احتفالا بالذكرى الأولى لزواج الامير الحسين والاميرة رجوة.. نشر أول صور رسمية للأميرة تظهر حملها الاول    ريال مدريد يصطدم بأتالانتا في السوبر الأوروبي    ما شروط التقديم؟ السودان بين الاكثر طلبا.. الجنسية المصرية تجذب الأجانب وتسجيل طلبات من 7 دول مختلفة    أمير قطر في الإمارات    والي الخرطوم يدعو الدفاع المدني لمراجعة جميع المباني المتأثرة بالقصف للتأكد من سلامتها    بيلينجهام لمورينيو: ماما معجبة جداً بك منذ سنوات وتريد أن تلتقط بعض الصور معك    شاهد بالفيديو.. ياسر العطا يقطع بعدم العودة للتفاوض إلا بالالتزام بمخرجات منبر جدة ويقول لعقار "تمام سيادة نائب الرئيس جيشك جاهز"    عقار يشدد على ضرورة توفير إحتياطي البترول والكهرباء    ريال مدريد الإسباني بطل أوروبا    (زعيم آسيا يغرد خارج السرب)    القبض على بلوغر مصرية بتهمة بث فيديوهات خادشة للحياء    القبض على بلوغر مصرية بتهمة بث فيديوهات خادشة للحياء    داخل غرفتها.. شاهد أول صورة ل بطلة إعلان دقوا الشماسي من شهر العسل    قنصل السودان بأسوان يقرع جرس بدء امتحانات الشهادة الابتدائية    المريخ يتدرب على اللمسة الواحدة    إعلان قائمة المنتخب لمباراتي موريتانيا وجنوب السودان    بدء الضخ التجريبي لمحطة مياه المنارة    صلاح ينضم لمنتخب مصر تحت قيادة التوأمين    بعد الإدانة التاريخية لترامب.. نجمة الأفلام الإباحية لم تنبس ببنت شفة    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية كبيرة من الجمهور.. أحد أفراد الدعم السريع يظهر وهو يغني أغنية "هندية" ومتابعون: (أغنية أم قرون مالها عيبها لي)    شاهد.. زوج نجمة السوشيال ميديا أمنية شهلي يتغزل فيها بلقطة من داخل الطائرة: (بريده براها ترتاح روحى كل ما أطراها ست البيت)    بعد الإدانة التاريخية.. هل يستطيع ترامب العفو عن نفسه إذا نجح بالانتخابات؟    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون يقدمون فواصل من الرقص "الفاضح" خلال حفل أحيته مطربة سودانية داخل إحدى الشقق ومتابعون: (خجلنا ليكم والله ليها حق الحرب تجينا وما تنتهي)    "إلى دبي".. تقرير يكشف "تهريب أطنان من الذهب الأفريقي" وردّ إماراتي    في بورتسودان هذه الأيام أطلت ظاهرة استئجار الشقق بواسطة الشركات!    دفعة مالية سعودية ضخمة لشركة ذكاء اصطناعي صينية.. ومصدر يكشف السبب    مسؤول سوداني يكشف معلومات بشأن القاعدة الروسية في البحر الأحمر    محمد صبحي: مهموم بالفن واستعد لعمل مسرحي جديد    فيصل محمد صالح يكتب: مؤتمر «تقدم»… آمال وتحديات    ميتروفيتش والحظ يهزمان رونالدو مجددا    السعودية تتجه لجمع نحو 13 مليار دولار من بيع جديد لأسهم في أرامكو    خطاب مرتقب لبايدن بشأن الشرق الأوسط    مذكرة تفاهم بين النيل الازرق والشركة السودانية للمناطق والاسواق الحرة    سنار.. إبادة كريمات وحبوب زيادة الوزن وشباك صيد الأسماك وكميات من الصمغ العربي    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    دراسة "مرعبة".. طفل من كل 8 في العالم ضحية "مواد إباحية"    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    نجل نتانياهو ينشر فيديو تهديد بانقلاب عسكري    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    شركة الكهرباء تهدد مركز أمراض وغسيل الكلى في بورتسودان بقطع التيار الكهربائي بسبب تراكم الديون    من هو الأعمى؟!    اليوم العالمي للشاي.. فوائد صحية وتراث ثقافي    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خالد الحاج عبد المحمود : الاستاذ محمود في الذكرى الثلاثين محاولة للتعريف بأساسيات دعوته
نشر في حريات يوم 20 - 01 - 2015


الاستاذ محمود في الذكرى الثلاثين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته
بقلم الأستاذ خالد الحاج عبد المحمود
(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) سبأ 24
الإسلام كنظرية نقدية
مدخل:
بعون الله، وبتوفيقه سوف يكون الاتجاه للاحتفال بالذكرى هذا العام، محاولة للقيام بمقارنة، بين الفكرة، والأديان، والأفكار، والفلسفات المختلفة.. وسيكون التركيز بصورة خاصة على الحضارة الغربية، على اعتبار أنها الحضارة السائدة، وتمثل الواقع، والتحدي الأساسي الذي يواجه أي دين يطرح نفسه، لتغيير الواقع.. وأسلوب النقد والمقارنة، هو أفضل أسلوب، لابراز خصائص الاسلام، التي تميزه، وترشحه، لأن يكون مدنية المستقبل.. والمقارنة، بالضرورة، تتضمن نقد الآخر، الذي تجري المقارنة معه.. وعن أمر المقارنة هذا، يقول الأستاذ محمود: "و التبشير بالإسلام أمر يتطلب أن يكون المبشر ، من سعة العلم بدقائق الإسلام ، و بدقائق الأديان ، والأفكار ، والفلسفات المعاصرة ، بحيث يستطيع أن يجري مقارنة تبرز إمتياز الإسلام على كل فلسفة إجتماعية معاصرة ، وعلى كل دين، بصورة تقنع العقول الذكية.."
المقارنة، تقتضي تقويم الأفكار التي تتم المقارنة معها، وهذا التقويم هو ما اصطلح على تسميته بالنقد.. والنقد لكي يكون نقدا موضوعيا، لا بد ان يقوم على اساس واضح، وعلى منهج، وهذا ما اصطلح على تسميته ب(النظرية النقدية).. فعلى الرغم من أن النقد، من طبيعة العقل المفكر، إلا أن النظرية النقدية، لا تعني مجرد النقد، وإنما تعني النقد المنهجي، الذي ينبنى على نظرية في المعرفة، واضحة الأسس..
الغرب والنظريات النقدية:
هنالك إدعاء بأن البشرية لم تعرف التفكير النقدي، إلا مع الحضارة الغربية!! وهو إدعاء شديد البطلان، ونحن هنا لسنا بصدد التعرض لهذا الإدعاء، وتفنيده، وإنما موعدنا مع ذلك عندما نتحدث عن العقل والعقلانية.. نحن هنا، بصدد الاشارة، الموجزة، للنظريات النقدية في الغرب، كمدخل لحديثنا عن الاسلام كنظرية نقدية.. وسوف يكون حديثنا منصبا على النقد الفكري، و دون التعرض للنقد الفني.
يعتبر كانط (1724 – 1804) معلما بارزا، وأساسيا، في إتجاه الفكر النقدي، في الفكر الغربي، وذلك من خلال، كتابه عن (نقد العقل الخالص)، وعند كانط العقل هو الملكة التي تمدنا بالمعرفة، ولكن وظيفة العقل ليست هي التوسع في المعرفة، وانما تطهير نفسه، والتخلص من الأخطاء ولذلك، بما ان فلسفة كانط كانت تهدف الي تصحيح المعرفة، فقد اعتبرت فلسفة عقلية نقدية .. وقد اعطي كانط للفلسفة دورين وليس دورا واحد .
"الدور الأول باعتبارها محكمة العقل، أي الذات العارفة التي من خلالها، نفهم العالم ونفهم أنفسنا بشكل عقلاني.. وبناء على على هذا الدور الأولي يتحدد دورها الثاني، وهو أنها لا تستطيع أن تحكم على نتائج العلوم الأخري فقط، بل تقوم بتنظيمها أيضا وتحديد المكان الصحيح لكل منها، ومجال مصداقيتها، ومنهجها السليم" فالدور الثاني هذا، هو الجانب النقدي.
لقد كان الفكر الغربي، والثقافة الغربية يقومان على أن للعقل طبيعة ثابتة في الانسان، ولقد استمر هذا التصور لفترة طويلة الى أن جاء هيجل (1770 – 1831) ليؤرخ لبداية فكر جديد، وثقافة جديدة، في الغرب، بدأ مع بداية القرن التاسع عشر.. وفي هذا الفكر حل (التطور)، و(التغيير) محل (الثبات) و(التحدد).. وقد جعل هيجل من التناقض جوهرا لفلسفته، ومنهجه الجدلي.. وواصل ماركس من بعده هذا التوجه، وإن كان على أساس مغاير.. وحسب منطق هيجل الجدلي هذا، دخل العقل في الطبيعة نفسها، وأصبح له تجلي في التاريخ.. وأصبحت العملية المعرفية، تنمو في مراحل متعددة، والوصول الى المطلق لا يكون الا في ختام هذه المراحل.. فقد هاجم هيجل المعرفة العقلية الخالصة، التي فصلت الفكر من الوجود، كما هاجم الفلسفة التجريبية الخالصة، التي أغفلت السمات العقلية للواقع.
أما ماركس (1818 – 1883) والذي زعم أنه أوقف جدل هيجل على قدميه، فلم يجعل دور العقل قاصرا على التفسير، بل تخطاه الى التغيير، فمهمة العقل عند ماركس تحولت الى نقد الواقع وتغيير العالم.. وقد أثر ماركس على كل موجة النقد والتغيير التي اجتاحت كل التيارات الفلسفية التي أعقبته.. ولقد أعلن ماركس في (البيان الشيوعي) 1840 عن الحاجة الى "نقد قاس لكل شيء موجود".. وكان عمل ماركس هذا يعتبر البداية لنظرية نقدية للمجتمع.. ولقد تطورت الدراسات الاجتماعية، تطورا هائلا، في القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.. وعندما جاء عالم الاجتماع ماكس فيبر (1864 – 1920) – وهو أحد منظري العقلانية الحديثة – ذهب الى أن التقدم التقني أفرز نوعا من العقلانية العلمية التي لها منهجها ووسائلها، وهو ما عبر عنه ب: عقلانية المنهج والوسائل من أجل تحديث غايات.. ولقد رأى فيبر أن العقلانية هي قانون العلم، إلا أنه ظل واعيا بحدود هذه العقلانية وأخطارها.. ومهمة العقل عنده هي: حساب العلاقة بين الوسائل والغايات.. وهو يرى أنه ليس في وسع البشر أن يتنصلوا عن مسؤولية اختيارهم.
وعلى الرغم من ان ماكس فيبر كان عقلانيا تجريبيا، إلا أنه كثيرا ما كان يشكو من أن العقلانية العلمية، عقلانية جافة، وليست عقلانية انسانية بالقدر الكافي، إذ لم تضع في اعتبارها العلاقة الحميمة بين الانسان والطبيعة.. فالعقلانية التي كانت غايتها تحرير الانسان، وضعته في زنزانة خانقه واستعبدته بدلا من أن تحرره.. وفي تقديري هذا أهم نقد، قدمه فيبر.
وقد استمر تيار النقد مع جورج لوكاتش (1945 – 1971)، وبعض النقاد الذين لهم صلة بالماركسية.. وظهرت مفاهيم، مثل (الاغتراب) و (التشيؤ) و(افقاد الواقع كليته) .
وكان آرنست بلوخ (1885 – 1977) من أهم نقاد العقل، الذين أسهموا في تطور النظرية النقدية، في الغرب، ومن أهم اسهاماته، نظرته للواقع، فهو يرى أن الواقع عبارة عن حركة صيرورة لم تكتمل بعد، فهو يموج بالامكانات، وبقلق الصيرورة.. فهو يعتبر اليتوبيا حقيقة تسير جنبا الى جنب مع الواقع وتصاحبه، وهي – اليتوبيا – تتحدث بأسم الليس بعد أو المستقبل، وتحاول تشكيل نموذج لوجود حقيقي ممكن لم يتحقق بعد" .. فاليتوبيا، عنده تكشف عن كيفيات جديده في الطبيعة عن طريق العقل الخيالي، الذي يستخلص الممكن من الواقع اليومي العيني .. ولا يتم هذا إلا بالاعتراف بالواقع ورفضه في آن واحد، كما أنه ليس هناك فاصل بين الممكن والواقع لأن الواقع كان ممكنا في الماضي.
وبعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت (مدرسة فرانكفورت) التي عرف أصحابها بأصحاب (النظرية النقدية) وهم أكثر من جيل واحد..
وكان ادورنو (1903 – 1969) من رواد الجيل الأول.. وهو من أهم من نقدو العقل الذي كانت حركة التنوير قد رفعت من شأنه بصورة كبيرة.. وقد أصدر مع زميله وصديقه هور كهيمر كتاب(جدل التنوير)، وهو كتاب قد تضمن فكرة التدمير الذاتي للتنوير .. فعنده الفلسفة النوعية قد أصابت التنوير بالانتكاس.. ومن أهم مقولاته النقدية هي أن العقل الأداتي غير النقدي الذي يقوم عليه العلم، اعتمد على النزعة الشكلية، فالعلم كمنهج تحليل لا يستطيع أن يضفي أي معنى أو قيمة على أي شيء غير قابل للقياس، وغير خاضع للصيغة الرياضية.. وهو يرى "أن التنوير الذي كان هدفه الأصلي هو تحرير العقل البشري من الأسطورة تحول هو ذاته الى اسطورة تخفي الهيمنة والتسلط، وتسعى الى تأييد الواقع السائد، ولم يعد يخدم قضية الحرية" .. "فالعقل الذي حرر الانسان من سلطة الطبيعة، يبرر الآن سيطرته على الانسان نفسه باعتباره جزءا من الطبيعة التي يسيطر عليها.. بل ويقوم بعملية (تكيف) مع حضارة لا انسانية.. اعتمدت على الجانب التقني فقط وهيأت (العامة) لتحمل الاستبداد وأنواع القيود التي يفرضها على الأشياء والإنسان ولم يتم هذا بفعل المناوئين للعقل بل بفعل التنوير نفسه.."
وهو يرى أن التنوير صار ضد الحقيقة عن طريق التجريد الرياضي الشامل للواقع، وهو التجريد الذي صار مرادفا للحقيقة .. لقد تحول الفكر الى آلة رياضية يمكن أن تحل الآلة محله!! وهذا أدى الى عدم فهم الواقع الحي، ونفي واستبعد كل واقع فردي مباشر.. "إن اخضاع العقل للتجربة الحسية الحية بالانفصال عنها (وتكميمها)أدى الى افقار كل من التجربة والعقل معا ، وكان هذ ا مظهرا من مظاهر انتصار العقل الأداتي وسعيه للسيطرة على كل شيء بما في ذلك العقل والتفكر نفسه.. وهكذا اغترب الناس في المجتمع الشمولي الحديث – سواء كان رأسماليا أو شيوعيا، وبرزت الوحشية واللانسانية التي اراد التنوير في الأصل أن يحاربهما، فتحول التقدم الى تراجع.. وأصبحت لعنة التقدم المتواصل تعني النكوص المتواصل. وتعاظم اغتراب الجماهير التي تموضعت وتشيأت ووقعت، مثلها مثل حكامها ومديريها في الشبكة نفسها المخيفة التي تثبت الوضع القائم.." وواصل أدورنو نقده للعقلانية العلمية في كتابه (الجدل السلبي).. وهاجم المعرفة التصورية، من منطلق أن التصور يعزل الشيء عن ذاته فيلغي فرديته.
في الواقع، وفي عموم الحال، يشيد الفكر الغربي بالدور الذي قام به ادورنو في نقد العقل، على اعتبار انه وضع العقل في السياق الاجتماعي كله، وأثبت ان بعض المذاهب الفلسفية، مثل البراغماتية، والوضعية، قد جعلت العقل أداة في خدمة الانتاج الصناعي، ووظفته لخدمة مصالح معينة، وعزلته تماما عن مجال القيم كالعدالة والتسامح…ألخ .. وترتب على ذلك ان العقل عندما استخدم هذا الاستخدام (الآحادي) ، نظر الى موضوعاته أيضا نظرة أحادية هي نظرة السيد للمسود، فكرس بذلك إغتراب الموضوع عن الذات، واغتراب الذات عن الموضوع.
وبالطبع تعرض أدورنو للنقد وفي تقديري أن أهم نقد وجه له هو أنه خلط بين المعرفة واستخداماتها.. فتوظيف العقل لاستخدامات معينة، غير عقلانية وغير انسانية، هو اساس المشكلة، وليست المشكلة في العقل التصوري.. ومثل هذا النقد لا يلغي نقد ادورنو، وإنما يضبط التعبير عنه.. فالاستخدام الخاطيء للعقل، وتقيده بالنظرة الآحادية، هو الذي شكل العقل الغربي، وحدده بالمفهوم (الأداتي) الضيق.. والقضية الأساسية التي يريدها أدورنو، ومعه معظم رواد الفلسفة الحديثة في الغرب لا تتعلق بالعقل في ذاته، وإنما تتعلق باستخدامه استخداما سيئا، خصوصا من الذين يبغون المصلحةالذاتية و الهيمنة فقط.
وفي نفس اتجاه أدورنو يسير صديقه هور كهيمر (1895 – 1973) ففي كتابه (نقد العقل الأداتي) يؤكد مقولات ادورنو، ويرى أنه لا يمكن للعقل أن يعود الى الطريق الصحيح إلا إذا اعترف بانه ليس عقلا مطلقا، وإنما هو نسبي متغير، وأصبحت له اهداف انسانية تنشد الانسجام مع العالم الخارجي.. وهو يرى أن التنوير المضاد للدين والميتافيزيقيا دمر انسجام العقل، وانسجام الإنسان مع العالم الخارجي.. وأدى الى ظهور نمطين من العقل:
1. عقل تنويري وغايته التحرر والعدالة وإلغاء التشيؤ
2. عقل اداتي غايته التسلط والسيطرة، ويؤدي الى المادية والعدمية.
وهو يرى ضرورة وجود وحدة واتساق بين العقلين.. والعقل الأداتي، ليس مرفوضا رفضا كليا، فهو له أهميته ومزاياه، في مجاله، ولكن فلسفات مثل البراغماتية والوضعية الحقت به الضرر .. ففي إطار هيمنة العقل الأداتي، أصبح التقدم الفكري، يعني تقدما صناعيا.. وانفصلت المفاهيم والتصورات عن مصدرها العقلي، ولم تعد قادرة على تحقيق أهداف الحياة العليا، فالعدالة والحرية لا يمكن لهما أن تتحققا بالوضعية العلمية التي سلبت العقل كل علاقة بهما، ولم تهتم إلا بالوقائع، وأصبحت خادمة لأدوات الانتاج الموجودة، وانفصلت عن السياق الاجتماعي فلم تثمر غير الاغتراب.
أما هربرت ماركيوز (1898 – 1979) فقد قدم نظرية نقدية موجهة بشكل أساسي ضد المجتمع الصناعي – ذي البعد الواحد، والذي اصبحت فيه الاحتياجات البشرية احتياجات لا عقلانية، ومصنوعة من الخارج، من اجل زيادة العمل والانتاج، وليست من أجل مساعدة البشر.. ويرى ماركيوز، من كتابه (الانسان ذو البعد الواحد).. "أن عقلانية المجتمع المعاصر وتقدمه وتطوره هي في مبدئها لا عقلانية"
ويرى بعض النقاد، أن المشكلة الأساسية تكمن في أن العقل الكمي الخاضع للقياس، الذي يفصل ماهو كائن عما ينبغي أن يكون، ويقدم نفسه باعتباره متحررا من القيمة، لا يستطيع أن يفهم الواقع.. ويمارس التسلط ويبرع في جعله غير مرئي وغير محسوس – كما يلاحظ لاندمان -
ومن أبرز أعضاء الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت هابرماس (1929).. وأهم ما قدمه هابرماس هو مفهوم (العقلانية التواصلية) في مقابل (العقلانية الأداتية)
إن النظرية النقدية، عند مدرسة فرانكفورت، والنظريات الأخرى، قد قدمت نقدا جليلا للسلبيات، ولكنها عجزت عن إقامة نسق عقلي متكامل، لا يركز على شكل واحد من أشكال العقل – الذي أثبتوا له أشكالا متعددة – وهم جميعا يسعون الى هدف واحد مشترك، هو العمل على تغيير الواقع ليصبح أكثر إنسانية، وايجاد صورة العقل التي تتناسب مع هذا العقل الانساني.. فهم برغم أنهم قاموا بتشخيص ، لسلبيات الواقع الفكري، في معظمه صحيح وعميق، إلا أنهم عجزوا كل العجز، عن تقديم البديل المتمثل في تطلعاته للعقل الشامل، الاجتماعي، والتاريخي، الذي يتجاوز محدودية (العقل الأداتي)، وسلبياته، بغرض تحقيق واقع عقلاني أكثر انسانية، لا يهمل الجانب المادي للحياة، ولكن لا يقتصر عليه، بل يوظفه من خلال اعتبار (القيم) لسعادة الانسان وحريته.
أعتقد انه لا بد لنا من اشارة، ولو موجزة لكارل بوبر.. فإذا كان هابرماس، قد سعى الى جعل الفلسفة (تفكيرا نقديا)، فإن كارل بوبر، قد سعى الى جعل النقد (اسلوب حياة).. وتأتي أهمية كارل بوبر من أنه من أهم فلاسفة العلم المعاصرين، إن لم يكن اهمهم على الإطلاق.. وبوبر، وإن كان يركز على المنهج النقدي في البحث العلمي، إلا أنه يتوسع في مفهوم النقد، ويجعله خلاصة تجربة حياته كلها.. وهو بصورة خاصة يرفض مبدأ الاستقراء ويركز على التناول السلبي، الذي يقوم على مبدأ (التكذيب) falsification – انا لا ارى كلمة تكذيب هي الترجمة المناسبة، ولكنها على كل حال هي المستخدمة – ويرى بوبر أن فائدة التكذيب تكمن في أن الهدف من العلم هو محاولة الاقتراب من القضايا الصادقة، وذلك يتأتى عن طريق استبعاد و حذف القضايا الكاذبة، بعد تكذيبها بصورة مؤكدة.. وهو يؤكد أن القضايا العلمية ليست يقينية، كما أنها ليست كاذبة، فهي في البداية احتمالية وفي النهاية إما قريبة من الصدق أو من الكذب.. ومبدأ عدم اليقين اصبح قضية مسلم بها عند جميع العلماء، ليس في مستوى نظرية هيزنبرج فحسب، وإنما فى مستوى، العلم، وفلسفة العلم، بصورة شاملة.
أما تيار ما بعد الحداثة، فهو يمثل رد فعل عنيف، ضد عقلانية التنوير.. يقول ديفيد هارفي: "وفي الفلسفة أدى التداخل ما بين البراغماتية الامريكية التي نفخت فيها الحياة من جديد، وموجة ما بعد الماركسية، وما بعد البنيوية التي ضربت باريس بعد عام 1968، الى ما أسماه برنشتاين (موجة غضب عارمة ضد الانسانويه وتراث التنوير) وتجسد ذلك في إدانة عارمة للعقل المجرد، وكره عميق لأي مشروع يستهدف تحرير الإنسان عبر تحريك قوى التكنولوجيا والعلم والعقل".. وما بعد الحداثة، يرفض ماهو ثابت، وما هو كلي، وما هو متناسق، ويركز على التشظي، حتى أن دريدا يرى أن الكولاج/المونتاج هو الشكل الأساسي في الخطاب ما بعد الحداثي!! – كولاج تعني عندهم لتق الأجزاء أو النتف، بعضها الى بعض، من دون معيار قيمي فوقي، وهذا ينطبق عندهم على الفن والفكر والسياسة – يقول ديفيد هارفي: "إن حركة ما بعد الحداثة هي اعتراض مشروع على آحادية الرؤية الحداثية الشمولية للكون".. "وعلى نقيض ذلك، تميز حركة ما بعد الحداثة التنافر والاختلاف كعاملي تحرير في إعادة تعريف الخطاب الثقافي.. وهكذا فالتشظي، وغياب التحديد، والشك العميق في كل الخطابات الشمولية و(الكلية) كما باتت (تستعمل) هي العلامة الفارقة للتفكير ما بعد الحداثي"!!
تقول الأكاديمية المصرية، عطيات أبو السعود: "وأخيرا نسأل: ماذا قدم لنا نقد العقل الذي امتد من كانط وهيغل وماركس الى أصحاب النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت عبر أجيالها المختلفة؟ ماذا قدم لنا بعد أن نزل العقل أو بمعنى آخر أجبر على النزول عن عرشه المتوج الى قلب المجتمع والتاريخ؟ وإلام أدى تطور مفهوم العقل منذ الأغريق وعصر التنوير وتطور آلياته ومناهجه المعبرة عنه حتى الآن؟ هل استطاع أن يحقق وضعا وحياة افضل للإنسان الذي هو هدف التاريخ وغايته، وهل أمكنه أن يحرره من القوى التي استعبدته عبر عصور طويلة، سواء أن كانت قوى طبيعية أو سياسية، ومن الظروف أو القيود التي كبلته على مدى تاريخه الطويل؟" .. وتقول: "وأخيرا يلح السؤال: هل استطاعت النظرية النقدية بالفعل انقاذ العقل من نفسه؟ وهل استطاعت أن تقترب من هدفها الأساسي، وهو تحرير انسانية الانسان وتأكيد فرديته المقهورة وإبعاد أشباح اللاعقلانية الزاحف عليه في عصرنا الحاضر بأشكال مختلفة؟ الواقع أن بعض أعضاء المدرسة – مدرسة فرانكفورت – مثل أدورنو وماركيوز لم يجدوا هذا الإنقاذ إلا في الفن وفيما ما عدا ذلك فقد غلب التشاؤم على معظم أعضاء المدرسة، ومع ذلك تظل أهمية النظرية النقدية كامنة في سلاحها النقدي، وفي تعبيرها عن صرخة العقل في مواجهة تناقضاته.. وإذا كانت هذه الصرخة قد بقيت حتى الآن – على الأقل – على مستوى الفكر الفلسفي والتأملي، ولم تستطع أن تشكل نظرية متكاملة وقادرة على توجيه العقل الإنساني على أرض الواقع، فإنها تظل تعبيرا حيا وصادقا عن أزمة العقل التاريخي والنقدي في الحياة الفلسفية المعاصرة في الغرب"
وبعد، هذا مجرد عرض عام، وموجز جدا، قصدنا به أن يكون مدخلا لحديثنا عن الاسلام كنظرية نقدية.. وعلى الرغم من أننا ننطلق من إطار يختلف بصورة جذرية، إلا أن ما عرضناه يمثل الواقع، الذي ينبغي أن تخاطبه أي دعوة للتغيير، وتبني على إيجابياته وسلبياته.. وهنالك ملاحظة هامة، لابد من ذكرها، وهي أنه على الرغم من ان مفهوم النقد، مفهوم واسع جدا، وعميق وامتد لفترة طويلة، إلا أنه من الناحيه العملية حتى الآن لم يخرج من إطار صفوة المفكرين الغربيين، وهو ليس بأي حال من الأحوال – على الأقل حتى الآن – موضوع الجمهور العريض في المجتمعات الغربية.. إلا أن هذا الجمهور، يتأثر بصورة "موضة"، وليس فكرا، باتجاهات ما بعد الحداثة، خصوصا عبر مجالات الفنون في صورها المختلفة.. وأكثر من ذلك أن الحيرة، والاضطراب الذي لحق الفكر والمفكرين، هما عند عامة الجمهور أوكد، وأكثر تأثيرا على الحياة العامة، ليس في الغرب، وحسب، وإنما بحكم هيمنة الحضارة الغربية، في العالم أجمع.
للمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة:
1. ديفيد هارفي
حالة ما بعد الحداثة
ترجمة د. محمد شيا
2. كارل بوربر
بحث عن عالم أفضل
ترجمة د. أحمد مستجير
3. فلسفة النقد ونقد الفلسفة
من منشورات مركز دراسات الوحدة العربية
مجموعة من الكتاب
………………………………………..
(2)
الإسلام كنظرية نقدية:
لقد عرضنا في المدخل، مفهوم النظرية النقدية وبعض مدارسها في الغرب، دون التعرض لتقويمها.. وكان غرضنا، من ذلك، إعطاء تصور عام لمفهوم النظرية النقدية في الغرب، والإشارة للأسس العقلانية التي تقوم عليها الحضارة الغربية، التي تمثل الواقع الحضاري السائد، كما أنها هي موضوعنا الأساسي، في الدراسة التي سنجريها حول مقارنة الإسلام بالفلسفات والأديان والأفكار الأخرى.
إن نقطة الانطلاق، والقضية الأساسية، بالنسبة لأي نظرية نقدية، هي الأساس الذي تقوم عليه.. وهذا الأساس لابد من أن يقوم على تصور مبدئي للكون، وللطبيعة البشرية.. وعلى هذا التصور تنبني النظرة الأساسية، لطبائع الأشياء، ومنها: طبيعة العقل نفسه، الذي هو وسيلة النقد والتقويم الأساسية.. فصحة النظرية النقدية، تتوقف على صحة الأساس – الأنطولوجي والمعرفي – الذي تقوم عليه.. وهذا يقتضي أن نعطي تصور الإسلام، كم نراه في هذين المجالين بصورة موجزة.
الأساس الذي يقوم عليه التصور الإسلامي، في جميع المجالات، هو (التوحيد)، وهذا الأساس هو الذي يميزه، عن جميع الأديان، والفلسفات، والأفكار الأخرى كم سنرى.. والتوحيد، يتعلق بتصور طبيعة الكون، وقانونه، وغايته، وبطبيعة النفس البشرية، وطبيعة العقل.. كما يتعلق بالحياة وغايتها وضوابط السلوك فيها.. فالتوحيد يرد جميع الأمور الى أصل واحد.. ونحن لما كنا، هنا، معنيين، بالجانب المتعلق بالنظرية النقدية، فقط، فسنشير، فقط، الى قضايا التوحيد المتعلقة بهذا الجانب، ولكن الجوانب الأخرى، ستضح من خلال المقارنات التي سنجريها.. ومن أهم قضايا التوحيد التي تعنينا هنا، قضية وحدة الفاعل، فعليها يقوم إطار التوجيه، ونموذج الإرشاد الذي عليه يقوم تقويمنا، ونقدنا للأفكار، وللواقع.. كما عليها أيضا، يقوم منهج السلوك، الذي بالعمل وفقه، يستطيع العقل ترويض نفسه، بالصورة التي تعطيه المقدرة على التمييز بين قيم الأشياء..
القرآن ووحدة الفاعل:
إذا نظرنا للفلسفة الماركسية، مثلا، نجد أنها في نظرتها النقدية، تعتمد اعتمادا كليا، على المادية الديالكتيكية، وتطبيقها على المجتمع، في: التطور المادي للتاريخ.. وهذا بالنسبة لها، يشكل الأساس، الذي عليه تنبني ايجابياتها، وسلبياتها.. ولا يكون هنالك اختلاف بين الماركسيين، فيما بينهم، إلا في فهم هذا الأساس، والمقدرة على استخدامه، في تقويم القضايا المختلفة.. وصحة الماركسية، وخطئها، بصورة عامة تتوقفان على صحة أو خطأ هذا الأساس الذي يشكل المرجع لها.. أما بالنسبة للإسلام فالقرآن هو الأساس والإطار المرجعي الشامل.. والقرآن كله يقوم على مبدأ (التوحيد) .. وقاعدة التوحيد، في التصور النظري، وفي الجانب السلوكي التطبيقي، هي (وحدة الفاعل)، وهي تعني: لا فاعل لكبير الأشياء ولا لصغيرها إلا الله.. وهذا هو معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله).. وحول كلمة التوحيد هذه يدور القرآن كله.. وعلى ترسيخها في الفكر، وفي الحياة، يقوم السلوك الديني عند الأفراد.. ومستويات التوحيد الأخرى تتبع.
القرآن كلام الله – هذا لا خلاف حوله بين جميع المسلمين – لكن الاختلاف بين المسلمين، حول دلالاته، واسع جدا.. وكل الاختلاف في هذا المجال، هو اختلاف في مفهوم التوحيد، وفي تحقيق التوحيد.. الله تعالى، في ذاته، لا يتكلم بجارحة، ولا يتكلم بلغة، عن ذلك تعالى الله علوا كبيرا.. وإنما كلامه، في الحقيقة خلق.. فالأكوان جميعها، مخلوقة له تعالى، فهي كلماته.. والكون جميعه، هو كتابه.. أما القرآن، بين دفتي المصحف، فهو صورة لفظية وصوتية وعلمية، لكلام الله.. وهو قد جعل في هذه الصورة، ليتيسر الفهم لنا نحن البشر، الذين نفهم عن طريق العقول، والتي هي بدورها تفهم عن طريق اللغة.. ففي ذلك يقول تعالى: (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم).. فالأكوان هي تنزل الله لمنطقة الفعل – هي تجسيد إرادة الله – هي قدرته.. والإرادة والقدرة متنزلتان عن العلم، ولذلك يمكن القول أن الأكوان هي علم الله متجسدا.. وهذه الحقيقة التوحيدية، هي جوهر علاقة الفكر بالواقع!! وقد عبر الأستاذ محمود عن هذه الحقيقة بقوله: "من مادة الفكر صنع العالم".. "فالعالم هو تجسيد علم الله – هو تجسيد فكر العقل الكلي، المحيط، والمطلق، في ذلك – وإنه لحق أن العالم قد صنع من مادة الفكر، ومن أجل ذلك جاءت كرامة الفكر.. ولم يجعل الله هاديا في شعاب ظلمات العالم غير نور العقل القوي الفكر.. وإنما من أجل تقوية الفكر أرسل الله الرسل، وأنزل القرآن، وشرع الشرائع.. قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون).. فكأن العقل، إذا روض، وأدب بأدب الشريعة، وأدب الحقيقة، (أدب الوقت) أصبح شديد القوى، دقيق الفكر، نافذه.. ".. فالأكوان، وأحداثها، في جميع أحوالها، وفي صيرورتها السرمدية، هي كلام الله الخلقي.. والقرآن بين دفتي المصحف هو قصة هذه الأكوان مصبوبة في قوالب اللغة العربية، لعلّة أن نعقل عن الله (لعلكم تعقلون)، كلامه في الأكوان – القرآن الخلقي – وفي القرآن بين دفتي المصحف.. وسبيلنا الى ذلك أن نتخلق بالقرآن.. وسبيلنا إلى التخلق بالقرآن هو تقليد المعصوم عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم، والذي (كانت أخلاقه القرآن) .. بذلك أصبح عندنا، ثلاثة صور للقرآن: الصورة الأولى، الطبيعة وأحداثها – القرآن الخلقي – والصورة الثانية، القرآن بين دفتي المصحف – القرآن اللفظي – والصورة الثالثة، القرآن مجسدا في اللحم والدم، عند المعصوم – القرآن كحياة – ولذلك قلنا أن حياة محمد صلى الله عليه وسلم، هي مفتاح القرآن.. القرآن بين دفتي المصحف هو جماع التجربة الدينية وخلاصتها النهائية، ولذلك به ختمت النبوة..
وما يعنينا هنا، ونحن نتحدث عن النظرية النقدية في الإسلام، هو أن القرآن هو الأساس المتين الذي تقوم عليه هذه النظرية، سواء في نقد الفكر، أو نقد الواقع – وكلاهما فكر!! فالقرآن هو الميزان الذي وفقه يتم التمييز الدقيق بين قيم الأشياء.. يقول تعالى، في ذلك: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق، مصدقا، لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه..).. فالقرآن مهيمن، على كتاب الأكوان وأحداثها جميعها، لأنه صورة لها.. وأحداث الأكوان هذه تشمل جميع الكتب، التي خطها، أو يمكن أن يخطها بشر!! فهي لا تخرج عن القرآن الخلقي، أو بمعنى آخر لا تخرج عن فعل الله، الذي لا فاعل في الوجود غيره تعالى.
وهذا يقودنا إلى موضوع وحدة الفاعل – وقد جعلنا عنواننا الجانبي القرآن ووحدة الفاعل – قلنا في بداية حديثنا، هذا، إن وحدة الفاعل هي أهم قضايا التوحيد التي تعنينا هنا، لأن عليها يقوم إطار التوجيه، ونموذج الإرشاد، الذي عليه يقوم تقويمنا، ونقدنا، للأفكار وللواقع.. وكلمة التوحيد في الإسلام هي: "لا إله إلا الله" وهي تعني أن الله هو الإله.. والإله تنزل الله الى مرتبة الفعل، ولذلك هي تعني: لا فاعل لكبير الأشياء ، ولا لصغيرها إلا الله.. فكلما يدخل في الوجود هو فعل الله.. فالله تعالى هو وحده الموجود بذاته، وكل من عداه، وما عداه موجود به تعالى – قيوميته بالله، لا بذاته – وهذا يعني أن الحقيقة واحدة هي الذات الإلهية المطلقة، وكل ما في الوجود هو مظهر لها، وتعبير عنه.. فالمعنى، الجامع والشامل، لكل الوجود، هو الله.. فكلمة معنى، تعني ما يشير إليه الشيء، ويدل عليه.. فكل شيء في الوجود، يشير الى الله، ويدل عليه، وهذا هو تسبيحه (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).. فالقضية الأساسية في المعرفة في الإسلام، هي: الحقيقة من حيث الوجود واحدة!! ومن هذه الحقيقة يتبع ، أن الفاعل الحقيقي في الوجود واحد.. وأمر وحدة الفاعل هذه، هو أمر الإسلام كله!! فالإسلام، يعني الاستسلام لله.. فالوجود في الحقيقة، كله مسلم لله، خاضع لإرادته، كان ولا يزال، ولن ينفك، يقول تعالى، مثلا: (أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات والأرض، طوعا، وكرها، واليه يرجعون).. ولكن الوجود دون مستوى الإنسان غير واع بهذا الإسلام، فهو مسلم كرها.. وبدخول الإنسان، ودخول العقل، في المسرح أحدث مسألة أساسية هي ظهور الإرادة البشرية.. وأصبح الإنسان يتوهم أنه صاحب إرادة مستقلة، بالترك وبالعمل.. وأصبحت هنالك إرادتان: الإرادة الإلهية المحققة، والإرادة البشرية، المتوهمة.. وقد جاء الإسلام الخاص – إسلام العقول – من لدن آدم، والى محمد عليهم جميعا أفضل الصلاة، وأتم التسليم، كخطاب للعقل، ليسوقه عن رضا وقناعة، ليسلم إرادته المتوهمة، للمريد الواحد، فتصبح بذلك ، إرادة حقيقية، لتطابقها مع الإرادة الحقيقية.. فبظهور العقل، بدأ تصور التعدد، والثنائية، التي بدأت ببروز الخلق.. وأصبحت هنالك الحقيقة كما هي في الواقع، والحقيقة كما يتصورها العقل، ومن هنا جاء مصطلح الحقيقة والشريعة، الذي سبق أن تحدثنا عنه..
فالمسلم، عندما يتعامل، مع أي شيء في الوجود، لا يتعامل مع شيء خارج الإسلام، بمعناه العام أو بمعناه الخاص، وهذا من وجوه معنى أن القرآن مهيمن على كل كتاب – على كل شيء!!
فالقرآن كله، يدور حول (لا اله إلا الله) فهي (خير) ما في القرآن، وتسوق الى (أعظم) ما في القرآن – الله – وهي الميزان الذي جاء به القرآن، وعليه يقوم أساس النقد في الإسلام، والى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط)، فالميزان هنا، هو ميزان (التوحيد)، الذي شعاره (لا اله إلا الله)، وقد جاء بها جميع الرسل، قال المعصوم: "خير ما جئت به أنا والنبيون من قبلي (لا اله إلا الله)"
……………………………………..
(3)
الحق والباطل:
إن القضية الأولى، والأساسية، بالنسبة للنظرية النقدية في الإسلام، هي أن الحقيقة واحدة، هي الذات الإلهية – وهذه الحقيقة التوحيدية الكبرى، تفيد بأنه تعالى، مرجعية كل شيء في الوجود.. فمن هذه الحقيقة ينبثق كل شيء، واليها يعود.. فالوجود مصدره واحد، وطبيعته واحدة، وقانونه واحد، وطريقه واحد، ومصيره واحد.. هذه (الوحدة) هي أهم ما يميز التصور الإسلامي.. وعندما نأتي لمناقشة الحضارة الغربية، سنرى، أن جميع مشاكلها الكبيرة، ناتجة عن الربكة والقصور، في تصورها للحقيقة.. والخلل، في أي قضية من قضايا هذه الحضارة، مرجعه الأساسي، للقصور، والخلل المبدئي في تصور الحقيقة!!
وبما أن الحقيقة واحدة، وهي مصدر الوجود الحادث، كله، فإن الباطل المطلق لا وجود له.. الباطل المطلق لا يدخل الوجود.. فالباطل باعتبار الحقيقة – اعتبار وجهة نظر الله للوجود – لا وجود له!! وإنما وجود الباطل وجود عقلي، يقوم على ظاهر الأشياء.. كما سبق أن قررنا أن كل شيء يدخل الوجود، إنما يدخل بإرادة الله، وإرادة الله حق، يقول تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا، ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار). فالسموات والأرض حق في ذاتها، وخلقت بالحق، فالباطل هو الوجه البعيد عن الحقيقة، والحق هو الوجه القريب منها.. فالكفر، مثلا، دخل بإرادة الله (من آمن فقد آمن بقضاء وقدر، ومن كفر فقد كفر بقضاء وقدر).. فالكافر (مسلم)، من حيث الإسلام العام، الذي لا يخرج عنه خارج، ولا يشذ عنه شاذ!! ولكنه كافر من حيث الشريعة.. والحق هو القانون الذي يسير الله تعالى به الوجود إليه.. وهو، هو الإرادة الإلهية.. يقول تعالى: (وما خلقنا السموات والأرض، وما بينهما، إلا بالحق، وأجل مسمى، والذين كفروا عما أنذروا معرضون) أو يقول: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق، ولكن أكثرهم لا يعلمون).. فالوجود كله، خلق الله، وخلق الله لا يكون لغير حكمة.. وهذه الحكمة هي الحق وراء الباطل في أيّ صورة من صوره. وهذه الحكمة أيضا، هي الحق وراء الشر والعذاب في أيّ صورة من صورهما.. فالحق نسبي، والباطل نسبي، وهما يأخذان نسبيتهما من قربهما أو بعدهما عن الحقيقة وهما مقيدان بحكم الوقت.. فكل حق، هو حق بالنسبة لوقته، فإذا جاء حكم وقت جديد، أصبح باطلا، وانتقل الحق إلى ما هو أكمل منه، حسب حكم الوقت الجديد.. والحق والباطل مرتبطان بما ينفع الناس أو يضرهم.. وما ينفع الناس أو يضرهم، مرتبط بقانون الوحدة – مرتبط بخيري الدنيا والأخرى معا.
من كل ذلك، نخلص إلى أن الله تعالى، هو الفاعل الحقيقي، لكل ما يحدث في الوجود.. وهو تعالى، يفعل بذاته، ويفعل بالأسباب.. وفعله بالأسباب، يعني أن هنالك فاعل مباشر.. والنظرة التي تقوم على التوحيد تقتضي رؤية الفاعل الحقيقي والفاعل المباشر في وقت واحد.. وهذا هو موضوع السببية وهو أهم مواضيع الفكر البشري، في جميع مجالاته، في الدين، وفي الفلسفة، وفي العلم، وفي الفكر، وفي الحياة.. ولما كان فعل الله تعالى في الوجود، لا يكون إلا لحكمة، فإن كل ما يحدث في الوجود له غاية محددة، ولا شيء على الإطلاق يحدث صدفة، أو لغير غرض أو حكمة.. وهذا هو موضوع الغائية الكونية، وهو موضوع المعرفة الحقيقية، وعليه ينبني كل شيء، فيما يتعلق بالقيم والأخلاق بالذات، كما عليه ينبني مفهوم النظرة التاريخية التي وفقها يتم إحقاق الحق وإبطال الباطل – كما سنرى.. وأهم ما يعنينا هنا، عن الغائية الكونية، هو أن الإنسان، في الإسلام، هو الغاية، من جميع الأكوان، ومن جميع ما يجري فيها.. فالكون كله مسخر لإنجاب الإنسان (وسخر لكم ما في السموات والأرض، جميعا منه..) وهذا ينطبق على الإنسان نفسه، فغايته هي نفس الغاية الكونية، وهي تحقيق إنسانيته.. وعلى ذلك، فإن غاية الأكوان وغاية الإنسان، هي غاية واحدة.. وتحقيق إنسانية الإنسان، يعبر عنها في الإسلام بصور مختلفة.. ومن ذلك، أنها تعني، رجوع الإنسان إلى المقام الذي عنه صدر، وهو صورة (أحسن تقويم)، التي كانها في الملكوت، في عالم الأرواح، يحققها هنا في عالم الأجساد..وهذا يعني العودة إلى الفطرة الأساسية التي فطره الله عليها (فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون).. وهذه الفطرة ثابتة، لا تتغير، وهذا معنى قوله تعالى: (لا تبديل لخلق الله) ولكنها تتغطى وقد تغطت بالفعل، عبر التجربة في صراع الحياة.. ووظيفة المنهاج في الإسلام، هي إزالة الحجب التي حجبت الإنسان عن فطرته الأصيلة، حتى يتمكن من الرجوع إليها.. وهذه هي وظيفة القرآن، ووظيفة، منهاج (طريق محمد) عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم.. وتحقيق إنسانية الإنسان، يعبر عنها أيضا، بتحقيق، خلافة الإنسان لله في الأرض، والتي قال عنها تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة).. ويعبر عنها، بتحقيق العبودية لله.. فكل هذه المعاني، تعبر عن موضوع واحد، من زوايا مختلفة.. وتحقيق إنسانية الإنسان، إنما تكون بالترقي في الفكر، وفي القيم، وفي الحرية، طلبا لتحقيق الحياة الإنسانية، والفكر، والقيم، والحرية، في الإسلام، هي أيضا وجوه مختلفة، لموضوع واحد، ولا يمكن الفصل بينها – وهذا ما سيتم بيانه لاحقا.
وأكبر نقائص الحضارة الغربية، والنقص الذي يقضي عليها بالفشل النهائي، هو أنه لا توجد فيها أي غائية كونية!! وهذا ما جعل هنالك، خللا، وقصورا، في جميع قضاياها الأساسية، خصوصا في مجال القيم، فمن المستحيل أن تكون هنالك مرجعية ثابتة للقيم، دون وجود غائية كونية، وهذا ما سنبينه، في موضعه، عند نقد الحضارة الغربية.. وحتى السببية، فإن تصور الحضارة الغربية لها، قاصر أشد القصور، فهي تهمل السبب الحقيقي، وتتعامل فقط مع الأسباب الظاهرة.. وحتى الأسباب الظاهرة، تصور الحضارة الغربية لها، تصور مضطرب جدا.. وسنرى ذلك بصورة خاصة، عندما نتحدث عن السببية في العلم المادي التجريبي، والذي هو من أهم أطر المرجعية، في الحضارة الغربية..
……………………………..
(4)
إطار التوجيه والنقد الذاتي :
النقد أمر طبيعي، وتلقائي، بالنسبة للعقل.. فحياة الكائن البشري كلها، تقوم على تمييز العقل بين قيم الأشياء، والسلوك وفق هذه القيم. ولكن هذا، لا يجعل كل إنسان، صاحب تفكير نقدي، بالمعنى الاصطلاحي.. فالتفكير النقدي هو التفكير الذي يقوم على نظرية في الكون، توجه الفكر، وتعطيه الموازين، التي يزن بها قيم الأشياء بدقة، ويحدد وفقها الوسائل والغايات، ويحدد الصحيح من الخاطئ، والحق من الباطل، والنافع من الضار، بالصورة التي تعين على توجيه العمل البشري، الوجهة الصحيحة المطلوبة، وتعين على خلق إطار عام، يجعل الحوار بين البشر ممكنا.. هذه النظرية عند الماركسية، مثلا، هي المادية الديالكتيكية، وفي الإسلام هي التوحيد.. ولكن هنالك، صورة من النقد السلبي، الذي يقوم على مجرد معرفة الأخطاء، وتصحيحها، مثل هذا التفكير، هو ما نجده عند كارل بوبر، وهو نقد لا يصلح إلا في إطار محدود، هو إطار العلم المادي التجريبي.. وحتى في هذا المجال، هو يقوم على إطار paradigm توجيه .. العقل لا يمكن أن يعمل دون إطار توجيه، يحدد وفقه أسس الخطأ والصواب، والضار والنافع.. قد يكون هذا الإطار صحيحا أو خاطئا.. وقد يكون واضحا ومحددا، عند صاحبه، أو غير واضح ولا محدد، لكنه في جميع الحالات هو موجود، حتى عندما يكون هذا الإطار، هو مجرد المصلحة الذاتية، التي يقيس وفقها عقل الفرد، ما هو صحيح وما هو خاطئ، وما هو نافع وما هو ضار.. فلذلك ليست القضية نظرية أو لا نظرية، وإنما القضية: أي نظرية!؟ فالنقد، بل والتفكير كله، تتوقف صحته، من خطأه، على صحة أو خطأ النظرية، التي توجه العقل، وتعطيه الموازين التي يزن عن طريقها الأشياء، ويحدد قيمتها.. ومن هنا، تأتي الأهمية القصوى للنظرية و إطار التوجيه، الذي تعطيه للفكر والحياة، فصحة التفكير وخطأه، وصحة النقد أو خطأه، يعتمدان، بصورة جوهرية، على صحة النظرية أو خطئها.. وصحة النظرية – أي نظرية – تتوقف على تصورها لطبيعة الكون، والقانون الذي يحكمه، وعلى الطبيعة البشرية، وانعكاس ذلك، على تحديد علاقة الفرد بالكون، وعلاقة الفرد بالمجتمع..
والحضارة الغربية، على الرغم من أنها، لا تقوم على مذهبية واضحة، ومحددة، إلا أنها تقوم على إطار توجيه، لا يخرج من القضايا التالية:
1/ الطبيعة المادية: وهي تمثل إطار التوجيه العام الأساسي.. فالحضارة الغربية، بصورة عامة، تقوم على غلبة التصور المادي للكون.. وغلبة التصور المادي للحياة.. وهذا لا يعني بأية حال، الغياب التام للجانب الروحي – هذا في تقديري أمر مستحيل – وإنما يعني أن الغلبة والهيمنة للتفكير المادي والحياة المادية.. وحتى لو كانت هنالك أغلبية تؤمن بالله، وبالدين، وبالقيم الروحية، فإن هذا الإيمان دوره ضعيف جدا في توجيه سلوك الناس وتفكيرهم، حتى بالنسبة لأولئك الذين ينتمون للأديان السماوية الكبرى مثل الإسلام، والمسيحية، واليهودية.. فجميعهم يغلب على تفكيرهم وسلوكهم الجانب المادي.. فالعبرة بالإطار الذي يوجه التفكير والسلوك، في الحياة اليومية، وهذا قطعا، بالنسبة للحضارة السائدة، ليس الدين وقيمه، وإنما هو المادية.
2/ العلمانية: العلمانية تقوم على توكيد الحياة الدنيا، وتوكيد العقلانية وحرية الفكر، بمعنى أن يكون العقل هو الحكم الفيصل في كل قضايا الفكر والمعرفة.. وأن يكون العقل حرا، في تناول هذه القضايا، دون حجر عليه، ودون الحاجة للاعتماد على شيء خارجه.
3/ المنهج العلمي: والمقصود به منهج العلوم المادية التجريبية.. فالعلم، ومنهجه، هو أعظم انجازات الحضارة الغربية، وهو صاحب الأثر الأكبر على تفكير الناس.. فعليه يقوم تصور الكون، والقوانين التي تحكمه.. ومنهج العلوم التجريبية، كان يعتبر، والى حد كبير لا يزال، المنهج العلمي الوحيد، وكل منهج غيره، لا يتصف بصفة العلمية.. وتطبيق هذا المنهج في الحضارة الغربية، ليس قاصرا، على مجال العلوم الطبيعية، فهو عندهم يحكم التفكير العلمي الصحيح بصورة عامة.. وهذا المنهج، هو الذي زاد من توكيد مادية الحضارة.. وتطبيقاته، وما تم عبرها من انجازات أخصبت الحياة البشرية، هي صاحب الدور الأكبر في هيمنة الجانب المادي، على حياة البشر..
4/ اللبرالية: إن أهم الأسس التي تقوم عليها العلاقات الاجتماعية في الحضارة الغربية، هي: اللبرالية ، والديمقراطية، والرأسمالية.. وثلاثتها محكومة بأطر التوجيه المذكورة في النقاط الثلاثة، أعلاه.. واللبرالية، هي توكيد للفردية، والحرية الفردية، والملكية الفردية.
هذه هي أساسيات إطار التوجيه في الحضارة الغربية.. وجميعها ، لها وجهها من الحق، ولكنها جميعها أيضا، تقوم على خلل، وقصور، أساسيين، بصورة تجعل الحضارة الغربية، حضارة فاسدة في جوهرها ، وهذا ما سنبينه في موضعه، عندما نتحدث عن الحضارة الغربية.. جميع مصطلحات الحضارة الغربية، الأساسية، مرتبطة، ببعض هذه الموجهات، ومحكومة بها، وينبغي النظر إليها في إطارها.. فجوانب الصحة، وجوانب الخطأ، في هذه المصطلحات، يرجع بصورة أساسية إلى إطار التوجيه، الذي يقوم على النقاط الأربعة المذكورة.. وهذا ، ما سنتناوله ، بالنقاش، عند نقد الحضارة الغربية..
إن أهم ما نود الإشارة إليه هنا هو أن أهم ما يميز الإسلام كنظرية نقدية، إلى جانب التصور الذي يعطيه التوحيد للكون وللطبيعة البشرية، والقانون الذي يحكمهما، هو أن إطار التوجيه في الإسلام ليس تصورا خارجيا فقط، وإنما هو أساسا تحقيق داخلي!! فالتوحيد، الذي هو إطار التوجيه الأساسي، هو صفة الموحد (بكسر الحاء) – صفة الإنسان. وهذا يجعل الميزان الذي وفقه تتحدد قيم الأشياء ليس هو العقل الخام – العقل المجرد – كما هو الحال، عند جميع النظريات النقدية الأخرى، وإنما هو عقل المعاد.. وعقل المعاد، هو نفس عقل المعاش، ولكن بعد أن يتم تأديبه، وتهذيبه، عن طريق المنهاج، منهاج (طريق محمد) عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم.. وهذا التهذيب عمل في النقد الذاتي، وفقه يتم الانتقال من عقل المعاش إلى عقل المعاد، والتسامي في مراقيه..
………………………………………
(5)
النقد الذاتي هو أساس النقد وجوهره :
النقد الذاتي، في الإسلام، هو عمل دائم، يستوعب الحياة جميعها، في كل تفاصيلها.. والى ذلك الإشارة بقوله تعالى، لنبيه: (قل إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين).. والنقد الذاتي وسيلة لتحقيق كمال حياة الفكر، وحياة الشعور.. هو وسيلة لتحقيق إنسانية الإنسان.. وهذه هي غاية الإنسان، وغاية الأكوان.. وقد سبق أن ذكرنا، أن في الإسلام، ليست هنالك غاية في ذاتها إلا الإنسان.. وكل شيء في الوجود، إنما هو وسيلته.. فتحقيق إنسانية الإنسان هو جماع التكليف الديني، في جميع أكوان وجود الإنسان.. في هذه الحياة الدنيا، وفي دنيا البرزخ، وفي النار، وفي الجنة.. والنقد الذاتي، الذي يقوم عليه منهاج (الطريق)، غرضه تحقيق هذه الغاية.. فالسالك وفق هذا المنهاج، عمله يكون صحيحا، بالقدر الذي به يتغير في اتجاه تحقيق إنسانيته، فإذا لم يحدث التغيير المطلوب، أو توقف من النمو، فلا بد أن هنالك خطأ ما، في تطبيق المنهاج، فعلى السالك تصحيح هذا الخطأ، عن طريق النقد الذاتي، والذي يقوم على معرفة عيوب النفس، ومعرفة عيوب العمل، لتصحيحهما والانطلاق في مراقي الإنسانية.. وعمل المنهاج كله، يقوم على التجربة، في الخطأ والصواب، بالصورة التي تعين العقل على القوة والاستحصاد، حتى يكون على الاستقامة، ويقود النفس إلى الاستقامة.. وبذلك يتم الانتقال المتدرج، من الحياة الحيوانية – الحياة الدنيا – نحو الحياة الإنسانية – الحياة العليا أو الأخرى.. أو من النفس الأمارة بالسوء إلى النفس الكاملة.. وقد سبق أن ذكرنا أن الإنسان، ما دامت تسيطر عليه صفات الحيوان، خضع لها أو قاومها، فهو في الحياة الدنيا.. فالحد الأدنى، من تحقيق إنسانية الإنسان هو تجاوز صفات الحيوان، بصورة تامة.. وهذا يعني، ضمن ما يعني، أن يكون ما يسير الإنسان في جميع حياته، الفكر، بدل الغريزة التي كانت تسيره في مرحلة الحيوانية.. فالإنسان، هو برزخ بين الملائكة والأبالسة، وهو نقطة التقاء النور والظلام – العقل والشهوة – وقد أمر العقل في الإنسان، بترويض الشهوة.. وعلى هذا قام التكليف، وبه ظهر الإنسان.. فإنسانية الإنسان تحدد بدخول ( القيمة) في حياته.. تلك القيمة التي جعلته يفارق خط الحيوان، حيث الغرائز والشهوات هي التي تسيره، إلى خط الإنسان، حيث الغرائز تخضع لسيطرة وتوجيه العقل.
فالنقد الذاتي يهدف، أول ما يهدف إلى تحرير الفكر.. فالنفس العليا التي أشرنا إليها، إنما هي النفس الخاضعة في شهواتها لمقتضيات العقل القوي المستحصد.. والنقد الذاتي، الذي يقوم عليه المنهاج، إنما هو عمل في إعانة العقل على هذه القوة والاستحصاد.. ولكي تتحرر النفس من ربقة الحيوانية، وتستقيم، لا بد أن يستقيم العقل أولا، حتى يفكر التفكير المستقيم.. فالفكر مؤوف بآفات لا حصر لها، وسببها جميعها، الخوف.. والطمع طرف من الخوف.. والهوى صنو الخوف.. وعمل المنهاج هو التخلص من آفات الفكر، بالتخلص من الخوف، ومن اتّباع الهوى .. فالمنهاج كله عمل في ترويض العقول على دقة التفكير.. يقول الأستاذ محمود: "وإنما من أجل رياضة العقول على أدب الحق وأدب (الحقيقة)، حتى تقوى على دقة التفكير ، جاء الإسلام، وأنزل القرآن، وشرعت الشريعة.. فأنت إذا سُئلت عن الإسلام فقل لهم: انه منهاج حياة، وفقه تراض العقول، لتقوى على دقة التفكير.. والله تبارك وتعالى، يقول في ذلك: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون).. قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر) يعني القرآن المحتوي على الحقيقة، كلها، وعلى الشريعة كلها .. الحقيقة التي أعلى من مستواك، والحقيقة التي في مستواك، والحقيقة التي في مستوى أمتك.. وعلى الشريعة التي هي في مستواك، والشريعة التي في مستوى أمتك – قوله تعالى: ( لتبين للناس ما نزل إليهم) يعني لتفصل لهم الشريعة التي يحتاجونها، وطرفا من الحقيقة التي يطيقونها، مما يزيد في فهمهم، واحترامهم للشريعة.. قوله تعالى (و) من قوله تعالى: (ولعلهم يتفكرون) يعني مرهم أن يعملوا بالشريعة، بعقول مفتوحة، وقلوب حاضرة.. قوله تعالى: (لعلهم يتفكرون) هو المعلول، وراء كل العلل، والمطلوب وراء كل المطالب، والمقصود وراء كل المقاصد.. يتفكرون في ماذا؟ في السماوات والأرض؟ لا!! ليس فحسب!! فإنما هذا تفكير مقصود لغيره.. مقصود بالحوالة!! أما التفكير المقصود بالأصالة فهو تفكيركم في أنفسكم.. قال تعالى: (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ!! أَفَلا تُبْصِرُونَ؟؟)" ..
منهاج (الطريق) كله، في عباداته، وفي معاملاته، يقوم على (التقوى)، التي تثمر (الفرقان) .. والفرقان هو التفكير الدقيق، والتمييز السليم، بين قيم الأشياء، وهذا هو ميزان النقد.. وهذا ما جعلنا نقول، أن النقد الذاتي هو أساس النقد وجوهره.. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ، إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً، وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) قوله تعالى: (يجعل لكم فرقانا) يعني يجعل لكم مقدرة في عقولكم بها تفرقون بين الحق والباطل.. يعني يجعل لكم مقدرة في عقولكم، بفضل التقوى، بها تقوون على التفكير الدقيق، والتمييز السليم.. فالتقوى (شجرة) والفرقان (ثمرة) .. وكلما تدق التقوى، يدق الفرقان، ويقوى.. والتقوى مستويات، والفرقان مستويات.. وأغلظ مستويات التقوى ما يكون عند المؤمن العادي، وهو مستوى الحلال البين والحرام البين.. ثم يتم التسامي في مراقي التقوى، بصورة منهجية، إلى مرتبة الورع، فصاحب اليمين، فالبر، فالمقرب، ثم صاحب الاستقامة، وهو يقابل النفس الكاملة.. وليس للكمال نهاية، وكذلك ليس للاستقامة نهاية.
إن غرض النقد الذاتي، الذي يجري بهذه الصورة التي ذكرناها، هو ترويض العقول على التواضع، وعلى المحايدة، وعلى البراءة من الغرض، حتى تستطيع أن ترى حقيقة الأمر على ما هو عليه، وبذلك تملك الميزان الدقيق والسليم، الذي به تزن قيم الأشياء، دون أي تدخل، من الذات يفسد هذا الوزن، بعد أن تكون الذات قد تخلصت، بفضل الله، ثم بفضل العمل بالمنهاج، من كل الانحيازات.. وهاهنا يكون الفكر، ليس تعملا، وإنما هو طبيعة، قد تصفت من جميع أسباب التواء الفكر، وضعفه، وقلته..
نحن هنا لسنا بصدد التفاصيل فيما يتعلق بالنقد الذاتي، كما هو في منهاج (الطريق)، وإنما أردنا فقط توكيد أهمية التربية العقلية السليمة، التي يقوم عليها الإسلام، كنظرية نقدية.. وهذا، أمر غائب تماما، في جميع النظريات النقدية الأخرى، الأمر الذي أدى، ويؤدي إلى اضطرابها وعجزها.. ومن يحب أن ينظر في التفاصيل، نحيله إلى كتاب (تعلموا كيف تصلون)..
………………………………………..
(6)
نقد الواقع :
إن ما يحدد نظرتنا للواقع، وتعاملنا معه، هو موقفنا من الحقيقة.. بل إن موقفنا من الحقيقة، هو الذي يشكل جميع تفكيرنا، وحياتنا .. وفي الإسلام – كما سبق أن ذكرنا – الحقيقة واحدة، ومطلقة.. وهي الذات الإلهية .. ولأن الحقيقة مطلقة، فلا شئ في الوجود، يمكن أن يقوم من دونها، أو يكون على غير صلة بها .. فكل شئ في الوجود هو وجهها (وأينما تولوا فثم وجه الله) .. فهي مهيمنة على الوجود هيمنة مطلقة .. وهذه الهيمنة، هي دين الإسلام العام، الذي لا يخرج عنه خارج، ولا يشذ عنه شاذ .. فأي نظرة، لأي شئ في الوجود، دون اعتبار هذه الحقيقة، هي نظرة قاصرة، ومنبتة!! ولما كانت الحقيقة هي صاحبة الفاعلية المطلقة في الوجود، فكل ما يحدث في الوجود هو تجلي لقدرتها – تجسيد لهذه القدرة – وهذا هو الواقع .. والقدرة هي تنزل عن الإرادة، والإرادة تنزل عن العلم، ولذلك قلنا إن الواقع هو تجسيد علم الله، فهو مصنوع من مادة الفكر.. وقد أوردنا قول الأستاذ محمود في هذا الصدد، ونعيده هنا، فهو قد قال من كتابه (القراّن ومصطفي محمود والفهم العصري).. "فالعالم هو تجسيد علم الله – هو تجسيد فكر العقل الكلي، المحيط والمطلق في ذلك – وإنه لحق أن العلم قد صنع من مادة الفكر ومن اجل ذلك جاءت كرامة الفكر .. ولم يجعل الله هادياً في شعاب ظلمات العالم غير نور العقل القوي الفكر.. وإنما من أجل تقوية الفكر أرسل الله الرسل، وأنزل القرآن، وشرع الشرائع .. قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس، ما نزل إليهم، ولعلهم، يتفكرون) .. فكأن العقل إذا روّض، وأدب بأدب الشريعة، وأدب الحقيقة، "أدب الوقت"، أصبح شديد القوى، دقيق الفكر، نافذه .." ولو أن الواقع والفكر بينهما اختلاف نوع، لما أمكن للفكر، أن يتعامل مع الواقع .. فكون الواقع، مصنوع من مادة الفكر، هو جوهر العلاقة بين الفكر والواقع، كما هو جوهر تميز الإنسان على جميع خلق الله .. وهو الذي أعطى الإنسان إمكانية، أن يكون خليفة الله، وجعل هذا واجبه الأساسي بل وقدره المقدور.
وفي حين أن الحقيقة واحده، ومطلقة، فإن الحق والباطل، متعددان ونسبيان .. فالباطل ليس أصلا، في الوجود، وإنما هو فرع .. فالباطل لا وجود له في الحقيقة، وإنما وجوده وجود عقلي، وجود شرعي، وذلك لان كل ما يدخل الوجود، لا يدخل إلا بإرادة الله .. وإرادة الله، لا تكون باطلاً، عن ذلك تعالى الله علواً كبيراً .. وإنما هي دائما تكون لحكمة، وهذه الحكمة الإلهية، هي وجه الحق الذي في الباطل.. فالباطل هو وجه الحق البعيد من الحقيقة، في حين أن الحق هو الوجه القريب منها .. وكلاهما متحرك يطلب الحقيقة، ونسبيتهما، هي نسبة قربهما، أو بعدهما من الحقيقة.
وأمر هذه الثنائية، هو أمر ضروري جداً، لإدراك العقول البشرية، فهي لا تدرك الأشياء إلا بضدها، ولذلك خلق الله تعالى الأزواج .. قال تعالى: (ومن كل شئ خلقنا زوجين، لعلكم تذكرون * ففروا إلى الله، إني لكم منه نذير مبين..) فالحكمة من خلق الأزواج هي تمكين العقول من الإدراك: "لعلكم تذكرون" والتذكر عملية مزاوجة بين طرفين: الذاكرة والخيال .. قوله "فروا إلى الله" يعني فروا من التعدد الذي يقوم عليه ظاهر الواقع، إلى الوحدة، التي تقوم عليها الحقيقة .. أو فروا من الإدراك الشفعي – إدراك العقول – إلى الإدراك الوتري – إدراك القلوب!!
لقد سبق أن ذكرنا، أن الواقع هو تجلي الله .. والتجلي هو ظهور "الأمر" في الزمان والمكان يقول تعالى: (كل يوم هو في شان) وشأنه تعالى، هو إبداء ذاته لخلقه ليعرفوه .. ويومه هنا، هو لحظة التجلي، وهي تدق حتى تخرج عن الزمن .. والزمن هو اكبر خلق الله، على الإطلاق، والمكان هو مظهر الزمان، وللوحدة بين الزمان والمكان، أصبح يعبر عنهما في العلم الحديث بالزمكان .. وما يظهر في الزمان والمكان – الواقع – يشمل النور والظلام، الخير والشر، الحق والباطل .. الخ، ولكن هذه الثنائيات ليست متساوية، فدائماً أحدها أصل، والثاني فرع، والاختلاف بينهما اختلاف درجة .. فالنور أصل، والظلام فرع .. والخير أصل والشر فرع.. والحق أصل والباطل فرع ..الخ، وجميعها متحركة، والحركة دائماً من الفرع، نحو الأصل، والأصل نفسه متحرك، يطلب الحقيقة – وقد سبق الحديث عن ذلك .. وما نريد أن نؤكده هنا هو أن الحركة في الواقع هي حركة هادفة، وليست عشوائية .. وغايتها النهائية هي الحقيقة .. وهي في سيرها نحو هذه الغاية، في كل وقت جديد تنزل منزلة جديدة.. وهذه المنازل وفقها يتحدد الحق والباطل .. وهذا ما يسمى "حكم الوقت" وهو أمر هام جداً، ولا يمكن من دونه قراءة الواقع، قراءة صحيحة .. هذا الذي ذكرناه، من أن الحركة في الكون، حركة هادفة، هو ما يعبر عنه ب "الغائية الكونية "، وهو أمر غائب تماماً في الفكر الغربي، وهذا من اكبر صور قصور الحضارة الغربية – كما سنري في موضعه .. المهم أن القراءة الصحيحة للواقع، لا تقوم على مجرد رؤية أحداث الواقع، وإنما تقوم على رؤية الحكمة من وراء هذه الإحداث.. وإذا لم يكن هنالك إيمان، بوجود حكمة، وراء أحداث الواقع – وهذا ما عليه الفكر الغربي في معظمه – فلا يمكن أن تكون هنالك قراءة صحيحة للواقع، وإنما ينظر إلى أحداثه كأحداث عشوائية، اعتباطية، وهذا جوهر ما يقوم عليه فكر ما بعد الحداثة.
علينا أن نصطحب هذه النقطة معنا، دائماً، لأنها تشكل جوهر الاختلاف بين الفكر الإسلامي، والفكر العلماني..
…………………………………….
(7)
حكم الوقت:
تتحدث بعض مدارس الفكر الغربي، عن النظرة التاريخية أو التاريخانية .. وهي تعني في تبسيط، تأثر الفكر والحياة، بالظروف التاريخية، فلا يمكن مثلاً، أن تسبق الاشتراكية الرأسمالية، ولا أن تسبق الرأسمالية الإقطاع .. فظروف التاريخ، وما يحدث فيه هي التي تحدد طبيعة المرحلة.. وفي الغالب، تقوم هذه النظرة على مفهوم تطوري.. ما يقابل هذه النظرة من الإسلام هو مفهوم "حكم الوقت" وهو، وإن كان يسير في نفس اتجاه النظرة التاريخية إلا أنه أكمل منها بما لا يقاس.. وإنما يجئ الاختلاف الجذري، بين النظرتين، من أن مفهوم "حكم الوقت" يقوم على "الغائية الكونية" وهي بدورها، تقوم على أن وراء أحداث الكون، إرادة مدبرة حكيمة، تضع كل شئ في موضعه .. ويمكن فهم مرامي هذه الإرادة المتفردة، وحكمتها عن طريق العمل بالمنهاج الذي وضعته للبشر وهو منهاج، في جملته، يعمل على خلق الصلة بمصدر هذه الإرادة، والتلقي عنه ومعرفة حكمته، وراء فعله، والعمل وفق هذه المعرفة وهذا ما يعرف في الدين ب- "أدب الوقت" .. فعن طريق العمل بالمنهاج، والتأدب بأدب الوقت نعرف حكم الوقت، فتظهر لنا حكمة الله الباطنة وراء فعله الظاهر، ونكون على بينة من الأمر، في الفكر وفي السلوك .. وهذا لا يوجد له أي مقابل، في الفكر الغربي .. بل ان مجرد، مفهوم "الغائية الكونية" في هذا الفكر غائب .
جل ما نريد أن نقرره هنا، هو أن قراءة الواقع، وإحقاق الحق وإبطال الباطل، لا يمكن أن تعرف في وقتها، إلا بمعرفة حكم الوقت، وهو ببساطة: الحكمة وراء ما أظهره الله في الوقت.. وهذا لا يتم إلا عن طريق العقول المؤدبة بأدب الوقت (فالعقل، إذا روّض، وأدّب بأدب الشريعة، وأدب الحقيقة "أدب الوقت"، أصبح شديد القوى، دقيق الفكر، نافذه).. فهذا العقل هو الذي يدرك القراءة الصحيحة للواقع، فيعرف ما هو باطل حسب حكم الوقت، فهو زائل .. وما هو حق حسب حكم الوقت، فهو باق، ونام .. وبذلك يقوم، بتصفية الرضا من الإرادة ..
والواقع بالطبع درجات، فهنالك الواقع الذي يمثله التجلي اللحظي، والواقع بالنسبة لكل فرد، في كل جزيئات حياته.. والواقع بالنسبة للمجتمع المعين، أو الدولة المعينة، والواقع للحضارة ككل.. وكل هذه المستويات متداخلة، ومتكاملة.. ونحن ما يعنينا هنا هو الواقع الحضاري بالذات، وهو مؤثر على جميع صور الواقع الأخرى .. ولمزيد من البيان، وحتي تكتمل الصورة، سنعرض نماذج من قراءة الأستاذ محمود للواقع، وهي بالطبع قراءة تقوم على تطبيق منهج الإسلام الذي يدعو له..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.