عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضيفة على الرزنامة: الهُنَا .. بَعْدَ كُلّ الهُنَاكَات! ... لمياء شمت
نشر في سودانيل يوم 08 - 03 - 2010

حيث ما تزال فسحة الأمل متاحة، فلماذا لا تنكب مفرزة من العلماء النابهين، والأفذاذ من العلامات المضيئة في بلادنا، على مبحث معمق حول أعراض ومتلازمات مرض (الهبوط الحضاري)، على غرار المقايسات والمنهجيات المعتمدة لدى مرجعيات أكاديمية، وجمعيات، وكيانات طبية عالمية، يستهدي بها الممارسون المهنيون للطب وعلومه في استيفاء شروط التشخيص الإكلينيكي لأي مرض، بالتوصيف الدينامي الدقيق لأعراضه، ومؤشراتها المترافقة بتلازم ثابت، فينبه ظهور عرض إلى وجود الآخر، ويقود ذلك إلى تحديد أسباب استثارة المرض الحافزة أو الكامنة، في سياقات إحصائية متقنة، ومن ثم حصر بيانات كل حالة بدقة، وبذل قوائم من الاختيارات المنهجية المتكاملة، بانضباط قياسي موحد، فيتيسر، بالتالي، توفير المعالجات التفصيلية السليمة، ك (ثوابت) مجمع عليها، بعيداً عن أي (دجل)، أو (شعوزة)، أو تخرصات جزافية.
قد يعني هذا، على نحو ما، مواصلة عمل أرنولد توينبي الذي أنجز لائحة ببعض الأعراض الرئيسة لانحلال الحضارات وتلاشيها. وقد وضع على رأس ذلك السلفية، والجمود، والانغلاق، والإقصاء التعسفي للآخر، مما يؤدي، حتماً، لإضعاف القوة الخلاقة، ثم تدمير الهوية الثقافية، والتشققات في كيان المجتمع، فالإفلاس الوجداني والروحي، والعجز التام، في النهاية، عن اجتراح أية خطط ذكية لإعمار الانسان الذي هو مركز الحضارة وعمادها.
إن الإمساك بتفاصيل العلة يسهّل الوصول إلى أول سبل العلاج الناجع. فضرورة تشخيص مرض (الهبوط الحضاري) تكمن في أهمية تحديد مواضع الاختزالات المبتذلة، الناتجة عن الانكفاءات الدوغمائية، في لحظات وجودية دغلية شديدة التشابك والعتمة في تاريخ الأمة! كما وأن من شأن هذا التشخيص العلمي الدقيق لجم شهوة التمويه على الأعراض وأسبابها تحت الأغطية اللغوية الملتبسة، حيث تستخدم (المتضادات) ك (مترادفات)، فتشحب في الأذهان، مثلاً، جدلية (الهدم/البناء)!
من جهة أخرى فإن من شأن هذا التشخيص السليم استبعاد حجاج (المراوحات الدائرية) التي لا تكاد تعرف سبيلاً لمغادرة المتاهة الأفعوانية لمتلازمة (الإرتكاس الحضاري)، وكذلك خفض التفاعلات الخبيثة التي قد تجعل جسم الأمة ينتج طاعونه الخاص من إفرازات الترهات، وحزم الأفكار الذابلة التي لا تكف عن الإنكار، والتنصل من المسئولية، والاستغراق في إلقاء أثقال اللوم الملفق على فضاءات الآخرين، والعجز الكامل، بالتالي، عن التوافق ولو على مجرد (لعن الظلام)!
وعندما تضع المفرزة المعرفية يدها، كما أسلفنا، على مسببات الداء، ووصف الدواء، يكون من أوجب واجبات السياسة الديموقراطية تعزيز المناعة (الوطنية) الطبيعية، وحفز الأجسام المجتمعية المدنية كي تشكل فيالق دفاع تعزل الأجسام الضارة، وتحاصرها، وتجفف منابع زعافها الفيروسي، وكذلك تنشيط الذاكرة الحيوية للمناعة المكتسبة، كي تقوي من قدرتها على التعرف، مسبقاً، على هذه الأجسام الضارة، والانخراط، من فورها، في حفز الخلايا المناعية لإبطال المرض، وإحباط تكتيكاته الأولية، فيطيب الجسد، ويتمكن من معاودة التصالح مع عناصره الحيوية الأساسية، الجغرافية والإثنية والثفافية، مستأنساً بتنوعها وتعددها بلا أدنى خوف أو وجل!
ولعل من المفيد، كذلك، التوصية بعدم الإفراط في الركون إلى (العقل السياسي) وحده، لإدارة أمور هذا الجسد، وتجنيبه إعادة تدوير تلك الخيبات. فلا بد، إذن، من تفعيل آلية (المشورة التعددية) النافعة التي تتغذى على أكثر من ضرع (فكري) ل (الحقيقة)، لا تلك (المشورة الأحادية) العقيم التي لا تنتج غير (اجترار الذات)، صباح مساء، ولا تورث، من ثم، سوى الإيغال في (تجريب المجرب)! إن (العقل السياسي) الذي يرتهن لنفسه فقط، ولا يُختبر في مرآة (الفكر التعددي)، هو (عقل سلطوي) لا كابح لتفلتاته، ولا عاصم له من سوءة ضيق الأفق والصدر التي قد (يكبر) معها، دون أن (يرشد) بالضرورة!
وخلال كل ذلك لا بد من الإيمان العميق بذكاء (جسد الأمة) وجسارته. فهو جسد (أنثوي) عفي وحصيف، يدرك، تماماً، متى يتوجب عليه القيام بعمليات (إجهاض) راديكالية ذاتية، دون أن يضطر للدخول في أية (تسويات) غير حكيمة! فهو، مثلاً، عندما يتيقن من وجود تشوهات تكوينية، أو إختلالات هرمونية، يسارع، من فوره، لإعلان حالة (إجهاض) طارئة، يتداعى لها سائره بإشارات إنذار منتظمة، ريثما يتم (لفظ) الكائن الشائه إلى خارج الرحم، دونما حاجة إلى أدنى تدخل (خارجي)!
الثلاثاء
عدت، مساء اليوم، إلى بعض الأدبيات حول نوبة الذعر التي اجتاحت أغلب العاملين في قطاع التعليم، في الجزء الآخر من العالم، إثر ذيوع مصطلحات الكاتب والتربوي الأمريكي مارك برنسكي، عام 2001م، و خصوصاً بعد أن استخدمها عدد مقدر من الكتاب الأكاديميين، مثل جوش سابير، وآرون دوغنان، فشاعت، وفشت، وطار صيتها، وأصبحت تستخدم، بكثافة، في وضع البحوث والمقالات العلمية في مجال التربية والتعليم. فبرغم النقد الجانح أحياناً، والذي تعرضت له هذه المصطلحات المجلجلة، وما أثارت من حوارات وجدالات وتحفظات، حيث بدت، في نظر البعض، فضفاضة، وشديدة الارتباط بالشرط الاجتماعي الذي قد لا يتطابق، بالضرورة، مع كل الفئات العمرية التي حددها برنسكي، إلا أنها أسهمت بالفعل في إحداث انعطافات حاسمة على مستوى بيداغوغيا علوم التربية وأصول التدريس وتصميم المناهج.
من أهم هذه المصطلحات مصطلحان هما بمثابة التؤامين الضدين: (السكان الأصليون الرقميون Digital Natives) و(المهاجرون الرقميون Digital Immigrants )، دلالة على أجيال محددة من الدارسين، وانعكاس ذلك على معارفهم وخبراتهم التكنولوجية والرقمية. وحسب برنسكي فإن الأجيال ما قبل الرقمية تقع بين الأعوام (1961-1981م)، فيصنفها تحت مصطلح (المهاجرون الرقميون) الذين هم، في هجرتهم الرقمية، تماماً مثل المهاجرين لبلاد أخرى، تفضحهم لكنتهم المختلفة، فيتوجب عليهم، من ثم، الاجتهاد في التكيف مع الأرض الجديدة، واكتساب لغتها، وعاداتها، ومعارفها الحياتية. أما (السكان الرقميون الأصليون) فهم الفئة المولودة من عام 1982م فصاعداً، ولذا فهم يملكون اللغة والخبرات والمعارف الرقمية بشكل تلقائي، تماماً كحال سكان البلاد الأصليين، أهل ثقافتها ولغتها. وإذن فإن (السكان الرقميين الأصليين) هم الشباب أصحاب الخبرات الرقمية الأصلية، كونهم ولدوا وبين أيديهم الغضة صنوف من الكومبيوترات، والجوالات، والمودمات، والشبكات، والبرمجيات، والشرائح الذكية، والكاميرات والألعاب الرقمية متعددة الأبعاد، وذاكرات الفلاشات التي تتدلى من الأعناق كالتمائم؛ وهي تقانات تمثل جزءاً أصيلاً من ممارساتهم الحياتية اليومية.
ويخلص برنسكي من ذلك إلى وجوب مراعاة هذه الحقائق، واستثمارها في تصميم استراتيجيات وأهداف ومناهج التعليم ووسائله، كما وفي تحديد نوعية المعلم وخبراته وتدريبه المهني. فالسلالة الرقمية الجديدة، الموجودة حالياً في المؤسسات الأكاديمية، لا يتوقع منها أن ترتهن لأي منهج أو أسلوب تقليدي يتجاهل ملكاتها وطاقاتها، ويجهض تطلعاتها واحتياجاتها، ويزج بها في كهوف ما قبل التاريخ الرقمي، ما يعني، بالضرورة، أن مجال التعليم قد لا يتسع لمن لا يملك (سيولة رقمية)، فينبغي على المعلمين، وبخاصة في المؤسسات الجامعية، مواجهة الأمر، والتكيف معه، بأكبر قدر من الاستعداد الذهني والدينامية النفسية، بدلاً من التمادي في إنكاره، أو محاولة تفاديه، أو الاستسلام المرضي ل (الرهاب الرقمي)، لا سيما وأن أغلب هؤلاء ينتمون إما للأجيال ما قبل قبل الرقمية، أو، في أفضل الأحوال، لفئة (المهاجرين الرقميين)، وهو تضاد حاد دُقت له الأجراس في أنحاء العالم، فشُجّعت وأطلقت المباحث العلمية التي تتقصى طبيعة الدارس الرقمي، واحتياجاته، وتوقعاته المختلفة، لأجل إعادة تصميم الفضاء الدراسي بما يناسبه من لوجستيات وموارد وكوادر بشرية؛ وقبل ذلك، بالطبع، تأسيس بنية الكترونية تحتية تزود المؤسسات الأكاديمية بتجهيزاتها المتنوعة، وإعداد برامج تدريب مستمر للمعلمين أنفسهم، أثناء الخدمة، ليتمكنوا من الطفو، وركوب الموجة الرقمية، كيلا تكتسحهم، فيغرقون!
الأربعاء
قوارب بدائية كهلة استمرأت العطب، تتكدس فوقها حزم بشرية مستغرقة في أحلام العبور إلى الهناك، الماثل في الخواطر كمرفأ ومحضن وملاذ توجب أن يكدح إليه الناذرون له الأرواح، طلباً لنجاة بابُها الهلاك، ورصيدُها تهويمات وأضاليل وأوهام سطت على جل أعمارهم وأحلامهم، هرباً من الخوف، والازورار، والتوجس العظيم.
هكذا تمضي الصور الذهنية تتداخل، مشتبكة مع واقع مهزوم يرمي فيه الإنسان بحياته الى سماسرة الموت، ليركب متن مغامرة مُهلكة، في لجة تبدو كمدى لا تخوم له. لكنه، على كل حال، خير من واقع طارد يتبدى كسفينة كولريدج في (الملاح القديم) .. محض فلك كسيح، ببوصلة ضريرة، على صدر بحر راكد هجرته الرياح!
ذلكم هو المشهد الروائي لمغامرات الهجرة غير الشرعية، كما يرسمه الروائي الإريتري أبوبكر حامد كهال، في روايته (تيتانكات أفريقية)، في إشارة بليغة لمصير السفينة تيتانك الكارثي. فالرحلة المبهظة لقوارب تهريب البشر تتراءى كرحلة طقسية مقدسة، يمثل البشر قرابينها الشعائرية، لأجل عبور ملحمي مهجوس بالخلاص من "برازخ النار نحو قارات الثلج"!
رواية كهال تعج بشخوص من إريتريا وإثيوبيا وغانا وليبريا والصومال والسودان، في رحلة برية تبدأ من أمدرمان، وتمتد إلى الكفرة الليبية ومدائن تونس الحدودية، مروراً بويلات محدقة، أيسرها التيه والعطش والجوع، وأقساها الخوف والقلق الوجودي وانعدام الحيلة. لكن، برغم كل هذه الأهوال الجسيمة، "فلا شيء يلقح العقول سوى جرثومة الهجرة"! فحتى لو بدا الأمر، في مجمله، كفرار من (شبهة) موت الى موت (محتوم)، فإن المهاجرين يظلون يختارون ذلك بعناد، بديلاً أكرم من أوجاع برزخ ال (ما بين)، حيث (الحياة) في بلادهم مجرد (موت) يراوح بين البطء والمهانة للأبد! وهكذا تكتسب الرحلة قيمة مضافة تجعل منها حفل تبجيل للحياة، لا، كما قد يبدو الأمر للوهلة الأولى، محض استخفاف أهوج بها!
تشهد هذه الرحلة البرية التمهيدية موت شخوص تنطفيء أنفاسهم تباعاً على أذرع رفقاهم، في التصاق حميمي صادق، ونزوع إنساني توثق آصرته المصائب التي تجمع المصابين. حتى، وهم في النزع الأخير، يظل الحنين يتجاذب النفوس التي اقتلعت قسراً من أرضها، لتذروها رياح العدم، وهي تتنكب مصائرها عبر القحط، والصحارى، وسبخات الملح، والأسلاك الشائكة؛ يتربص بها الموت السادر من فوهة سلاح ناري لنهاب جائل، أو لشرطي حدود ضجر تؤنسه زخات الرصاص، فيهبُّ لمنحهم حتفاً عجولاً .. "لا يهب لحظة واحدة لوداع لائق"!
في نهاية هذا المطاف الأولي قد يصل البعض إلى الشاطئ، لتبدأ الرحلة البحرية على جذوع هرئة "تعزف فيها الريح ألحان العدم"، ويريهم الماء مكرَهُ الخاص، فيلتقم بعضاً، ويلفظ بعضاً إلى الشواطئ الغريبة، مكفنين بالقنب وأعشاب البحر، ليُطمروا في قبور مجهولة بكماء، تعلق على شواهدها تمائمهم وتذكاراتهم المبللة. وهناك، في المرافئ التي لونت أحلامهم، "تصلبهم الحضارة فوق أسلاك الحدود" أو "ترفع أسمالهم، عالياً، كالأسلاب"!
أما من يظفرون منهم بالعبور، فحالهم إما حال من "تصدهم جدران المدن كالكرات"، أو حال من تلظى بسيرة واحدهم الآشوري المعتق سركون بولص "اللاجئ المستغرق في سرد حكايته/ لا يحس بالنار عندما تلسع أصابعه السيجارة/ مستغرق في دهشة أن يكون هنا، بعد كل تلك الهناكات/ المحطات والمرافئ، دوريات التفتيش، الأوراق المزورة/ معلق، من سلسلة التفاصيل، مصيره المحبوك كالليف في حلقاته الضيقة، ضيق البلاد التي تكدست على صدرها الكوابيس"!
الخميس
هل نحن متمدنون؟! سؤال تنجح أية دولة في الإجابة عليه، إذا نأت به عن الحشود، ومكبرات الصوت، والسيولة اللفظية، وانشغلت، بدلاً عن ذلك، بإعادة (البصيرة) كرتين، في مفهوم البنى التحتية الرئيسة التي لم يعد تعريفها يقتصر أفقياً، فحسب، على البنايات، والطرق، والجسور، ووسائل الإتصال، بل لا بد أن يتجاوز ذلك للارتباط بمفاهيم تتعلق، رأسياً، ب (نوعية) حياة الفرد، من حريات، وحقوق، وأمن، وما إلى ذلك من ضمانات في التوازن الاجتماعي، وتكافؤ الفرص، والقسط بين قوى الإنتاج وعلاقاته.
من ذلك بزغت قصص نجاح تصلح، على تواضعها، كنماذج، في بعض بلدان أفريقيا، والشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية، وأجزاء من آسيا. فتنفيذ جزء من شبكة طرق ريفية في (مغرب) ما بعد الإصلاحات الديموقراطية، على سبيل المثال، لم يقفز فقط بالطاقة الإنتاجية، بل أدى إلى مضاعفة أعداد الملتحقين بالتعليم والمستفيدين من مؤسسات الخدمات الصحية. وفي كوستاريكا، حيث انتخبت، مؤخراً، لورا شينشيللا، كأول امرأة، في تاريخ البلاد، تصعد إلى رئاسة الجمهورية، رفع استكمال مشروع شبكة الكهرباء عدد المؤسسات العاملة في خدمة أغلبية المواطنين من 15% إلى 86% بضربة واحدة. أما البرازيل فقد قفزت إلى المركز التاسع، صناعياً، بفضل توفيرها لمناخ الحريات الأكاديمية، وإنفاقها السخي على البحث العلمي، وتسخير ذلك كله لتخطيط استراتيجيات التنمية المستدامة، وتشجيع مكننة الزراعة، وإنجاح التهجين النباتي والحيواني، وإعادة إعمار الغابات، الغابات بالذات، بصون حقوق خبرائها والعاملين عليها، بادئ ذي بدء، لضمان المزيد من حدبهم على صونها ورعايتها، لا إزالتها وكشطها من الوجود لصالح الديناصورات الخرصانية، "فإنما الأمم (الغابات) ما بقيت/ فإن همو ذهبت (غاباتهم) ذهبوا!"، على حد التصحيف البليغ للخبير المفخرة كامل شوقي.
هكذا تبدي بعض الدول، رغم صعوبة أوضاعها، جدية كبيرة في عملية الاستيفاء الضروري للحاجات الحضرية، ليس مادياً فحسب، بل واجتماعياً في المقام الأول. فالعالم يقف، الآن، على أخمص قدميه، في إثر تقارير دولية تنذر بأن 85% من سكان العالم بسبيلهم للانتقال، خلال العقدين القادمين، للعيش في المناطق الحضرية، ولات ساعة مندم! فإما مشاريع حضارية بعيدة النظر، أو ترييف لا يبقي ولا يذر، وقد بلغت الرسالة الأسماع، إلا من حشا أذنيه بالوقر!
الجمعة
أطلقت الأمم المتحدة والمجلس الأوربي والجامعة العربية ومنظمة العمل الدولية عدداً من التقارير التي ترصد ظاهرة النزوح الهائل للكفاءات العلمية المؤهلة حول العالم، أو ما تم الإصطلاح عليه ب (هجرة الأدمغة Brain Drain). وقد عكفت هذه التقارير على تحليل الظاهرة إلى شكل أرقام ووقائع توفر قاعدة بيانات واسعة يعود إليها الفضل في ردم فجوات المعطيات الإحصائية حول الظاهرة، حيث تكشف عن أن هذه الهجرة قد بلغت، بالفعل، مبلغاً خطيراً أدى، وما زال يؤدي، إلى نزيف مهلك للبلدان التي تخسر تلك القوى البشرية الخلاقة، خاصة وأن معظمها بلدان نامية تنزف زبدة خبرائها ذوي الكفاءات العلمية الحاذقة التي تحتاجها قطاعاتها التنموية الحيوية، بما في ذلك القطاع التعليمي والصحي والاقتصادي. وبحسب ورقة علمية لكاغلار أوزدين، الباحث في قضايا التنمية بالبنك الدولي، والتي استفاد فيها من قاعدة بيانات كان قد أسسها فريدريك دوكسسي بالاستناد إلى 192 مصدر بحثي موثوق، فإن هذه الهجرة الدائمة أصبحت مرعبة بحق، تحديداً عند تفكيك المشكلة، ورصد عواقبها الكارثية على الأمم النازفة لتلك القوى المبدعة، وما يسببه الأمر من إضعاف كبير للقدرة الذاتية للمجتمعات، يتمثل في إعاقة المشاريع التنموية، والتراجع الطردي الهائل للاقتصاد ونوعية الحياة، بالإضافة إلى رجّ التركيبة السكانية، وإحداث اختلالات مخيفة في التوازنات الديموغرافية.
لقد ارتفعت هذه الهجرة، مؤخراً، إلى معدلات غير مسبوقة في البلدان الأكثر حاجة للتنمية المستدامة. فقد وصفها المجلس الأوربي بالخسارة طويلة الأمد للثروات البشرية، مما يضع المعرفة والبحث العلمي والنهوض المجتمعي على شفير هاوية، وينذر بتدهور مريع في قطاعي الصحة والتعليم تحديداً. وتكشف التقارير عن أن بعض هذه الدول تخسر، سنوياً، 15% من كفاءاتها الحيوية. أما السودان فتشير إحصائية تفصيلية، ضمن تقرير إدارة السياسات السكانية والهجرة بالقطاع الاجتماعي لجامعة الدول العربية لسنة 2009م، إلى أنه نزف، في فترة وجيزة، 17 ألفاً من خبرائه وعلمائه وكفاءاته المدربة. وأما تقارير منظمة التعاون والتنمية الدولية فقد انتبهت لظاهرة محزنة ترافق (هجرة) العقول، وهي (إهدارها) أيضاً! ذلك أن نسبة كبيرة من الكفاءات المهاجرة تخضع لتقصير قامتها المعرفية، وتقبل بأداء أعمال لا تليق بمستوياتها، تشبثاً، فقط، بضفاف المهجر، طلباً للسلامة، وفراراً من الظروف الطاردة في أوطانها. ولم تنس تلك التقارير، بالطبع، أن تثني على التفاعل الحضاري والثقافي الإيجابي الناجم عن عمليات الدمج والاستيعاب لتلك الهجرات في المجتمعات الجديدة التي تعتمدها كرصيد إضافي لريادتها!
مع ذلك، فثمة جهود مقدرة تبذل للتعرف على الظاهرة بكل أبعادها، حيث الاعتراف بها، كمشكلة كارثية، هو الخطوة الأولى باتجاه التفسير الصائب لها، ووضع الأيدي على أسبابها، واقتراح السبل الكفيلة بعلاجها. وفي هذا الإطار وُجد أن قوة الطرد المركزية لسائر الكفاءات المتخصصة إنما تتشكل من مادة عدم الاستقرار السياسي، المترتب، بدوره، على ضيق هامش الحريات والحقوق، وشيوع القهر السلطوي، وخنق الفكر ووأده، وما يرتبط بذلك، عادة، من عوامل حياتية غير مواتية، كقسوة الظرف الإنساني، وسطوة الشرط الاجتماعي، وتمظهراتهما التقليدية المتمثلة في بؤس المداخيل، وتردي الخدمات، وتدني نوعية المعيشة، وما يتولد عن كل ذلك من صنوف الهزائم المعنوية، والانكسارات النفسية، وكل ما يترتب على الشعور المرير بغياب التقدير.
لقد بادرت بعض الدول بصياغة خطط شاملة لمكافحة الظاهرة، واتجهت للإعلاء من شأن الاستثمار في الإنسان، والعمل على تهيئة مناخات حياتية وعلمية صحية ل (كسب الأدمغة المهاجرة Brain Gain)، كأهم وأخطر المشروعات التنموية الاستراتيجية والحضارية. ولا يمكن، بالطبع، أن تقوم لأمر كهذا قائمة بالهتاف والتصفيق والعرضة، أو بالخطب والحماسات والإطناب اللغوي، بل بالتشمير عن سواعد الجد، والاستعانة بمخططين استراتيجيين، لصياغة خطط جذب متماسكة تضمن الاتساق والتفاعل بين المعطيات الرأسية والأفقية، دون تضارب أو تنافر، لإنتاج ظروف تنحاز للبشر، وللاستقرار، ولحرمة الكرامة الإنسانية.
السبت
منذ أوائل ثمانينيات القرن المنصرم بدأ تحول هائل يطرأ على المناهج التعليمية حول العالم، وما زال يجهد في أن يشق طريقه إلى بعض جهات كوكبنا المتعب. وبحسب هذا التحول انتقل عبء المناهج الأكبر من تزويد (المدرس) بالتوجيهات إلى دعم (الدارس) نفسه، كي يصبح هو مركز الأجرام المنهجية بحمولاتها المختلفة. ولعل في ذلك ما يشي بإعلان بيّن عن القيمة التي توليها العملية التعليمية ل (الفرد الدارس) كثروة قومية عالية القيمة. لذلك فإن الهدف منها لم يعد، وفق هذه المناهج الحديثة، هو نقل المعرفة إلى هذا (الدارس) من الخارج، بقدر ما هو رفد (شخصيته) بعوامل نموها الذاتي، ومضاعفة فاعليتها، وتقوية وعيها وتطورها المستمرين. وفي هذا الإطار تركز هذه المناهج على دعم (الدارس) قيمياً، ووجدانياً، وانفعالياً، إزاء اكتساب المعارف والمهارات، وحثه، ليس، فقط، على هذا الاكتساب، بل وعلى الإدراك العميق لقيمته الذاتية، هو نفسه، باستقلالية تامة، ومن ثم على تمثل مسئوليته الفردية والمشتركة بشأن مبادئ التسامح، والعدالة الإجتماعية، والانفتاح على الآخر، ورؤية التطلعات الفردية والمجتمعية في انسجام تام، وبلا أي تنافر.
من أجل ذلك اتجهت المناهج التعليمية الحديثة إلى التعامل مع (الدارس) كمشروع عقل راشد، وطاقة كامنة، وخصوبة إنسانية، أي ك (حقل) كامن في (البذرة) يمكن حفز تفاعلاته القصوى بالتعويل على العمليات التي تجري داخله كانعكاس لما يجري في العالم من حوله، وتعزيز مهارات التفكير العليا لديه، بغرض رفد المجتمع ب (أفراد) مستقلين، لكنهم غير منفصلين عنه، بل مشغولين بما يشغله، ومتمتعين، في نفس الوقت، بالذهن الناقد، والخيال الخصيب، وحرية التفكير والتعبير، والطاقة على اجتراح المبادرات الخلاقة، وتفكيك وتحليل المشكلات، والتنبؤ العلمي بمآلاتها وبدائلها.
وفي هذا الاتجاه عمدت هذه المناهج لإدماج (الدارس) وغمسه في صميم العملية التعليمية ذاتها، كشريك فلسفي هام يسهم ليس فقط في إنتاج المعرفة، بل وفي اختبار سدادها. لذلك فأن معظم النشاطات التعليمية الحديثة تقوم على مفاهيم ومبادئ التشاركية، والعمل الجماعي، والعصف الذهني، والتلاقح الفكري، والبذل المعرفي، والإنعاش المعنوي، بعيداً عن (الكنكشة)، والتقتير، والتمحور حول الذات، خلافاً للمناهج التقليدية الكاسدة التي يقوم معظمها على التربص ب (الفرد الدارس)، والتشكيك في قيمته وقدراته، وحشو عقله، عن طريق التلقين والحفظ والإسترجاع، بكل الأوضار والزوائد، كما لو أنه محض (ببغاء عقله في أذنيه)، وإلى ذلك نهش (شخصيته) بكل أنواع (الكرابيج) المادية والمعنوية، عبر مؤسسات تعليمية هي، في معظم الأحوال، متاحف لمظاهر دراسية ليس لها أي أساس علمي أو فلسفي، فلا يكون الناتج النهائي، في الغالب، إلا من جنس نفس هذه المناهج: كيانات هشة داجنة، وفزاعات أنيقة لا سهم لها في عير أو في نفير، فلكأن هذه المناهج، في مخاطبتها ل (الدارس)، تستعير قول محمود درويش: "أنت ثانية؟! ألم أقتلك"؟! وخلال ذلك كله "ينام (الجهل) و(الظلم) و(العسف)، ملء جفونه عن شواردها، وتسهر (الأمم) جراها وتختصم"، في غياب طلائع مستجيشة، مصادمة، بانية، مبتكرة، وقادرة على "هدم المحالات العتيقة"، مثلما هي قادرة على "صياغة الدنيا وتركيب الحياة القادمة"، على قول ود المكي.
الأحد
بعد الإعلان عن زيادة الضرائب في دولة ما، استطاع متظاهر حانق أن يخترق الإجراءات الأمنية، ويقتحم اجتماع مجلس الوزراء، وسط ذهول رجال الأمن، وحشد الصحفيين، لينخرط في هتاف غاضب، أمام عدسات المصورين، مخاطباً السادة الوزراء:
"ثلة من الحمقى .. زمرة من الأغبياء"!
فانقض الحرس عليه، وحملوه مكبلاً لمحاكمة فورية. في قاعة المحكمة اعتدل القاضي في جلسته، ثم رفع صوته الجهوري ناطقاً بالحكم:
"السجن شهراً لاقتحامك مبنى سيادياً .. والسجن عشرة أعوام لإفشائك سراً من أسرار الدولة"!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.