حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    وزارة الخارجية تنعي الجمهورية الإسلامية الإيرانية    كباشي يزور جوبا ويلتقي بالرئيس سلفاكير    (بي ياتو ناحية ؟؟)    بيان توضيحي من وزارة الري حول سد مروي    عبر تسجيل صوتي.. شاهد عيان بالدعم السريع يكشف التفاصيل الكاملة للحظة مقتل الشهيد محمد صديق بمصفاة الجيلي ويؤكد: (هذا ما حدث للشهيد بعد ضربه بالكف على يد أحد الجنود)    شاهد بالفيديو.. لاعب سوداني يستعرض مهاراته العالية في كرة القدم أمام إحدى إشارات المرور بالقاهرة ويجذب أنظار المارة وأصحاب السيارات    بالصور.. الفريق أول ركن ياسر العطا يستقبل الأستاذ أبو عركي البخيت    اعلامي تونسي يرشح الترجي للتتويج بالأميرة السمراء    قال ديمقراطية قال!!!    بالفيديو.. شاهد الفرحة العارمة لسكان حي الحاج يوسف بمدينة بحري بعودة التيار الكهربائي بعد فترة طويلة من الانقطاع    سعر الدولار في السودان اليوم الإثنين 20 مايو 2024 .. السوق الموازي    سعر الجنيه المصري مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    والى ولاية الجزيرة يتفقد قسم شرطة الكريمت    علي باقري يتولى مهام وزير الخارجية في إيران    موعد تشييع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومرافقيه    الحقيقة تُحزن    شاهد بالفيديو هدف الزمالك المصري "بطل الكونفدرالية" في مرمى نهضة بركان المغربي    إنطلاق العام الدراسي بغرب كردفان وإلتزام الوالي بدفع إستحقاقات المعلمين    مانشستر سيتي يدخل التاريخ بإحرازه لقب البريميرليغ للمرة الرابعة تواليا    الجنرال في ورطة    (باي .. باي… ياترجاوية والاهلي بطل متوج)    الإمام الطيب: الأزهر متضامن مع طهران.. وأدعو الله أن يحيط الرئيس الإيراني ومرافقيه بحفظه    "علامة استفهام".. تعليق مهم ل أديب على سقوط مروحية الرئيس الإيراني    إخضاع الملك سلمان ل"برنامج علاجي"    السودان ولبنان وسوريا.. صراعات وأزمات إنسانية مُهملة بسبب الحرب فى غزة    الطيب علي فرح يكتب: *كيف خاضت المليشيا حربها اسفيرياً*    عبد الواحد، سافر إلى نيروبي عشان يصرف شيك من مليشيا حميدتي    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مع سعدية وإبراهيم الصلحي ،، في يوم الزفة وافتتاح سوق الزلعة!
نشر في حريات يوم 19 - 01 - 2015

زرت شيخنا إبراهيم الصلحي تمام الثامنة صباحاً نهايات شهر ديسمبر والبلاد تدلف رويداً لعامها الجديد، زرته بمنزلهم العتيق والكائن في طرف خور أبعنجة الأشهر بنواحي العباسية بأمدرمان، عاودته لمواساته في رحيل شقيقتهما الكبرى هو والأستاذة التشكيلية البارزة سعدية الصلحي، دلفت لصحن الدار ببابها الأم درماني الفاتح على مجموعة شوارع وقلوب معاً، استقبلني الصلحي ببشاشته المعهودة التي ترد لك روح الصفاء وإن كان بك كدر سابق، ويسوقك للفيراندا العتيقة بوسط المنزل، فتهل عليك سعدية شقيقته بسمتها الهاش الباش المعهود، وبروحها المرحة خفيفة الظل والتي خبرها لفيف من المقربين لها، أجلساني في مقعد عتيق – وكل البيت وجنباته ضارب في أعماق التاريخ يحكي عظمة زمان ومكان بكافة تفاصيله – وجدت أمامي "طبلية عتيقة صُفت عليها أوني للشاي، شاي سادة وشاي بأنواع مختلفة من اللبن، من ناحيتي فضلت الشاي بلبن الصباح المقنن، فصبت لي سعدية في إنائي ومدت لي صحوناً من الكعك والبسكويت والكيك بجميع أصنافه، فاخترت أنا كيس النايلون الممتلي بقرقوش الرغيف الناشف، ضحك الصلحي وضحكت شقيقته التي قالت لي: أها أكان عرفت فطورنا ما حتقول إنك فاطر، كان ذلك أوان زفة المولد نهار إفتتاحه بحوش الخليفة، وهي الشعيرة الشعبية التي يحرص شيخنا الصلحي على حضورها سنوياً من مقر إقامته بأكسفورد، حيث يقطع الفيافي تاركاً خلفه كل بقايا تصاويره ومشغولياته سواء كان ذلك في المرسم أو الذهن، ويأتي خصيصاً لخاطر الزفة، والزفة عند الصلحي تعد ضمن طقوس الأمس والحاضر التي من المهم مراعاة الاعتناء بها، وهي قطعاً موروث شعبي فاره عني به فناننا العالمي واشتغل عليه في كثير من لوحاته وأبرز خصاله وقدمه معرفاً به الآخرين، والزفة ممارسة سودانية شعبية خالصة لوجه الله تعالى تحبباً في سيرة رسول البشرية محمد وتقرباً له كأستاذ ومعلم أخرج المسلمين لنور الانسانية الوضاء وعلمهم كيف يحابون خالقهم ويحبون بعضهم بعضاً لو كانوا يفقهون، فتغلغلت ذكرى مولده في حياة السودانيين، حيث قلً أن تجد مدينة أو قرية لا تتمظهر فيها رايات الزفة وضربات نوباتها، وهي التي دفعت بقرائح شعراء السودان لكي تلهج ألسنتهم بالثناء والتبجيل لمناسبة مقدمها كفاتحة لمولد الرسول الكريم، وهو ما حدى بشيخ شعراء شعبنا المغفور له محمد المهدي المجذوب لكي ينشد بصوت المطرب الكابلي ( وهنا خيمة شيخ يرجحن يضرب النوبة ضرباً فتئن)، والزفة طقس شعبي لها عندنا في أم درمان مذاق أقرب لحلاوة المولد نفسها بكافة أنواعها وأشكالها وألوانها، زفة تتلاقح فيها كافة سحنات وملل ونحل شعبنا وأطيافه، من أقصى البلاد لأدناها، شوايقة وبرنو وفور وجعليين، دينكا ونوير وفلاتة وعركيين، بديرية ودهمشية ورباطاب ومحس ودناقلة وغرابة وشلك وأم درمانيين، كواهلة وكبابيش ونوير وزغاوة، عبابدة وكبابيش وأقباط وفونج، شيوعيون واتحاديون وأنصار أمة، مريخاب وهلالاب وقراقير موردة، البرهانية والكباشية والشيخ قريب الله والعركيين، أولاد شيخ اللمين المحايتو بيبسي وحيرانو جيكسي، وأولاد عبد القادر توتو الفقير لله أسياد الدافنة برفقة ناس أحمد داؤود وحسن شمت أهل بيت البكا وتجهيز الكفن والحنوط ومواراة الميت في مقابر البكري وفاروق وأحمد شرفي وحمد النيل وبري، وغيرها من مقابر العاصمة، هذه هي الزفة. وتشير سعدية – التشكيلية المتخصصة في الزي السوداني – إلى أزياء الزفة والمولد، موضحة كيفية تطور أزياء المتصوفة السودانيين منذ حقبة السلطنة الزرقاء، وكيف أن المهدويين إستفادوا منهم واشتغل نولهم على هدى وخطوط السلطنة، مشيرة لاضافاتهم التي ميزتهم عن الحقبة السابقة، حيث كان الزي في فترة حياة المهدي هو (الكرابة) وعلى الجلباب الزيق الأسود بأكمام قصيرة وقصر الجبة نفسها، دلالة على قدرة الركض وعدم الاعاقة ساعات الدواس مع العدو، وبعد وفاة المهدي تطور الزي المهدوي فترة سيادة الخليفة عبد الله وما يدهش حقاً هو تأكيدها بمساهمات الخليفة نفسه في ذلك، حيث كان مصمماً لأزياء جيشه، حيث صمم أزياء أمراءه وجنوده، فهو الذي استنبط الجبة المرقعة ورايات المهدية بألوانها ودلالاتها، وضع علامات الجيش، كرأس المية وخلافه،بحيث أن كل مجموعة من الجنود المقاتلين تتبع لقائدها داخل حلبة المعركة بعد أن تتعرف عليه من خلال لون رايته وزيه!. وامتد حديثها عن أزياء المتصوفة موضحة دلالات غطاء الرأس في السودان، مشيرة لدراسة أعدتها الباحثة أماني عبد الجليل وتعكف سعدية على وضع مقدمة لتلك المخطوطة التي تناولت موضوع غطاء الرأس في السودان ودلالاته لدى جميع السكان والمجموعات والأشخاص رجالاً ونساءاً وأطفالاً، وحول جزئية أزياء المتصوفة أبانت سعدية من مواقع تخصصها، مساهمتها في استنساخ أزياء فترة المهدية من المقتنيات المحفوظة في متحف بيت الخليفة، والتي نجحت في إنجاز تصميمها خوفاً من الضياع، وفي هذا الشأن تناولت دردشتنا ما لحق متحف بيت الخليفة من إهمال بالفعل وضياع كثير من مقتنياته، فقد شهدت فترة مايو ويونيو ضرراً بليغاً لحق بالكثير من القطع الأثرية النادرة، حيث تم توزيع كثير من تلك المقتنيات كهدايا لأمراء وشيوخ الخليج فضلاً عن ضيوف البلاد المتعددين، وقد أشار الصلحي بتهكم مرير ما كان شاهد عيان عليه إبان فترة تبوءه لمنصب وكيل وزارة الثقافة والاعلام سنوات مايو، حيث علم بتوجه صادر لإهداء الرئيس اليوغندي الأسبق عيدي أمين بعضاً من قطع أثرية نادرة من متحف السودان، فأوقف الصلحي الاجراء ووجه بإعادة المقتنيات إلى مكانها، ولكن توجيهاً آخر صدر من عمر الحاج موسى وزير الثقافة وقتها بنسخ توجيه الوكيل ومنح الرئيس اليوغندي تلك القطع الأثرية، دون أي مسوق يسمح بذلك، وفي الشأن رويت لهم تلك المعلومات التي أوردتها مجلة روز اليوسف المصرية في بدايات إنقلاب الانقاذ، حيث اعتقلت السلطات المصرية أحد المطلوبين من الجماعات الاسلامية في الحدود مبين السودان ومصر التي وصلها متسللاً، وكان في معية سيادته كمية من بدرة الهيروين إضافة لبندقية أثرية نادرة الطراز أشارت المجلة إلى أنها ربما كانت ضمن مقتنيات أحد المتاحف الأثرية في السودان!.
داخل بيت الجاك مع سعدية وإبراهيم الصلحي
في يوم زفة المولد وافتتاح سوق الزلعة
حسن الجزولي
زرت شيخنا إبراهيم الصلحي تمام الثامنة صباحاً نهايات شهر ديسمبر والبلاد تدلف رويداً لعامها الجديد، زرته بمنزلهم العتيق الكائن في طرف خور أبعنجة الأشهر بنواحي العباسية بأمدرمان، عاودته لمواساته في رحيل شقيقتهما الكبرى هو والأستاذة التشكيلية البارزة سعدية الصلحي، دلفت لصحن الدار ببابها الأم درماني الفاتح على مجموعة شوارع وقلوب معاً، استقبلني الصلحي ببشاشته المعهودة التي ترد لك روح الصفاء وإن كان بك كدر سابق، ويسوقك للفيراندا العتيقة بوسط المنزل، فتهل عليك سعدية شقيقته بسمتها الهاش الباش المعهود، وبروحها المرحة خفيفة الظل والتي خبرها لفيف من المقربين لها، أجلساني في مقعد عتيق – وكل البيت وجنباته ضارب في أعماق التاريخ يحكي عظمة زمان ومكان بكافة تفاصيله – وجدت أمامي "طبلية عتيقة صُفت عليها أوني للشاي، شاي سادة وشاي بأنواع مختلفة من اللبن، من ناحيتي فضلت الشاي بلبن الصباح المقنن، فصبت لي الخالة سعدية في إنائي ومدت لي صحوناً من الكعك والبسكويت والكيك بجميع أصنافه، فاخترت أنا كيس النايلون الممتليئ بقرقوش الرغيف الناشف، ضحك الصلحي وضحكت شقيقته التي قالت لي: أها أكان عرفت فطورنا ما حتقول إنك فاطر.
قال لي لي الصلحي بفرح طفولي: الليلة الزفة!، وبالفعل كانت زيارتي لهما يوم زفة المولد نهار إفتتاحه بحوش الخليفة، وهي الشعيرة الشعبية التي يحرص شيخنا الصلحي على حضورها سنوياً من مقر إقامته بأكسفورد، حيث يقطع الفيافي تاركاً خلفه كل بقايا تصاويره ومشغولياته سواء أكانت في المرسم أم في الذهن، ويأتي خصيصاً لخاطر الزفة، والزفة عند الصلحي تعد ضمن طقوس الأمس والحاضر التي من المهم مراعاة الاعتناء بها، وهي قطعاً موروث شعبي فاره عني به فناننا العالمي واشتغل عليه في كثير من لوحاته وأبرز خصاله وقدمه معرفاً به الآخرين، والزفة ممارسة سودانية شعبية خالصة لوجه الله تعالى تحبباً في سيرة رسول البشرية محمد وتقرباً له كأستاذ ومعلم أخرج المسلمين لنور الانسانية الوضاء وعلمهم كيف يحابون خالقهم وبعضهم بعضاً لو كانوا يفقهون!، فتغلغلت ذكرى مولده في حياة السودانيين، حيث قلً أن تجد مدينة أو قرية لا تتمظهر فيها رايات الزفة وضربات نوباتها، وهي التي دفعت بقرائح شعراء السودان لكي تلهج ألسنتهم بالثناء والتبجيل لمناسبة مقدمها كفاتحة لمولد الرسول الكريم، وهو ما حدى بشيخ شعراء شعبنا المغفور له محمد المهدي المجذوب لكي ينشد بصوت المطرب الكابلي:-
(وهنا حلقةُ شيخِ يرجحِنُّ
يضرب النوبة ضرباً فتئنُّ
وترنُّ
ثم ترفضُّ هديراً أو تُجَنُّ
وحوا ليها طبولُ صارخاتِ
في الغُبارِ
حولها الحلقة ماجت
في مدارِ
نفذت ملأ الليالي
تحت راياتِ طوالِ
كسفينِ ذي سواري
في عبابِ كالجبالِ
ليلة المولد يا سر الليالي
والجمال).
وقد كانت ذكرى مولده عليه الصلاة والسلام فترة الاستعمار، مناسبة لكي يلقي فيها شعراء الشعب قصائد في تبجيله، يمررون خلالها وبين قافية قصائدهم في حبهم له مهاجمة الاستعمار، محرضين على مقاومته وطرده من البلاد!، والزفة طقس شعبي لها عندنا في أم درمان مذاق أقرب لحلاوة المولد نفسها بكافة أنواعها وأشكالها وألوانها، زفة تتلاقح فيها كافة سحنات وملل ونحل شعبنا وأطيافه، من أقصى البلاد لأدناها، شوايقة وبرنو وفور وجعليين، دينكا ونوير وفلاتة وعركيين، بديرية ودهمشية ورباطاب ومحس ودناقلة وغرابة وشلك وأم درمانيين، كواهلة وكبابيش ونوير وزغاوة، عبابدة وأقباط وفونج، شيوعيون واتحاديون وأنصار أمة، مريخاب وهلالاب وقراقير موردة، برهانية، عركيين، كباشية والشيخ قريب الله، أولاد شيخ اللمين المحايتو بيبسي وحيرانو جيكسي، حتى أولاد الراحل عبد القادر توتو الترزي بسوق الموردة والفقير لله، أسياد الدافنة برفقة ناس أحمد داؤود وحسن شمت، أهل بيت البكا وتجهيز التربة والكفن والحنوط ومواراة الميت في مقابر البكري وفاروق وأحمد شرفي وحمد النيل وبري، وغيرها من مقابر العاصمة، وفي أيام المولد يحلو لصبية وصبايا المدينة زيارة سوق الزلعة بطرف حوش الخليفة في الناحية الجنوبية الشرقية من السور، المكان الآسر لديهم في كل طقس المولد، وهو سوق كان رائجاً خمسينات وستينات وحتى منتصف سبعينات القرن الماضي، يزخر بأكلات شعبية كان لها مذاق شهي، ولكن اختفى ذاك السوق واندثر الآن وحلت محله الأكلات العصرية الأخرى من بيتزا وهمبورقر و(هوت دووق)!، كان سوق الزلعة يبيع التبش بالشطة والليمون والدكوة، العونكوليب، راس النيفة، الكوارع، الدقة، أم فتفت، دوم وقنقليز وقراصة نبق وعيش ريف، حلاوة قطن وحلاوة عجوة وحلاوة داندرمة وجكسا وسكينة وكريكاب وريا ودريبس، شختك بختك الطوخي والمرجيحة، العصائر بأنواعها، سلطات الروب والأسود والطماطم وسندوتشات الطعمية والفول، اللقيمات والمشبك والمطبق، كلهم في زفة المولد، هذه هي الزفة إذن. وتشير سعدية – التشكيلية المتخصصة في الزي السوداني – إلى أزياء الزفة والمولد، موضحة كيفية تطور أزياء المتصوفة السودانيين منذ حقبة السلطنة الزرقاء، وتهرع لخزانتها فتجلب لي منها جبة خاطتها أياديها البارعة لعهد السلطنة الزرقاء، موضحة كيف أن المهدويين إستفادوا من ذلك العهد السابق لهم واشتغل نولهم على هدى وخطوط السلطنة، مشيرة لاضافاتهم التي ميزتهم عن الحقبة السابقة، حيث كان الزي في فترة حياة المهدي هو (الكرابة) وعلى الجلباب الزيق الأسود بأكمام قصيرة وقصر الجبة نفسها، دلالة على قدرة الركض وعدم الاعاقة ساعات الدواس مع العدو!، وأن المهدي لم يرتدي مطلقاً البجبة المرقعة لأنها لم تكن سائدة طيلة فترة حياته!،ولكن بعد وفاته تطور الزي المهدوي فترة سيادة الخليفة عبد الله، وما يدهش حقاً هو إشارتها لمساهمات الخليفة نفسه في ذلك، حيث كان مصمماً صميماً لأزياء جيشه، فقد صمم بأياديه أزياء أمراءه وجنوده، فهو الذي استنبط الجبة المرقعة ورايات المهدية بألوانها ودلالاتها، وهو الذي وضع علامات الجيش، كرأس المية وخلافه، بحيث أن كل مجموعة من الجنود المقاتلين تتبع لقائدها داخل حلبة المعركة بعد أن تتعرف عليه من خلال لون رايته وزيه!. ياترى لماذا لم تتم الاشارة لهذه المعلومة المتعلقة بالخليفة عبد الله من قبل؟!، ففي هذا الصدد أشارت الباحثة اليابانية د. يوشيكو كوريتا في بحثها القيم حول مصادر الثورة السودانية وهي تنقب عن حقبة ثورة 1924 بأن علي عبد اللطيف كان أيضاً من هواة مهنة الخياطة التي تعلمها وأجادها حينما كان يلازم خاله ريحان الترزي بدكانه في إجازات المدرسة، فنشأ محباً للمهنة، وهناك إشارات بأنه هو من صمم وخاط علم اللواء الأبيض الشهير!، فما علاقة القادة العسكريين بالخياطة وهواية التطريز عندهم يا ترى؟ فقد قرأت عن منافسة كانت تتم بين كل من فيديل كاسترو الزعيم الثوري لدولة كوبا مع أحد أصدقائه من القساوسة الذين قادوا ظاهرة لاهوت التحرير في داخل كنائس أمريكا اللاتينية، وكيف أن الزعيمين الثوريين كانا يتنافسان في هواية الطبخ وتطريز الملابس، الزعيم الكوبي بالنسبة لأزياء جنوده العسكرية والقس الثائر بالنسبة لأزياء كنيسته وأحباره!. وفي نفس المنحى أشارت لي د. ست البنات خالد الشهيرة (بدكتورة ستو) الاختصاصية في أمراض النساء والولادة بحي الصافية، بأن تلقيها لحصص التطريز والخياطة سنوات دراستها وهي طفلة في المرحلة الأولية بكلية المعلمات بأم درمان أفادها كثيراً في مهنة الطب، حيث هي الآن ضمن أكثر الأطباء براعة في الخياطة عند الولادة القيصرية في غرف العمليات!.
تواصل الخالة سعدية حديثها عن أزياء المتصوفة فتوضح دلالات غطاء الرأس لكافة شعوب السودان، مشيرة لدراسة قيد النشر أعدتها الباحثة أماني عبد الجليل وتعكف سعدية على وضع مقدمة لتلك المخطوطة التي تناولت موضوع غطاء الرأس في السودان ودلالاته لدى جميع السكان والمجموعات والأشخاص رجالاً ونساءاً وأطفالاً، وحول جزئية أزياء المتصوفة أبانت سعدية من مواقع تخصصها، مساهمتها في استنساخ أزياء فترة المهدية من المقتنيات المحفوظة في متحف بيت الخليفة، والتي نجحت في إنجاز تصميمها خوفاً عليها من الضياع، والتي ضاع بعضها بالفعل من بين تلك المقتنيات ببيت الخليفة! وفي هذا الشأن تناولت دردشتنا ما لحق متحف البيت نفسه من إهمال وضياع كثير من مقتنياته، فقد شهدت فترتي الحكم في كل من مايو ويونيو ضرراً بليغاً لحق بالكثير من القطع الأثرية النادرة، حيث تتناول أحاديث المدينة التي لا تعرف الأسرار، توزيع كثير من تلك المقتنيات كهدايا لأمراء وشيوخ الخليج فضلاً عن ضيوف البلاد المتعددين!، وقد أشار لنا شيخنا الصلحي بتهكم مرير ما كان شاهد عيان عليه إبان فترة تبوءه لمنصب وكيل وزارة الثقافة والاعلام سنوات مايو، حيث علم بتوجيه صادر لإهداء الرئيس اليوغندي الأسبق عيدي أمين بعضاً من قطع أثرية نادرة من مقتنيات متحف السودان، فأوقف الصلحي الاجراء ووجه بإعادة المقتنيات إلى مكانها، ولكن توجيهاً آخر صدر من عمر الحاج موسى وزير الثقافة وقتها بنسخ توجيه الوكيل ومنح الرئيس اليوغندي تلك القطع الأثرية، دون أي مسوق يسمح بذلك، وفي الشأن استحضرت لهم تلك المعلومات التي أوردتها مجلة روز اليوسف المصرية في بدايات إنقلاب الانقاذ، حيث اعتقلت السلطات المصرية أحد المطلوبين من الجماعات الاسلامية في الحدود بين السودان ومصر التي وصلها متسللاً، وكان في معية (سيادته) كمية من بدرة الهيروين إضافة لبندقية أثرية نادرة الطراز أشارت المجلة إلى أنها ربما كانت ضمن مقتنيات أحد المتاحف الأثرية في السودان!.
في تلك الجلسة الصباحية التي تفرعت فيها الونسة والدردشة حتى أنستني مواعيدي اللاحقة، عرفتني سعدية بتاريخ المنزل والغرف التي شهدت ولادة الأشقاء والشقيقات، وخلوة والدها التي أقامها بركن من المنزل وما تزال بقاياها موجودة، وتحدث الصلحي بمسرة عن الأسرة وعن جدهم والد أمهم الذي أشار إلى أنه هو من ساهم في الدعم المعيشي لجيش المهدي بمؤونة العيش طيلة فترة حروبه واستقراره بأم درمان بعد انتصاره وقبل مماته، وهي المعلومة التي قال الصلحي أنه لم يشر أي من كتبة التاريخ عدا زلفو في كتابه كرري ونعوم شقير في كتابه عن جغرافية وتاريخ السودان والموسوم بالغرض والتشويه، خلافاً لوجهة نظر كل من الصلحي وشقيقته بأن شقيراً كان أكثر أمانة إذا ما قورن بمن حاولو ويحاولون – وما يزالون – في تشويه معالم تاريخ البلاد!.
وهكذا رصدت جلستنا تلك كثيراً من مظاهر الاهمال الذي لحق بكثير من إرث البلاد وآثارها، رصدنا مثلاً إختفاء اللوحات التي تصور معركة كرري داخل متحف بيت الخليفة، ومظاهر الاهمال التي تحول البيت طيلة أيام المولد لثكنة عسكرية لدوريات الشرطة المنظمة لأيام المولد!، ومن مظاهر الاهمال والتعدي الأخرى على المباني والآثار التاريخية تلك الفظاظة التي تم بها انتهاك صريح لقوانين مصلحة الآثار – حتى دولياً – والقاضية بمنع مس أي مرفق تاريخي تجاوز عمره المائة عام، حيث قامت جرارات الأشغال العامة سنوات النميري وماية ودون أي سبب أو مسوق بهدم السور التاريخي العتيق لحوش الخليفة كأكبر جامع في أفريقيا ولم يبق من أثر خالد منه سوى عبقرية المهندس القدير عثمان الخير الذي تحايل على السلطات بما له من بعض مسؤوليات أنقذ بها الجانب الجنوبي من سور الجامع!، فضلاً عن التهديد المستمر من قبل تجار الرأسمالية الطفيلية المتأسلمة ومحاولاتهم للاستثمار في الحوش بواسطة الاستحواز على أرض الجامع والاستفادة منها كعقارات ومولات وخلافه!، ومن مظاهر التشويه الأخرى الفتك بمعالم أم درمان كمدينة تاريخية حيث امتدت أيادي التخريب لتلحق بكل من سوقها القديم في نواحي الشجرة، معالم سوق النساء بزنكي سوق أم درمان المشيد منذ الفترة المهدية، التخريب الذي طال مسجد أم درمان العتيق، ذلك الأثر التاريخي الذي ضم المعهد العلمي ودرس به فحول العلماء والمشائخ الذين كان أبرزهم الشاعر الكبير التيجاني يوسف بشير، لم يتركوا ولو معلم صغير يدلل على تاريخية ذلك المسجد، فأقاموا في مكانه صرحاً آخر يحمل ملامح المعمار الايراني بأكثر منه مبنى يحمل عبق المدينة الوطنية التاريخية. يا ترى هل يدخل ذلك ضمن المحاولات الخبيثة لتدمير الذاكرة الجمعية والتاريخية لمعالم مدينة أم درمان؟!، نسوق الاتهام للاحساس بمدى مقتهم للمدينة العريقة وكراهيتهم لها عندما فضحتهم مباهاتهم التي صرحوا فيها معلنين بفرحة أن النظام الحالي لا يضم في قيادته أي واحد من أبناء أو بنات أم درمان!. فهل تجنينا على أحد ونحن نشير بأصابع الاتهام أن أم درمان مستهدفة عند هؤلاء؟!.
وضمن مظاهر الاهمال الأخرى لآثار البلاد تجدها في عدم العناية بالجهود المبذولة في جمع التراث وتوثيقه حيث أن جهداً مخلصاً من قبل الممثل المسرحي القدير إبراهيم حجازي الجامع لتراث أم درمان الشعبي بجهد يفوق جهد الوزارات ومؤسسات التوثيق، فيشتكي لطوب الأرض من أجل أن يمنح ولو مقر صغير بطرف أي من المقار الحكومية، فيدفعونه لكي يتملق المسؤولين حتى يعطفوا عليه ويمنحونه مكاناً لعرض مقتنياته الشعبية التي جمعها ليوثق للثقافة الشعبية وتراث مدينة أم درمان!".
بينما أنا أتجاذب أطراف الحديث في ذك البيت العتيق مع سعدية وشقيقها، وقع نظري على سيف عجيب كان معلقاً على الحائط في الغرفة العتيقة، لم يكن الوحيد البارز في تلك الغرفة، كانت بجانبه لوحات تشكيلية بديعة لهما معاً – الصلحي وسعدية – إلى جانب شهادات تقديرية إضافة لأخريات منبيئة الموروث الشعبي السوداني، ولكن كان ذلك السيف العجيب هو أكثر ما أثار انتباهي، عندما لاحظت سعدية انبهاري به، أوضحت تقول أنها تحصلت عليه من أحد المحال التجارية التي تبيع التاريخ بسوق أم درمان وقد تحصلت عليه بشق الأنفس نتيجة لغلاء ثمنه وطمع بائعه، للسيف خاصية الانثناء من مفصل المقبض وحتى لسانه اللاسع، تماماً كالعرجون أو قل كالفتاة اللدنة في رقصها بالسباتة!، وكانت له ملحقات على جنباته عبارة عن جفائر لأكثر من سكين وشوتال،وكان السيف المصقول نفسه محفوظاً في جلد سميك، فاجأتني سعدية مفصحة عن مالك السيف، قالت أنه يعود في الأصل للمك عدلان الابن الأكبر للمك نمر والدليل هو الكتابة المنقوضة على أحد أطرافه والتي تشير لمالكة الذي ضربة الجدري وكان سبباً في مماتة عند الاشارة للقصيدة المنقوشة كتابة بالسيف وهي التي تعود لشقيقته في رثائها الشهير له عندما صدحت تقول" ما كت دايرالك الميتة ام رماداً شح ،، كت دايرالك الميتة ام تراباً يكشح ،، أحي يا علي سيفوا البسن ،،،"!، والرماد الشح هو ذاك النوع الذي ينثر على التقرحات التي تنجم من جروح مرض الجدري لتبرأ!، وكيف أن الشيخ الخليجي رأي السيف معروضاً شمن معرض شاركت به سعدية في إحدى تلك الدول فقبع يساومها من أجل أن تبيعه السف وهو يقول لها كلما التقاها في ردهات المعرض أو توقف مرة وإثنتين أمام ذاك السف العجيب " كم تبغين يا حرمة ، وكيف ضاقت به ذرعاً فقالت له " أبغي 2 ميليار دولار " فغاب عن وجهها!.
قبل أن أغادر، سألت الصلحي عن انطباعات القراء عن مذكراته القيمة بعنوان (قبضة من تراب)، فقال لي بتواضعه الجم أن وصيته لناس دال كطابعين وناشرين للكتاب:- ( قدر ما تقدروا وفروا الكتاب حقي للناس لأنو كتيرين والله البسألوني عنو)!.
خصماني وهما يقدماني حتى باب المنزل بالمكوث لتناول الافطار معهما، إلا أني اعتذرت بلطف حيث مواعيد سابقة في انتظاري، وأنا خارج باب المنزل أهم بالمغادرة، فإذا بي أسمع سعدية من خلفي تصرح بأن الافطار يتضمن ملاح شرموط أبيض بسمنة بلدية مع كوًل وكسرة بايتة ،، فعدت أدراجي مسرعاً، ودون تردد دلفت لبيت الجاك!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.