لقد أصبحت الصحافة ساحة لمعركة لغوية حقيقية عندما يستخدم المراسلون والمحللون الصحفيون عبارات مثل "تزايد العنف" أو "المستوطن" فإنهم إنما يمارسون لعبة خبيثة. هل تابعتم آخر المفردات الصحفية التي استخدمت في التعليق على الأحداث؟ فالصحافة والحكومة الإسرائيليتان تعيشان حالة حرب حقيقية. الإرهاب الإسلامي، الإرهاب التركي، حماس الإرهابية، الجهاد الإسلامي الإرهابي، الحرب على الإرهاب، الإرهاب الفلسطيني، الإرهاب الإيراني، حزب الله الإرهابي، الإرهاب المعادي للسامية. في الحقيقة، لقد ظلمت الإسرائيليين ولم أوفهم حقا هم جديرون به. فالمفردات التي يستخدمونها دائما، وكذلك البيت الأبيض والمراسلون الصحفيون هي نفسها لا تتغير. حتى أكون عادلا مع الإسرائيليين فإن مفرداتهم كالآتي: إرهاب، إرهاب، إرهاب، إرهاب، إرهاب، إرهاب، إرهاب، إرهاب، إرهاب، إرهاب، إرهاب، إرهاب، إرهاب، إرهاب، إرهاب، إرهاب، إرهاب، إرهاب، إرهاب، إرهاب. كم مرة كررت كلمة "إرهاب"؟ نعم عشرين مرة لكن قد تكون ستين مرة أو مائة أو ألفا أو حتى مليون مرة. نحن نعشق هذه الكلمة وأصبحنا كمن وقع في أسرها بسحرها. إن كلمة "إرهاب" تسحرنا وتغتصبنا و... إنها الحب والسادية والموت في بوتقة واحدة. فهي الأغنية التي تتكرر في كل سيمفونية تلفزيونية وهي العنوان الذي يتصدر الصفحة الأولى من كل جريدة وهي النقطة والفاصلة ونصف النقطة والنقطة النهائية في كل مقالاتنا الصحفية.. إرهاب، إرهاب، إرهاب.. كل تكرار إنما يبرر ما سبقه. لقد أصبح كل شيء ينصب على الإرهاب والقوة أو القوة والإرهاب. لقد ساهمنا نحن الصحفيين في هذا الوضع، فقد أصبحت لغتنا الصحفية حليفا مبتذلا وشريكا قويا للغة التي تستخدمها الحكومات والجيوش والجنرالات والأسلحة. مازلت أتذكر حتى اليوم تلك المفردات التي كانت تتردد على ألسنة الساسة الذين كانوا يروجون لحرب الخليج الأولى ووجدت طريقها الى الكتابات الصحفية. أما في حرب الخليج الثانية سنة 2003 فإن الحديث عن "أسلحة الدمار الشامل العراقية" قد صم آذاننا وراحت حكومتنا، كما الحكومات الأخرى بقيادة الإدارة الأمريكية والدول الحليفة لها، تسوق للحرب في العراق حتى ان رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير قد قال إن 45 دقيقة تفصلنا عن الإرهاب، في إشارة إلى التقارير الاستخباراتية التي استند إليها والتي زعمت ان العراق قادر على إطلاق أسلحة الدمار الشامل الفتاكة خلال 45 دقيقة فقط.السلطة ووسائل الإعلام.. لا يتعلق الأمر فقط بالعلاقة الحميمة بين الصحفيين والقادة السياسيين أو بين رؤساء التحرير والرؤساء. لا يتعلق الأمر فقط بالعلاقة الوثيقة بين المراسلين الصحفيين ودوائر السلطة التي تتوزع ما بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية والبنتاجون الأمريكية أو بين 10 دوننج ستريت ووزارة الدفاع أو بين الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل. في الغرب تتركز العلاقة بين السلطة ووسائل الإعلام على مستوى الكلمات - أو بالأحرى على مستوى استخدام الكلمات، وتوظيف معانيها ومدلولاتها واستغلال الجمل حتى إذا تطلب الأمر اخراجها من سياقها. لقد أصبحنا اليوم نحن الصحفيين تدريجيا أسرى لغة السلطة ومن يمسك بالسلطة حتى ان الجمل التي نكتبها تكاد تكون مستنسخة من تلك التي يقولها وينطق بها رجال السياسة. هل لهذا السبب أصبحت افتتاحيات الصحف اليوم أشبه بالخطب السياسية؟ لقد ظلت القيادات الأمريكية والبريطانية -الإسرائيلية والفلسطينية - تستخدم على مدى عقدين عبارة مسار السلام، في إشارة إلى اتفاقية بائسة ويائسة وخبيثة لأنها أتاحت للولايات المتحدةالأمريكية واسرائيل السيطرة على الأرض التي كان يجب ان تذهب للشعب الذي يرزح تحت نير الاحتلال. لقد حاولت جاهدا أن اتقصى مصدر عبارة "مسار السلام" في أيام خضم الحديث عن أوسلو، رغم أننا نسينا بسرعة وبكل سهولة عملية الاستسلام الكامل التي تمت سرا في أوسلو والتي ارتقت إلى المؤامرة لأنه لم يكن لها أي أساس قانوني. يا لأوسلو المسكينة! ما الذي فعلته أوسلو حتى يلحق بها هذا الذم؟ إن تلك الاتفاقية التي ابرمت في حديقة البيت الأبيض الأمريكي في 13 سبتمبر 1993 هي التي مثلت المعاهدة الخبيثة والمريبة لأنها نصت على تأجيل البت في قضايا مركزية مثل اللاجئين والحدود والمستوطنات اليهودية حتى الجداول الزمنية للاستحقاقات، حتى لا يبقى هناك ما يمكن التفاوض بشأنه، وهو فعلا ما نشهده اليوم. لم يعد هناك ما يمكن التفاوض بشأنه. كم ننسى بسهولة ما جرى في حديقة البيت الأبيض رغم أننا نتذكر تلك الصور المبهرة وتلك الأيادي التي امتدت لتتصافح، يومها استدل بيل كلينتون ببعض المعاني القرآنية فيما راح ياسر عرفات يردد: "شكرا سيدي الرئيس! شكرا سيدي الرئيس! شكرا سيدي الرئيس!". ماذا اسمينا كل ذلك الهراء بعد ذلك؟ نعم لقد كان "حدثا تاريخيا". هل كان حقا حدثا تاريخيا؟. هل تذكرون ما قاله ياسر عرفات يومها وبعد ذلك مئات بل آلاف المرات؟ لم يكن ليفوت أي فرصة ليتحدث عن سلام الشجعان لكن فاتنا جميعا أن الجنرال الفرنسي شارل ديجول هو الذي استخدم عبارة "سلام الشجعان" في إشارة منه إلى نهاية الحرب الجزائرية. لقد خسرت فرنسا الحرب وتكبدت الهزيمة وخرجت من بلد طالما اعتبرته امتدادا طبيعيا لها ضمن مشروعها الاستعماري. لم نفطن إلى هذه المفارقة التي تحمل على السخرية. ها هو السيناريو يتكرر مرة أخرى وها هم الساسة يستغلوننا مرة أخرى حيث اننا مازلنا ننقل عن جنرالاتنا العباقرة أنه لا يمكن كسب الحرب في أفغانستان إلا من خلال "كسب معركة القلوب والعقول". لم يسألهم أي أحد منا: أليست هذه نفس العبارات التي كانت تستخدم قبل أكثر من اربعة عقود في الحديث عن المدنيين الفيتناميين إبان الحرب في فيتنام؟ ثم ألم يتكبد الغرب - الولاياتالمتحدةالأمريكية - شر هزيمة في فيتنام؟ رغم ذلك ها نحن الصحفيين الغربيين نتحدث عن أفغانستان ونستخدم عبارة "القلوب والعقول" في مقالاتنا وتحليلاتنا كأن الأمر يتعلق بمفهوم جديد أضيف إلى القاموس السياسي، أكثر مما يتعلق برمز حقيقي للهزيمة المرة الثانية خلال أربعة عقود. الغريب أن المفردات التي كنا نسمعها في العراق أصبحت تستخدم في الخطب السياسية والكتابات الصحفية. لقد انهار مسار السلام إذاً. لذلك فإن قادتنا أو اللاعبين الأساسيين - كما نسميهم - يحاولون انعاشه من جديد. إن الأمر أشبه بالقطار الذي "حاد عن سكته". كانت إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون أول من استخدم هذه العبارة، ثم الإسرائيليون فالبي بي سي. لكن هناك حتما مشكلة عندما "يعاد مسار السلام إلى سكته التي حاد عنها" غير أنه يخرج عن سكته في كل مرة. لذلك تفتقت العبقرية الغربية بقيادة إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش عما أسموه "خريطة الطريق" التي تديرها "اللجنة الرباعية" التي يقودها صديقنا القديم الملطخة يداه بدماء أطفال العراق توني بلير الذي أصبحنا نشير إليه على أنه "مبعوث السلام"، يا للعار التاريخي! لكن خريطة الطريق لم تحقق أي شيء يذكر وإنما أكسبت إسرائيل كثيرا من الوقت لمواصلة مخططاتها الاستيطانية. ها هو "مسار السلام" القديم قد وجد طريقه ثانية إلى صحفنا ومجلاتنا وشاشاتنا التلفزيونية. قال لنا أحد أولئك الممثلين الذين يسمونهم "خبراء" و"محللين سياسيين" على شبكة السي ان ان ان "مسار السلام قد بدأ يعود إلى سكته لأن الإسرائيليين والفلسطينيين قد اتفقوا على إجراء محادثات غير مباشرة". إليكم هذه الافتراءات الإعلامية الجبانة التي تجعل أسنان رجل مثلي في الثالثة والستين من عمره يضرب بعضها ببعض وأن آكل الحمص والطحينة في الشرق الأوسط. إنهم يزعمون أن هناك "روايات تاريخية متضاربة" وأن هذه هي مشكلة الشرق الأوسط. يا للذكاء الألمعي الخارق! لا يوجد عدل كما أنه لا يوجد أي ظلم. كل ما في الأمر أن شعبين يتصارعان من أجل قول روايتين تاريخيتين مختلفتين، "روايات مختلفة" عبارة تزخر بها الصحف الربيطانية كثيرا. إن هذه العبارة، المستمدة من اللغة الانثروبولوجية الخاطئة، تستبعد حقيقة أن شعبا في الشرق الأوسط، على سبيل المثال، يرزح تحت الاحتلال فيما يمارس عليه الشعب الآخر واقع الاحتلال في أبشع مظاهره. مرة أخرى لا حديث عن العدل والظلم أو الظالم أو المظلوم في فقه السياسة والصحافة الغربيتين. فقط طرفان يختلفان في رواية التاريخ. و"الاختلاف لا يفسد للود قضية" كما يقال، أي الأمر أشبه بمباراة في كرة القدم إن شئتم. في الفقه السياسي والصحفي الغربي يصبح "الاحتلال" مجرد "نزاع" و"الأراضي المحتلة" تتحول إلى "أراض" و "الجدار" يتحول إلى "سياج" أو "حاجز أمني". أما مظاهر الاستعمار الاسرائيلي للأراضي العربية، التي تنتهك كل القوانين والمواثيق والأعراف الدولية، فهي تختزل في كلمات اخف وقعا مثل "المستوطنات" و"النقاط العشوائية" و"الأحياء اليهودية". إن وزير الخارجية الأمريكي السابق والجنرال الذي لم يترك أي ميدالية إلا وشح بها بزته العسكرية، كولن باول هو الذي أصدر أمره للدبلوماسيين الأمريكيين بالتوقف عن استخدام عبارة "الأراضي الفلسطينية المحتلة" واستبدالها بعبارة "الأراضي المتنازع عليها" وهو ما تلقفته وسائل الإعلام الأمريكية على طبق من ذهب. لا توجد اي "روايات تاريخية مختلفة" بطبيعة الحال بين الجيش الأمريكي وحركة طالبان. عندما يبدأ الحديث عن هذه "الروايات التاريخية المتضاربة" فاعلموا أن الغرب قد خسر. كم مرة سمعت المراسلين الغربيين وهم يتحدثون عن "المقاتلين الأجانب"! إنهم يشيرون بطبيعة الحال إلى بعض الجماعات العربية التي يزعم أنها تتولى مساعدة حركة طالبان. لقد سمعنا نفس القصة في العراق.. مقاتلون عرب، أردنيون وسعوديون وفلسطينييون وشيشانيون بطبيعة الحال. يكفي أن الجنرالات يسمونهم "مقاتلين أجانب" حتى نتلقف نحن الصحفيين الغربيين هذه العبارة ونستخدمها في مختلف مقالاتنا وتحليلاتنا السياسية. إن تسميتهم "مقاتلين اجانب" يجعل منهم "قوة غزو". بالمقابل لم أقرأ واسمع في الإعلام الغربي الحديث عن وجود ما لا يقل عن "150 ألف مقاتل أجنبي في أفغانستان وأن هؤلاء المقاتلين الأجانب" يرتدون بزات عسكرية أمريكية وبريطانية وأخرى تابعة لحلف الأطلنطي. "نحن" "المقاتلون الأجانب" وليس "هم". إن الأمر الأكثر خطورة إنما يتمثل في توظيف مفردات الحرب الجديدة واستخدام هذه الكلمات التي تتردد على ألسنة الساسة، صناع القرارات الذين يتولون السلطة، فهي تعزلنا عن قرائنا. إن قراءنا ليسوا بالأغبياء. إنهم يفهمون الكلمات بكل معانيها المبطنة منها والظاهرة، بل أخشى أن قراءنا يفهمون أكثر منا، التاريخ أيضا. إن قراءنا يدركون جيدا أننا نستمد كلماتنا من لغة جنرالاتنا ورؤسائنا، هؤلاء الذين يسمونهم النخبة، مثلما نستمدها من أولئك الخبراء المغرورين الذين يبيعون الكلام ويسوقون الأفكار في معهد بروكينز أو في مؤسسة راند. لقد أصبحنا جزءا من هذه اللغة. خلال الأسابيع القليلة الماضية، وفيما كان الأجانب - النشطاء الإنسانيون أو النشطاء الإرهابيون - يحاولون يائسين إيصال الأغذية والأدوية عبر البحر إلى الفلسطينيين الجياع في قطاع غزة، كان علينا أن نذكر أنفسنا كمشاهدين وكمستمعين عن زمن بعيد هبت فيه بريطانيا والولاياتالمتحدةالأمريكية لمساعدة شعب محاصر وتزويده بما أما أمكن من الغذاء والوقود، لقد مات جنودنا وهم يفعلون كل ما في وسعهم لمساعدة أناس محاصرين. لقد كانوا محاصرين بجدار أقامه جيش كان يريد تجويعهم حتى يركعوا له. لقد كان الجيش السوفيتي، أما المدينة فقد كانت برلين، أما الجدار فقد اقيم لاحقا. لقد كان أولئك الناس يعتبرون أعداءنا قبل ثلاث سنوات فقط من محاولتنا مساعدتهم بالغذاء والدواء. رغم ذلك فقد أرسلنا طائراتنا إلى سماء برلين لإلقاء المساعدات لهم. انظروا الآن إلى قطاع غزة اليوم، من هو الصحفي الغربي - بما أننا نعشق المقارنات التاريخية - قد استدل بما حدث لبرلين سنة 1948 في معرض حديثه عن قطاع غزة؟ ما الذي فعلناه نحن الصحفيين عوضا عن ذلك؟ لقد حولنا "النشطاء" إلى "النشطاء المسلحين" منذ اللحظة التي حاولوا فيها التصدي للكوماندوز الإسرائيليين الذين كانوا يداهمون سفنهم. لقد كان عقابهم بديهيا في الصحافة الغربية. لقد أصبحوا "إرهابيين". أما الهجوم الإسرائيلي - الذي قتل فيه "نشطاء" (كدليل آخر على "إرهابهم" فقد تحول إلى مجرد "اقتحام دموي". ما قيمة مقتل تسعة نشطاء أتراك إذا ما قورنوا بمقتل مليون ونصف المليون من الأرمن على أيدي العثمانيين سنة 1915؟ لعل ما يثير الاهتمام أن الإسرائيليين ظلوا ولأسباب سياسية خاصة بهم يساندون الأتراك في إنكار ما حدث للأرمن قبل أن يغيروا موقفهم فجأة فراحوا يحدثون العالم عن مذبحة الأرمن سنة .1915 انها الصحافة عندما تعشق السياسة. بعيدا عن كل مقارنات لقد كان الجنود الإسرائيليون هم من قتلوا تسعة نشطاء أتراك كانوا ضمن قافلة دولية تحاول إيصال المساعدات إلى الفلسطينيين المحاصرين برا وبحرا وجوا في غزة. كيف نخلص الصحافة من أسر لغة الساسة وجنرالات الجيش؟ إن هذه اللغة تقتلنا. أنا على ثقة بأن هذا هو السبب الأساسي الذي يجعل القراء اليوم يهجرون الصحافة "الرسمية" ويلجأون إلى شبكة الانترنت. ليس لأن شبكة الانترنت حرة بل لأن القراء يدركون جيدا حجم الأكاذيب التي تسوق لهم. إنهم يدركون جيدا أن ما يشاهدونه وما يقرأونه في الصحف مجرد امتداد لما يسمعونه صباحا ومساء من سلطات البنتاجون ومن الحكومة الإسرائيلية، وأن الكلمات التي نكتبها أو ننطق بها كل يوم تكاد تكون نسخة طبق الأصل من اللغة التي تحظى بالموافقة الرسمية، التي تخفي الحقيقة والتي تجعلنا حلفاء رغم أنوفنا لكبرى الحكومات الغربية، إن سياسيا أو عسكريا. إن الكثير من زملائي الذين يعملون في مختلف الصحف الغربية سيجازفون بوظائفهم إذا ظلوا دائما يفضحون زيف الأكاذيب التي تروجها وسائل الإعلام الغربية والتي تطبخها وسائل الإعلام التابعة للحكومات الغربية. ما هو عدد المحطات الاخبارية الغربية التي بثت صورا عن الكارثة التي لحقت بغزة أو أفلاما وثائقية عن المساعدات التي كانت تلقى من الجو لسكان برلين المحاصرين حتى نجعل المشاهد يقارن ويحلل بنفسه؟ هل فعلت البي بي سي ذلك؟ المصدر: اخبار الخليج البحرينية 6/7/2010