .. ولنا أن نتسائل .. هل حقا استقل الشعب السوداني ؟ وهل يعني الإستقلال الحرية وتحقيق الرفاهية ؟ وهل الشعب السوداني حر ؟ لقد إنتقلنا ببساطة من مستعمر بريطاني قدم لنا الكثير بغضل علمه وتخطيطه المدروس إلى مستعمرين محليين قادونا إلى الحضيض بفعل حماقاتهم و تخبطهم وعشوائيتهم وجشعهم وقصر نظرهم .. وبالتأكيد لسنا أحرارا فبإمكان أي عسكري مرور أن يهينك ويبتزك في أية لحظة ولا يجد المواطن أي نوع من الإحترام في أي من مؤسسات الدولة دعك من هدير الأنتنوف وهي تلقي القنابل في أطراف الوطن .. لقد كان العسكر ومازالو أداة في يد الدولة المستبدة لإذلال الشعب السوداني تشهد على ذلك حوادث جودة و بورتسودان وكجبار ودارفور والجنوب وحوادث لا تنتهي منذ مايسمى بالإستقلال وحتى الآن .. هذه هي الحقيقة العارية الخالية من العواطف و الكلمات المنمقة .. الحقيقة المرة التي لن يغير طعمها الأغاني الوطنية التي أدمنا سماعها .. النظر الموضوعي إلى هذه الذكرى يقودنا بالضرورة إلى الندم على تسليم مصير البلاد إلى مجموعة من النخب الفاشلة التي قادت الشعب إلى الهلاك والفقر وقادت الوطن إلى التخلف و التقسيم والفوضى والصراعات .. ربما كان من الأفيد للسودانيين أن يظلوا في حكم الإنجليز لعقود أخرى .. فقد كان استعمارا نافعا نمت بفضل حكمته البلاد وازدهر اقتصادها وفي ظله انتشر التعليم والرقي والتسامح .. ربما أصبحنا كهونج كونج بعد أن حكمها الإنجليز مئة عام .. لم لا وهي جزيرة صغيرة خالية من الموارد بينما نحن بلد ضخم وغني لكنه خالي من الضمائر .. هذا ليس إستقلالا .. بل سوء طالع حل على السودان وشعبه .. جدير بنا أن نرفع رايات الحداد الوطني في هذا اليوم المشؤوم .. اليوم الذي ترك فيه الإنجليز شعبا بسيطا لمصيره الأسود .. ليواجه الإستغلال على يد أبنائه .. إنه يوم الإستغلال لا الإستقلال ..