[email protected] عمود : محور اللقيا لقد أشارعالم الإجتماع الأول عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته أن طبيعة الدول كطبيعة البشر تمر بمرحلة الفتوة و القوة ثم تخور قواها بعد حين من الدهر فتضعف و تعمها عوامل الإضمحلال حتي تنتهي . لقد كانت نظرة إبن خلدون صائبة في زمانه و إلى وقت قريب , و لكن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية و قيام عصبة الأمم ثم منظمة الأممالمتحدة ثم ظهور النظام العالمي الجديد ثم العولمة لم تعد نظرية إبن خلدون صائبة و الدليل على ذلك ما يحدث حاليا لدولة داعش الفتية و القوية من تشتت بسبب تكالب ضربات التحالف العالمي الذي قصم ظهرها ! قديما كان قيام الدول يعتمد على قوة مقاتليها العددية و على عتادهم و على ما اجتمعوا عليه من مباديء تقوي من عزمهم . كان البطش و التنكيل بمن كانوا يحكمون و أتباعهم من أول مهام الدولة الجديدة حتى يقضوا بذلك على أي محاولات لإستقطاب الموالين القدامى لمقاومة الدولة الجديدة , و كانوا يعتمدون في ذلك على أهل الثقة بعد أن يمكنونهم من تقلد مناصب الدولة الجديدة , و لكي تتم لهم الطاعة و الإذعان كانوا يعتمدون على الشرعية الترهيبية و العنتريات في الخطاب الإعلامي و ما به من تهديد و وعيد , و يعتمدون أيضاعلى القوة العسكرية في تأمين الدولة من أعداء الداخل قبل أعداء الخارج , و لكي يكتمل الولاء للحكام الجدد يأتي دور علماء السلطان بفتاويهم التي تضفي الصبغة الشرعية على قراراتهم و تمنحهم التفويض الإلهي . على شاكلة هذا النظام القديم في قيام الدول و استمرارها كان نظام الإنقاذ مع بعض الإختلافات البسيطة , التي أهمها أنه لم يكن يعتمد على قوة مقاتليه العددية و لا على عتادهم و لكن ربما إعتمد على ما أجمعوا عليه من مباديء قوت من عزمهم , و لكن إنصب إعتمادهم في نجاحهم على كذبهم الذي إنطلى على الآخرين في القوات المسلحة و القوات النظامية و على عامة الشعب الذين كانوا قد ضاقوا ذرعا بألاعيب الأحزاب و تحالفاتها في عهد الديموقراطية الثالثة , كذبة أن تذهب للقصر رئيسا و أذهب للسجن حبيسا , و أن الثورة قد قام بها ضباط وطنيون غير حزبيين , و كما هو معروف فقد كان وراء تلك الكذبة التي فعلت فعل السحر عراب الإنقلاب الدكتور حسن الترابي ! بعد ذلك توالت كل أساليب قيام الدول قديما من بطش و تنكيل بمن كانوا يحكمون و بالأحزاب و النقابات , و من سياسة للتمكين أحالت عشرات الآلاف من المواطنين للصالح العام و أحلت في مكانهم أهل الولاء من جماعتهم , و أتى دور علماء السلطان فأحلوا الحرام و حرموا الحلال و سكتوا كلهم أمام الفساد الذي يضرب بأطنابه كل مؤسسات الدولة و يذرها قاعا صفصفا ! الآن نظام الإنقاذ قد أكمل ربع قرن من الزمان في سدة الحكم و يؤمل قادته أن يظلوا في الحكم إلى أن يرث الله الأرض و من عليها , أو كما قال أحد قيادييهم و هو الدكتور نافع أنهم لن يسلموا الحكم إلا لعيسى بن مريم عليه السلام عند ظهوره قبيل قيام الساعة ! رغم التغيير الذي طال النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية و نشؤ هيئة الأممالمتحدة في عام 1945 و إقرار المواثيق الدولية و قوانين حقوق الإنسان و إعتماد الديموقراطية بنوعيها البرلمانية و الرئاسية السبيل الأمثل للحكم و توزيع التحالفات الدولية ما بين الرأسمالية و الإشتراكية و عدم الإنحياز و إقرار مبدأ المساعدات و التدخلات , نجد أن هنالك ثمة عوامل قد ساعدت نظام الإنقاذ ليظل طيلة السنوات السابقة سابحا ضد التيار و متشبثا بالحكم , و هذه العوامل تتمثل في : 1 – أساليب المكر و الخداع و الكذب و التضليل التي صار ينهج بها نظام الإنقاذ منذ الخدعة الكبرى في بداية تكوينه و التي أوردتها في بداية مقالتي و إلى يومنا هذا , و لا زالت هذه الخدع تنطلي على الشعب السوداني الطيب لتنوعها و تعدد أوجهها و أساليبها و تقسيم الأدوار فيها حتى ولو إستدعى الأمر إظهار التخاصم و التفاصل و التباغض . إنه أسلوب في السياسة ينضح بالمكر و الدهاء لم يكن معروفا من قبل في الساحة السودانية , و لكن لشعبنا اللماح قدرة التبصر و التدبر و وزن الأمور و قراءة ما وراء السطور , و ها قد إتضح للجميع أن مفاصلة 1999 التي أفرزت حزب المؤتمر الشعبي لم تكن إلا مخططا محكما , و كذلك الإنقسامات التي تتالت و ما أوجدته من ( غواصات ) لا زالت تلعب دورها في ما يسمى بمخرجات خطاب الوثبة , و حتى إنقسامات المرشحين في الإنتخابات القادمة قد بدأت ترشح مقاصدهم في خلق جو تنافسي حر و قد ( قبضوا ) وراء ذلك ما قبضوا ! 2 – سياسة التمكين التي إستبدلت الأكفاء بأهل الولاء , فضخ نظام الإنقاذ كوادره من أعضاء الجبهة القومية الإسلامية في كل مفاصل الدولة حتى يخلو لهم الجو فيبيضوا و يصفروا و ينقروا ما شاؤوا أن ينقروا و يكتموا مخططاتهم و تجاوزاتهم و بذلك غدوا مسيطرين على كل أجهزة الدولة و المجتمع من سلطات تشريعية و تنفيذية و قضائية و نقابية و إعلامية و صحافية و تجارية , و صار شعارهم ( من ليس منا فهو ضدنا ) , و ظنوا أنهم بذلك سوف يخفون غسيلهم القذر و لكنه رغم ذلك قد تجاوز الكتمان و تم نشر الكثير منه للعامة , و أثمرت سياسة التمكين ضعف الأداء و التراجع المزري بل الإنهيار في الإقتصاد . 3 – إضفاء الهالة الدينية على نظام الإنقاذ و أنهم من الأنقياء لا لدنيا يعملون و انما قيامهم كان في سبيل الله ليرفعوا لواء الإسلام , كما يرددون في أهزوجتهم المعروفة , و صارت ألسنتهم تلهج بذكر الله في تدين ظاهري فاق الحد , بينما ظلت الأعمال التي بالنيات تظهر غير ذلك , فتزوجوا النساء مثنى و ثلاث و رباع و إمتلكوا القصور و السيارات الفارهة و أثروا . 4 – دعم التنظيم الإخواني العالمي لنظام الإنقاذ ماديا عن طريق الدول الساندة له و التي قد أنقذت نظام الإنقاذ مرات عدة من ضائقات إقتصادية كادت أن تودي به . أما الدعم المعنوي فيتجلى في إضفاء الشرعية عليه و تجميل وجهه أمام الدول الإقليمية و العظمى . 5 – إضعاف المعارضين في الجبهة الداخلية , و قد تم ذلك عن طريق زرع الفتن و الإنشقاقات في الأحزاب المعارضة فظهرت جراء ذلك الأحزاب المتوالية , و كذا الحال بالنسبة للحركات المسلحة المعارضة فقد أصابتها أيضا الإنشقاقات , و هذا ما ساعد الأجهزة الأمنية و الجيش و المليشيات في تصديها للأحزاب و الحركات المسلحة المعارضة , و لكن مع طبيعة النضال السلمي و طبيعة حرب العصابات تظل المقاومة صامدة و الحرب ناشبة . 6 – تبادل المصالح مع أمريكا , و تتجلى في كشف نظام الإنقاذ للمعلومات الإستخباراتية عن الإرهاب التي ترغب أمريكا معرفتها , على أن تقوم أمريكا بدعم النظام دعما غير ظاهري حتى تتفادي عدم الإنصياع لقرارات الكونقرس . إن إستشراف المستقبل بناءً على معطيات الحاضر يدلل على أن نظام الإنقاذ لن يصمد طويلا . الذي جعلني أوقن بذلك هو الآتي : أولا – دور ضحايا هبة سبتمبر 2013 من الشباب العزل الذين فاق عددهم المئتين و قد أطلق عليهم الرصاص بواسطة القناصة على رؤوسهم و صدورهم في مذبحة لم يعرف مثلها السودان , و لكن يحمد للناشطين دورهم في تصوير معظم أحداثها و عرضها على مواقع التواصل الإجتماعي و الصحف في الإنترنت , و كان دور هبة سبتمبر أنها قد أدت إلى سقوط القناع عن وجه الإنقاذ خارجيا بعد أن كانت تتدثر بتعاليم الإسلام , و داخليا تحول عنها مؤيدوها و المتعاطفون معها . هذا يظهر جليا في تغيير نظرة الدول الخليجية عن السودان و رئيسه , و الدليل زيارات الرئيس البشير الأخيرة للسعودية و الأمارات و مصر . ثانيا – دور محكمة الجنايات الدولية التي تطالب منذ عام 2009 بمحاكمة الرئيس البشير بإرتكابه لجرائم الحرب و جرائم ضد الإنسانية , و بذلك تقلصت المساحة التي يتحرك داخلها عالميا و رغما عن تحديه لذلك القرار و وقوف بعض الدول بجانبه فإن مثل هذه القرارات لا تسقط بالتقادم , و ها هي المحكمة الجنائية تعيد ملف الرئيس البشير إلى مجلس الأمن للنظر في أمر تنفيذه و تطبيق البنود الأخرى للفصل السابع . ثالثا – دور إقتصاد الحرب الذي ظل سائدا على الوضع الإقتصادي في السودان , و سببه الحرب الأهلية التي لا يريد نظام الإنقاذ إيقافها إلا بالقوة , و في ذلك فقد أهدر ميزانية الدولة السنوية و جعل 70% منها تذهب للجيش و الأمن و بذلك تراجع الإقتصاد كثيرا و هبطت قيمة الجنيه السوداني و استشرى الغلاء و وصلت البطالة وسط الشباب إلى 40% و وصلت نسبة الفقر إلى 46% كما تقول الإحصاءات الرسمية ! رابعا – دورالحصار الإقتصادي و يشمل المقاطعة التجارية و التكنولوجية و ما قادته من توقف لأكثر من مئتين مصنع و من حوادث عدة للطائرات و للمركبات و من كساد لصادرات السودان ما عدا الصمغ العربي الذي تحتاج إليه أمريكا في صناعة الدواء فاستثنته من المقاطعة ! هذه العقوبات لن ترفعها أمريكا رغما عن تلويحها بذلك لأنها مشروطة بأسبابها , و لو لم تذعن لها الإنقاذ كما فعلت ليبيا القذافي فسوف يستمر الحصار و يستمر إضعاف النظام . خامسا – دور الإستثمار الذي لم يعد جاذبا للمسثمرين الأجانب , و يظهر هذا جليا في إنصراف المستثمرين العرب عن الإستثمار في السودان و تفضيل دول أخرى كمصر و أثيوبيا لأسباب عدة يعرفها المتنفذون المهرولون من أجل العمولة أو المعاكسة و تعرفها أساليب ( الدفع ) المتنوعة و تعرفها عدم المصداقية . سادسا – دور كل العوامل الست التي ساعدت نظام الإنقاذ ليظل على سدة الحكم طيلة الأعوام السابقة و التي ذكرتها آنفا قد انقلبت كالسحر على الساحر بعد أن إنكشف غطاؤها بفعل إزدياد الوعي الجماهيري , و ما جلبته من نتائج تدميرية على الإقتصاد و الإجتماع و الثقافة . أخيرا أكرر و أقول : إن الحل لكل مشاكل السودان السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية يكون في العودة إلى مكون السودان القديم و هو التعايش السلمي بين العروبة و الأفريقانية و التمازج بينهما في سبيل تنمية الموارد و العيش سويا دون إكراه أو تعالٍ أو عنصرية . قبل ألف عام كانت في السودان ثلاث ممالك افريقية في قمة التحضر , و طيلة ألف عام توافد المهاجرون العرب إلى الأراضي السودانية ناشرين رسالتهم الإسلامية و متمسكين بأنبل القيم , فكان الإحترام المتبادل هو ديدن التعامل بين العنصرين العربي و الأفريقاني . إن العودة إلى المكون السوداني القديم تتطلب تغييرا جذريا في المفاهيم و في الرؤى المستحدثة و في الوجوه الكالحة التي ملها الناس !