هل هز بريان ويليامز ثقة الجمهور فيه كصحفي ومحاور متفاعل على شبكة "إن بي سي"، أم أن مؤشر الثقة ينحدر بشكل مخيف بوسائل الإعلام برمتها في عصر "المواطن الصحفي". ستزيد كذبة هذا الصحفي الذي يعد الأكثر مشاهدة من قبل الجمهور الأميركي، ويحصل على راتب يصل إلى عشرة مليون دولار سنويا، من سمك حزمة التساؤلات أمام وسائل الإعلام. ببساطة، إنه استساغ الأكاذيب المتصاعدة والمستمرة التي روجت لحرب احتلال العراق، دون أن يحاسب عليها أيا من الكذابين الكبار، ولفق قصته مع المروحية التي تعرضت إلى إطلاق نار مدعيا أنه كان من بين ركابها، وظهر لاحقا عدم صحتها. وهذا ما دفع ستيف بورك الرئيس التنفيذي للشبكة إلى إصدار بيان أكد فيه أن ويليامز قوض، بتصرفاته هذه، ثقة الملايين من الأميركيين في "إن. بي. سي نيوز"، رافضا قبول اعتذاره عن تصرفاته، وواصفا إيقافه بالصارم والملائم. لكن ماذا عن صناعة الخطاب برمته في الشبكة ياسيد بورك؟ إنه السؤال الواقعي الذي تواجه به "إمبريالية البث الفضائي" وليس من المؤمل الحصول على إجابة قريبة. ستبدو "كذبة" بريان ويليامز شخصية لا تمس جوهر الصناعة الصحفية في كل التداعيات التي تشغل وسائل الإعلام منذ أيام، بعد أن علق عمله في المحطة لمدة ستة أشهر دون أجر، لكن الأكاذيب متصاعدة ومستمرة ليس في مستنقع العراق الآسن وحده، ولسوء الحظ لا يمكن إيقاف أي ممن يقف وراء هذه الأكاذيب كما حدث مع بريان ويليامز، لمجرد أن وسائل إعلام كبرى تبرع في صناعتها. يتساءل المتابعون عن مغزى توقيت كذبة ويليامز، وجدوى استعادة قصة إخبارية بعد أثني عشر عاما من حدوثها. وفي كل الأحوال سيكون من غير المفيد أن تطوق هذه الكذبة بسلوك شخصي لأحد المشاهير على الشاشة الأميركية، لأنها وفق التقويم المفرط في التفاؤل، تمثل مرضا إعلاميا قائما يصنف فيه التهويل الإخباري على درجات وفق الألوان الفاقعة والرمادية. لنا أن نتأمل ردود الفعل على هذه الحادثة، فهي تكاد تكرر أقوالا سائدة ومثالية، دون أن تجرؤ على التطرق إلى جوهر الصناعة الإعلامية برمتها، لا أحد من الأوساط الإعلامية الأميركية التي أرخت سوطها على كذبة ويليامز، تجرؤ على استعادة الأكاذيب التي بدأت قبل الإطلاقة الأولى في احتلال العراق ولم تنته بعد في الإعلام الأميركي، سياسيون كبار يكذبون ووسائل إعلام تقدم طبق الأكاذيب على أنه الوجه الناصع للحقيقة من أرض الخراب. لا أحد مثلا عاد إلى أكاذيب الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، وهو يطالب مدير تحرير ومقدم "نايتلي نيوز"، بالتمسك بمعايير عالية للأخبار في جميع الأوقات. بل إن البعض عاد ليبحث في تقارير بريان ويليامز السابقة عن إعصار كاترينا، والهجوم الإسرائيلي على حزب الله في عام 2006، عله يجد ما يشبه كذبة العراق، بعد أن هبط مؤشره على قائمة الناس الأكثر ثقة في الولاياتالمتحدة من الرقم 23 إلى الرقم 835، فيما الأكاذيب المتصاعدة في الميدان العراقي لا تثير شهية إعلام يريد إيهامنا بأنه الوجه الناصع للحقيقة. لن تكفي هنا استعادة كلام سابق لمراسل مخضرم في دول الشرق الأوسط مثل باتريك كوكبيرن، بتأكيده أن الحروب التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في العقد الماضي، والمتصاعدة اليوم، أسهمت بطريقة ما في صناعة المفاهيم الخاطئة عن هوية المنتصر والمهزوم. ويعزو كوكبيرن الذي عمل مراسلا في دول عربية لصحيفتي فاينانشال تايمز، ثم الاندبندت، منذ عام 1979، سبب صناعة "المفاهيم الخاطئة" إلى الصحف والتلفزيون والراديو، حيث لعب الصحفيون دورا مركزيا في ذلك، وهو في كل الأحوال يدرك أنه كان جزءا من هذه الصناعة. لذلك يبدو من المفيد أن يكون للإعلام الأميركي "ميثاق شرف" أشبه بالذي أقرته بريطانيا أخيرا، بعد أشهر من التحقيق حول قيم الأخبار في الصحافة، ومازال الجدل يتصاعد حول جدواه بين السياسيين ووسائل الإعلام. لأن الصحافة الأميركية انتهكت منظومة القيم الأخلاقية للإعلام والمجتمع معا التي أرسيت على مدار عقود، ليس في موضوع احتلال العراق وحده، بل في كل ما يحدث بميادين تضرم فيها النار ولا أحد يقبل على إطفائها، من أجل مصالح ذاتية، مستخدمة غطاء سميكا للتأثير والترهيب.