[email protected] قلت في مقال كتبته من قبل نشر في كتاب (عبد الله الطيب في مقالات ودراسات) ولئن رسم الخيال (الجمعي) في بلادنا لعبد الله الطيب صورة أعرابي في شملته، فقد كان يتحدث العامية الجزلة بلا تكلف. وقد آنست فيه إشفاقا على تهجين العامية أوضار المدنية الحديثة, فيتحدث عن أن أهل المدن مالوا إلى الحذلقة واللين حين قالوا: (مين) بدلاً من (منو)، وله من جنس الفكاهات في هذا الباب ذخائر، إذا روى طرفة منها ضحك ضحكا عميقا: في راجل قال لولدو: ياولدي أولاد الزمن عندهم كليمات بالحيل مزعلاتني رد الولد: إزاى يا أبوي قال الوالد: طَلَّق دي واحدة منهن. وقد آثرت أن أنقل هذه الصورة السودانية الطليقة عن العلامة عبد الله الطيب، لأن ما استقر في الأذهان من صورته موصول بمفارقة تصنعها شخصيته العلمية الملتمسة لعربية البطاح بين أضواء المدن ممن أكلوا شيراز الألبان، وجعلوا الثمر في الثِّبان كما قال أبو العلاء. ومرد الصورة النمطية التي ذكرنا إلى أن ضوء تخصص العلامة في شدة بريقه ولمعانه قد حجب عن العيون آفاق الفكر السوداني، وموارد الحكمة القروية العميقة في كتبه وأحاديثه، واكتفى الناس في هذا بتناول القريب اليسير من تلك الآفاق في المظان التي أفردت للشعبيات السودانية كالأحاجي والعادات المتغيرة، ولم يحاولوا الإيغال أكثر من ذلك إلا قليلا. ويجيء كتابُ الصّحافي الحاذق محمد الشيخ حسين إسهاما قويا في استخلاص فكر سوداني، وحكمةٍ شعبية نثرها العلامة أشتاتا في نزهات الاستطراد الممتع، وأغوار فضول السطور، ثم عمد من بعد إلى تحليلها تحليلا بارعا حتى زَهَت صحائفها. والحق أن رِفد هذا الكتاب لا ينتهي عند موضوعه، ومحتواه المعلن في عنوانه، بل يتعداه إلى شأن الكتابة في أدب العلامة، وفكره لتخرج عن كونها درسا علميا يُجريه تلاميذه في باب من أبواب اللغة والأدب أو الفلكلور …. إلخ بإعمال المعايير والقواعد العلمية التى تمت إلى هذه المعارف، ليصبح الأمر بسطا فكريا ثقافيا يخرج العلامة من الحصر والتنميط إلى السَّعة والطلاقة، وتعدد الرؤى. لقد صنع صديقنا محمد الشيخ صنيعا عظيما يجلّى به مرأى العلامة، ويسلط به أشعةً قوية على زوايا لا تكاد تبينُ للقارئ المتعجل، والدارس السطحي، فهنيئا لنا بهذا السفر القيم.