عقب انقلاب ( الانقاذ) بحوالي ثلاثة أشهر تقريباً، قدمتُ إلى السودان من سلطنة عمان في إجازة قصيرة.. و في المطار التقيت المرحوم حمزة البخيت.. زميلي و جاري في الفصل بمدرسة خورطقت.. و حمزة رأيه دائماً على لسانه يقوله بلا وجل.. لذا سألته عن هوية الانقلاب الذي وقع، فأجابني ببساطة لا تعقيد فيها:-" تعرف نوع ال(….) بتاعين طقت ديلك؟" قلت:- " آيي!".. قال:- " ديل هم الحاكمين السودان دلوقتي!".. صمتَ لبرهة ثم أردف:- " ما فيهم إلا البشير..! البشير ده زميل غرفتي في الكلية الحربية.. ضكران و أخو أخوان و سوداني أصيل…!" تلك شهادة من شخص لم يكن يعرف المجاملة في الأمور خاصة الجادة منها.. و ذكر لي أنه دائم النصح للبشير.. و دائم الحديث معه حول ( الإخوان) المحيطين به.. و دائم المطالبة منه للتخلص من الإخوان المسلمين لأنهم سوف " يودوهو في داهية!" .. و كان حمزة قد ترك الخدمة العسكرية قبل الانقلاب بفترة لأسباب صحية.. و مرت السنوات.. سافرتُ إلى الولاياتالمتحدة في أواسط تسعينيات القرن الماضي.. و كنت أتواصل هاتفياً مع زميل الدراسة د. عبدالله جلاب- الأديب المعروف.. و هو و حمزة جاءا خورطقت من مدينة بارا الجميلة.. و في يوم فظيع الوقع على نفسي في الغربة، أنبأني عبدالله جلاب أن زميلنا المشترك قد تم اغتياله داخل منزله بالرياض.. الله ياخي! القاتل ( مجهول) طبعاً! و مرت سنوات أخرى لأقرأ حواراً مع الأستاذ حسن عثمان رزق بجريدة ( الصيحة) الغراء بتاريخ السبت 2 مايو الجاري، تحت عنوان " لست نادماً على تجنيد البشير بالحركة الاسلامية"، و من أقوال الأستاذ رزق عن تجنيد البشير للانضمام إلى الجماعة الفاشستية:- " ….. قصدت منزله مع أحد الإخوان في العام 1981، و وقتها كان استحق الترقية لرتبة العقيد ( و ذلك لم ينفذ)، و بعد صلاة المغرب وجدنا والده يصلي في شجرة أمام المنزل دخلنا إلى الديوان مع البشير و لم يستغرق منا الأمر وقتاً كبيراً لتجنيده"!! إذن كان حمزة البخيت- زميلنا المشترك- يؤذن في مالطا في عام 1989.. و هو ينصح البشير بابعاد الاخوان الداعشيين من مراكز اتخاذ القرار.. بينما كان البشير قد وقع سلفاً- و منذ ثمان سنوات- في شباكهم المهلكة.. و ربما كانت لقاءاته مع البشير تحت مجهر إخوان الشيطان طوال الوقت، لذلك تربصوا به و عندما حانت فرصة تصفيته، نفذوا التصفية دون رحمة.. ألا رحم الله حمزة البخيت و أدخله الجنة مع الصديقين و الشهداء.. و سؤال يحيرني.. يبدأ في الاتضاح ثم لا يلبث أن يغوص في متاهة ألغاز متشابكة: هل كان البشير لينضم إلى الجماعة لو كانت ترقيته ( المستحقة) قد تم تنفيذها في وقتها؟ و هل ( الظلم الذي أحاق بالبشير هو السبب الأول في تجنيده بتلك السرعة؟ ثم هل يعرف البشير قاتل حمزة ؟ لدىَّ يقين بأن البشير لم يمكن ( شريكاً) في الجريمة.. لثقتي في تقييم حمزة للرجال و ثقة حمزة في أن البشير " ضكران.. و أخو أخوان و سوداني أصيل".. كما أن البشير كان لا يزال ( عسكرياً) حتى ذلك الوقت..لكني أتساءل مرة أخرى: هل أخفوا عنه ما حدث؟ فالبشير لم يكن الرجل الأول في الدولة الإخوانية و لم يكن كل ( الفعل) بيده وقتها.. بل كان الشيخ ( الترابي) هو الآمر الزاجر و ( علي عثمان) نائب الشيخ الذي أطاح بشيخه هو المتآمر الذي يلدغ دون إحداث صوت كما الأفاعي الأكثر سمية.. و روح ( نافع)- منافس علي عثمان – ترصد الأرواح لتدميرها في بيوت الأشباح و غير بيوت الأشباح.. هل كانت ثمة مواجهة بين حمزة و القتلة، و هو الرجل العسكري الذي ليس من السهل قتله في مواجهة مباشرة دون أن يُحدث ( خسائر) كبيرة في المعتدي أو المعتدين؟ لا بد من أن يكون اغتياله غدراً.. ثم هل تم بواسطة غرباء.. أم أنه أمِن مَنْ اغتالوه فغدروا به؟ إن السر يرقد في الأرشيف السري ( للجماعة) التي إغتالت ( رفيق سلاح) و زميل البشير.. و القتلة لا بد من أن يكونوا من الذين شربوا من كأس المؤسسة الداعشية حتى النخاع.. و توغلوا في " قتل الأنفس التي حرم الله إلا بالحق".. و دُرِّسوا فنون المؤامرات.. و الاغتيالات في جمعيات ظاهرها اجتماعي.. و واقعها خدع حربية و كذب تدربو عليه منذ كانوا تلاميذ في المدارس.. و ازدادوا فجوراً داخل الجامعات.. كما فعلوا في ( ليلة العجكو) في الستينيات من القرن المنصرم.. و يفعلون ذلك في كل الجامعات في الوقت الراهن.. و يرمون الآخرين بدائهم و ينسلون تحت عباءة الدين.. إذن، كان البشير ضمن زمرة الإحوان المسلمين في عام 1981.. و حمزة لا يدري أن رفيقه قد ضل الطريق بعيداً عن ( قَسَم) الجندية.. و أن الاخوان المسلمين كانوا رأس الانقلاب و ليسوا ذنباً.. و أن كل الصيد في جوف من ذهب إلى السجن (حبيساً).. و ليس الذي ذهب إلى القصر ( رئيساً).. و يقول الاستاذ رزق:- "… تم الاتفاق على الانقلاب، و من ثم نعيد الديمقراطية بعد تأمين الجيش و الأمن و الشرطة و هو ما جرى تجاوزه" من الذي تجاوز ذلك يا حسن عثمان رزق؟ كل عمليات ال(تأمين) كانت عمليات ( تمكين) الحركة الاسلامية من كل مفاصل الدولة.. ( التمكين) الذي أسميتموه ال(تأمين) لم ينحصر في الجيش و الأمن و الشرطة فحسب، بل امتد إلى الخدمة المدنية و كل أجهزة الحكم في البلد.. إذن، كيف يتأتى للديمقراطية أن تعيش في بيئة ملوثة بكل مضادات الديمقراطية و العدالة و المساواة؟ لقد اتخذوا البشير معبراً للوصول إلى كرسي الحكم.. لكنه انقلب عليهم بمساعدة من بعض الطامعين الطامحين في الرئاسة منهم.. و أخيراً فصل هؤلاء الطامعين الطامحين قبل أن ( يودهو في داهية) كما قال المرحوم حمزة البخيت.. و قد فشلت رؤاهم في الشريعة التي وصفها البشير ب ( المدغمسة).. و بعد أيام سوف يتم تنصيب البشير رئيساً على البلاد لخمس سنوات أخرى.. و قد اشتجر مع جمهورية إيران الاسلامية.. و تصافى مع دول الخليج و مصر.. و صار من المقربين المسكوت عن أخطائهم و خطاياهم ضد شعبهم.. و هو المدافَع عنه في وسائل إعلام تلك الدول.. لقد أضحى البشير براغماتياً.. و عليه أن يستمر في البراغماتية.. فيعمل بنصيحة حمزة البخيت- ( رفيق سلاحه) و جاره في الغرفة بالكلية الحربية- و يبعد عنه الاخوان المسلمين.. أو- على الأقل- أن يستقيل من رئاسة حزب المؤتمر الوطني.. حتى لا تستمر الدولة في جيب المؤتمر الوطني.. إن المؤتمر الوطني حائط آيل للسقوط.. و ما حديث الدكتور إبراهيم غندور نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني في الحوار التلفزيوني الذي أجراه الأستاذان الزبير عثمان أحمد و ضياء الدين بلال،إلا دليل ضعفه حيث استبعد الدكتور غندور تخلي الرئيس عمر البشير عن رئاسة حزبه، ليصبح رئيسا قوميا، و أكد أن مثل ذلك التصرف سوف يضعف ( حزب) المؤتمر الوطني..! إسمع نصيحة وفيق سلاحك حمزة.. و هو في قبره.. حاول أن تكون رئيساً قومياً يا البشير..!