ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    شاهد بالفيديو.. لاعبون سودانيون بقطر يغنون للفنانة هدى عربي داخل الملعب ونجم نجوم بحري يستعرض مهاراته الكروية على أنغام أغنيتها الشهيرة (الحب هدأ)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    الدردري: السودان بلدٌ مهمٌ جداً في المنطقة العربية وجزءٌ أساسيٌّ من الأمن الغذائي وسنبقى إلى جانبه    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حركة الإخوان المسلمين في السودان: من الإصلاح إلى الراديكالية (1)

The Muslim Brotherhood in Sudan: From Reforms to Radicalism - 1
جبريل ر. واربورغ Gabriel R. Warburg
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لما جاء في مقال للبروفيسور جبريل ر. واربورغ عن حركة الإخوان المسلمين، تم نشره ضمن مقالات نشرها المركز العالمي لأبحاث الشئون الدولية المعروف اختصارا ب GLORIA في أغسطس 2006م، والمبذولة في الشابكة العنكبوتية العالمية. وكانت من ضمن مراجع الكاتب في مقاله هذا بعض كتابات حسن مكي وعبد الوهاب الأفندي وحسن الترابي عن تاريخ حركة الإخوان المسلمين ومفاهيمهم حول الديمقراطية والشورى، وكتاب المكاشفي طه الكباشي "تطبيق الشريعة في السودان بين الحقيقة والإثارة"، وكتاب حيدر إبراهيم علي "أزمة الإسلام السياسي"، وكتاب ميلارد وكولنز عن "حسن الترابي والدولة الإسلامية"، وبعض الأطروحات الغربية مثل رسالة ماجستير سوزانا وولف بعنوان "الإخوان المسلمون في السودان" من جامعة هامبورج في عام 1990م.
ولد المؤلف في برلين بألمانيا عام 1927م وهاجر مع عائلته إلى فلسطين وبقي بها حتى عام 1946م، ثم درس تاريخ الدول الإسلامية في الجامعة العبرية بالقدس (1961 – 1964م) واللغة العربية وآدابها في جامعة لندن، والتي تحصل منها أيضا في عام 1968م على درجة الدكتوراه بأطروحة عن "إدارة الحكم الثنائي بين عامي 1899 – 1916م". ونشر الرجل الكثير من المقالات المحكمة والكتب عن السودان ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى.
المترجم
**** *********
تاريخ مختصر
كون حسن البنا في عام 1928م حركة الإخوان المسلمين في البداية كحركة مصرية بالإسماعيلية. وانتشرت تلك الحركة بسرعة، خاصة في أوساط أفراد الطبقة الوسطى الدنيا، وغدت تدريجيا حركة سياسية، دون أن تنشئ لها علانية حزبا سياسيا. وساهمت تلك الحركة في الحرب العربية – الإسرائيلية في عام 1948م، وكانت تلك المساهمة أول مظهر علني لعمل تلك الحركة في الأربعينيات. ثم تورطت بالدخول في دائرة الإرهاب مثل عمليات حريق القاهرة والاغتيالات السياسية، والتي أدت لاغتيال حسن البنا نفسه في 1949م. وفي ذات سنوات الأربعينيات كون الطلاب السودانيون الذين كانوا يدرسون بالقاهرة فرعهم الخاص بالحركة، وكان جمال الدين السنهوري وصادق عبد الله عبد الماجد من أوائل أولئك الطلاب، وبعثت بهم حركة الإخوان المصرية في عام 1946م إلى السودان من أجل تجنيد أعضاء للحركة في السودان. وبالفعل أفلحا في إقامة فروع للحركة في عدة مدن صغيرة بين أعوام 1947 – 1949م، غير أنهما منعا من ممارسة أي نشاط علني إلا بعد أن يعلنا استقلالهما عن الإخوان المسلمين المصريين، والذين كانت حركتهم تعتبر حركة غير قانونية في تلك السنوات. ومن الذين تم تجنيدهم مبكرا هو الصائم محمد إبراهيم، المدرس بمدرسة حنتوب الثانوية، والذي كان قد أنشأ ما سماه "حركة التحرير الإسلامي" في كلية غردون في عام 1947م لمجابهة الشيوعيين. وكان قادتها بابكر كرار ومحمد يوسف، وكانا من المنادين بإقامة دولة اشتراكية إسلامية.
وكان يميز غالب من اعتنقوا أفكار الإخوان هو أنهم كانوا من أرياف شمال السودان، ومن الملتزمين بالإسلام الصوفي والمعادين للشيوعية. ونجحت "حركة التحرير الإسلامي" في تربيتهم وفق إيديولوجية إسلامية عصرية لا تقطع صلاتهم بعائلاتهم التي كانت تتبع للطريقة الصوفية الختمية. ولم يكن هذا "الولاء المزدوج" يزعج الختمية، إذ أنهم لم يكونوا يعدون الإخوان خصوما سياسيين.
وأعلن الإخوان المسلمون في السودان عن تنظيمهم بصورة رسمية في مؤتمر عقد في يوم عيد بتاريخ 21 أغسطس 1954م، أي بعد عامين من قيام الضباط الأحرار بالثورة في مصر. وعين فيما بعد أحد أبرز من كانوا في قيادة طلاب الإخوان المسلمين آنذاك، وهو الرشيد الطاهر بكر، مراقبا عاما للإخوان المسلمين. وأقام ذلك السياسي والمحامي له علاقات قوية مع صلاح سالم ممثل الضباط الأحرار في السودان، وأيد معسكر الاتحاد مع مصر. إلا أن هذا تغير بعيد محاولة اغتيال عبد الناصر في أكتوبر 1954م، والهجمة عليهم من قبل السلطات المصرية الحاكمة بعد اتهامهم بتدبير تلك المحاولة. لذا نبذ الإخوان المسلمون في السودان فكرة الاتحاد مع مصر، وساندوا جماعة الأنصار / حزب الأمة في دعوتهم لاستقلال السودان.
وعقب انقلاب نوفمبر 1958م العسكري بقيادة إبراهيم عبود تم السماح للإخوان المسلمين، ولأول مرة، باستئناف نشاطهم كحركة دينية، بينما جمد نشاط كل الأحزاب السياسية الأخرى. غير أن الرشيد الطاهر بكر قام في 9/11/1959م بمحاولة انقلاب ضد النظام العسكري الحاكم، بمشاركة خلية (غير قانونية) في الجيش كانت تضم أطرافا عديدة منها الحزب الشيوعي والإخوان المسلمين وآخرين. وفشلت المحاولة وفقد الإخوان في تلك المحاولة كوادرهم في الجيش، وخسروا أيضا حريتهم في النشاط العلني.
وبعد سنوات بدأت مرحلة مهمة في تاريخ الإخوان. ففي عام 1964م عاد للبلاد حسن الترابي وعدد آخر من قادة الإخوان من بعثاتهم الدراسية بالخارج. وكان الترابي قد انضم للحركة في عام 1954م عندما كان طالبا للقانون بجامعة الخرطوم. وابتعث بعد ذلك للدراسات العليا في لندن وباريس، وعاد من الأخيرة بدكتوراه في القانون الدستوري، وعين محاضرا في كلية القانون بالجامعة. وبدأ في الظهور كأهم متحدث باسم الإخوان في الجامعة، وكان يدعو لحل سلمي لمشكلة الجنوب. وكان الإخوان بجامعة الخرطوم يقودون معظم مظاهرات الطلاب والمتعاطفين معهم في أيام ثورة أكتوبر، والتي أدت في النهاية للإطاحة بنظام عبود. غير أن الإخوان، وعند المقارنة مع الشيوعيين، كانوا يفتقدون التعاطف في أوساط غالب المهنيين وصفوة المتعلمين. لذا أتجهوا لتكوين ما سموه "جبهة الميثاق الإسلامي" في أكتوبر من عام 1964م وكان الترابي هو أمينها العام. وكانت أسباب تكوينهم لتلك الجبهة تتلخص في التالي:
أولا: توصل قادة الإخوان إلى أنهم سيظلون جماعة (صفوية) صغيرة إن لم يتوسع نشاطهم ليشمل قطاعات (شعبية) واسعة من الداعيين لدستور إسلامي مثل الأنصار ورجال الطرق الصوفية وغيرهم.
ثانيا: كان الترابي رجلا براغماتيا (عمليا) يضع تحقيق الأهداف السياسية (وليس الإيديولوجية) في مقدمة اهتماماته. ولهذا لم يلق بالا للاتجاهات الصفائية (Purist) عند قدامى الإخوان المسلمين. ووفرت له "جبهة الميثاق الإسلامي" منبرا ملائما لقيادته الديناميكية.
وبين عامي 1965 و1968 تعاونت "جبهة الميثاق الإسلامي" مع حزب الأمة (جناح الصادق المهدي) في حملته ضد الحزب الشيوعي، وفي الدعوة لدستور إسلامي. وكانت مسارح تلك الحملة في بادئ الأمر هي منابر الجامعات، وخوض انتخابات اتحادات الطلاب للعمل ضد الشيوعيين. وتوسع عمل الجبهة السياسي بعد ذلك فتحالفت مع نواب الأنصار والختمية في عام 1965م لطرد نواب الحزب الشيوعي من الجمعية التأسيسية (بحسب ما جاء كتاب "اليسار السوداني في عشرة أعوام " لمحمد سليمان كان نائب الاتحاد الديمقراطي الحاج مضوي محمد أحمد هو من قدم اقتراح حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من الجمعية التأسيسية. المترجم). ونجحت الجبهة أيضا في صياغة الدستور الإسلامي بالتحالف مع الأنصار، إلا أن ذلك الدستور لم ير النور لقيام انقلاب مايو العسكري في 1969م بقيادة جعفر محمد نميري وحلفائه الشيوعيين. وأعتقل بعد ذلك بعض قادة الإخوان (ومنهم الترابي)، وفر آخرون منهم للجزيرة أبا، ولقي بعضهم حتفهم فيما بعد عند هجوم الحكومة المايوية عليها، بينما أفلح البعض في الخروج من البلاد لمصر ودول أخرى. وكان عثمان خالد هو ممثل الإخوان في قيادة الجبهة الوطنية المعارضة لمايو، وأمينها العام. وكانت تلك الجبهة قد تكونت في لندن في عام 1970م بقيادة ممثلين لحزبي الأمة والاتحاد الديمقراطي. وقابل الترابي الرئيس نميري عقب فشل محاولة انقلاب 19 يوليو 1971م الشيوعي وطلب منه السماح للإخوان المسلمين بمعاودة نشاطهم. وفي عام 1972م نجح الإخوان المسلمون في السيطرة على اتحاد طلاب جامعة الخرطوم تحت مسمى " جبهة وحدة الطلاب". وبينما ظل ساسة "الجبهة الوطنية" (وكان من بينهم إخوان مسلمون) يواصلون الدعوة، وهم في الخارج، لإسقاط النظام المايوي عن طريق العمل المسلح، كان الترابي ومعه غالبية الإخوان في الداخل أكثر براغماتية (عملية)، وظل الترابي يركز على إعادة تنظيم جماعته بحيث وجد "الحرس القديم" من قادة الإخوان أنفسهم وقد فقدوا كل نفوذ كان لهم في أوساط الحركة، وأرتقى من انضموا للحركة في الستينيات لقيادتها العليا. وبذا كان الترابي ومن معه من الإخوان الذين بقوا في البلاد أكثر استعدادا (لتقبل) انتقال نميري ل"النهج الإسلامي" في منتصف السبعينيات. ولم يكن غياب الديمقراطية مما يزعج الترابي ورفاقه إذ كانوا قد أيقنوا أنه ليس بوسعهم الاعتماد على الحزبيين التقليديين (الأمة والاتحاد الديمقراطي) في سعيهم لإقامة دولة إسلامية. ولذا كان التعاون مع نميري أمرا منطقيا ومعقولا، خاصة وقد كان هو من سعى إليهم، مقتديا بما فعله الرئيس المصري أنور السادات من استقطاب للإخوان المسلمين المصريين في بدايات السبعينيات.
وعقب فشل محاولة تغيير النظام المايوي بالقوة في يوليو 1976م بقيادة الأنصار قرر الإخوان إقامة كيان جديد سموه "الجبهة الإسلامية القومية". وكان تعيين الرشيد طه بكر (القائد الإخواني في سنوات سابقة) نائبا للرئيس ورئيسا للوزراء في ذلك العام مؤشرا للتغيير القادم. فعلي الرغم من أن الرشيد لم يعد عضوا بتلك الحركة، إلا أنه ظل يعرف عند العامة بها. وعند أتت المصالحة الوطنية في 1977م كان الإخوان على أتم الاستعداد لها، وقبلوا بكل ما عرضته عليهم الحكومة من مناصب.
وتم تعيين حسن الترابي نفسه مدعيا عاما في 1979م، بينما قبل زملائه في الحركة بمناصب مختلفة الأهمية في المؤسسات القضائية والمالية والتعليمية والاعلامية وفي الاتحاد الاشتراكي السوداني. ونجحت الجبهة الإسلامية القومية، عن طريق معلمي المدارس من الإخوان المسلمين، في اختراق مواقع ومعاقل الأنصار التقليدية في كردفان ودارفور بغرب السودان. وكان من أهم نتائج التعاون بين نميري والإخوان تقوية التنظيم الإخواني وقواعده الاقتصادية والمالية. وهذا مما قد يفسر النجاح الكبير الذي أحرزته الجبهة الإسلامية القومية في الانتخابات العامة في 1986م، حيث أتت في المركز الثالث بعد حزبي الأمة والاتحاد الديمقراطي. وكانت من أسباب قوة التنظيم الإخواني المالية والاقتصادية هو سيطرتهم، ومنذ بدايات السبعينيات، على النظام المصرفي الإسلامي، وبالتعاون في البدء مع السعودية، ثم مع نميري من بعد ذلك. ووفر إنشاء بنك فيصل الإسلامي في 1978م للإخوان المسلمين فرصا للتغلغل في النظام المصرفي الإسلامي الجديد كموظفين ومستثمرين، والحصول على قروض وأسهم وأرباح. وفتح ذلك البنك أبوابه لصغار منتسبي الجبهة الإسلامية القومية للحصول على تسهيلات وتمويل، ويسر لتلك الجبهة عمل صلات تجارية ومالية عالمية مع كثير من المؤسسات، خاصة في الجزيرة العربية
واستخدمت الجبهة الإسلامية القومية وسائل مبتكرة في تمويل نشاطها السياسي، خاصة في المناطق البعيدة، حيث لم يكن لديهم كثير من المؤيدين. وكانوا في مسيس الحاجة لأموال يكسبون بها جانب المصوتين. فوجودا ضالتهم في أموال المغتربين في الدول البترولية الثرية. فقد كانت أعداد المهاجرين من السودان(المغتربين) بعد عام 1973م قد تضاعفت ، حتى أنه وبحلول العام الذي سقط فيه نميري (1985م) كان نحو ثلثي العمال المهرة وأصحاب المهن يعملون خارج السودان. وكان هؤلاء (وكثير منهم من المؤيدين للجبهة الإسلامية القومية) يحولون مدخراتهم لعائلاتهم في السودان عن طريق وكلاء تابعين للجبهة، والتي كانت تستقطع جزءً من تلك الأموال لأغراض عملها السياسي، وللدعوة لمبادئها في أوساط رجال القوات المسلحة حيث أنشأت لها خلايا سرية. وبذا ربطت تلك الجبهة المغتربين بأجندتها السياسية – الدينية، وكسبت جانب تلك العائلات السودانية التي كانت تتلقى أموال مغتربيها عن طريقها. وبهذا كانت الجبهة الإسلامية القومية على أتم الاستعداد للانتخابات العامة في عام 1986م، وللانقلاب العسكري الاسلامي في يونيو من عام 1989م.
وعقب انقلاب 1989م شددت الجبهة الإسلامية القومية من قبضتها على البنوك وقطاعات البناء والتشييد والصناعة والنقل والإعلام. وبما أن نحو 90% من دخل البنوك كان يستثمر في عمليات تمويل الصادرات والواردات، فقد أفلحت الجبهة الإسلامية القومية في السيطرة على هذه القطاعات على حساب الختمية والذين كانوا يهيمنون في السابق عليها. ولم يترك تعيين عبد الرحيم حمدي، القيادي البارز في الجبهة الإسلامية القومية وزيرا للمالية والاقتصاد مجالا للشك في هيمنة الجبهة الإسلامية القومية الكاملة على كل مؤسسات البلاد المالية والاقتصادية الرئيسة.
وكان من أسباب نجاح الجبهة الإسلامية القومية في انتخابات عام 1986م هو تفوقها النوعي البائن في دوائر الخريجين. وكان المغتربون قد سمح لهم – ولأول مرة- بالمشاركة في الانتخابات في أي دائرة يشاءون. واستغلت الجبهة الإسلامية القومية ذلك التغيير في قوانين الانتخابات بتوجيه أنصارها للتصويت لمرشحيها في الدوائر التي لم يكن يضمنون الفوز بمقاعدها. غير أن ذلك النصر قد كشف أيضا عن ضعف متأصل في الجبهة الإسلامية القومية. فقد كان أنصارها والمتعاطفين معها هم من طلاب الجامعات والخريجين. وعقب قيام الانقلاب الأصولي في 1989م شددت الجبهة الإسلامية القومية من قبضتها على كل مؤسسات التعليم، وعينت إبراهيم أحمد عمر (أحد أبرز قادة تلك الجبهة) وزيرا للتعليم العالي. وقام الرجل بتنفيذ سياسة قضت بعزل غالب من لا ينتمي أو يتعاطف مع الجبهة الإسلامية القومية من مدراء جامعات وعمداء وأساتذة، وعملت على إعادة تنظيم المؤسسات التعليمية العالية. وسمحت تلك الاجراءات بتعيين عدد من أعضاء الجبهة الإسلامية القومية في الوظائف العليا بالجامعات، وكذلك في السلك الدبلوماسي والمالي والاقتصادي والسياسي في الداخل والخارج.
الإخوان المسلمون والجيش
حاول الإخوان المسلمون النفاذ للجيش أول مرة بمحاولتهم تعيين بعضا من شبابهم بالكلية الحربية في عام 1955م (أي قبل نيل السودان لاستقلاله). وكانت مشاركة القائد الإخواني البارز الرشيد الطاهر بكر في محاولة الانقلاب على حكم الفريق عبود في عام 1959م (وبمشاركة الإخوان المسلمين مع عدد من القوى الأخرى في الجيش) إشارة واضحة للنوايا المستقبلية لتلك الحركة. وتزايد ذلك النشاط للتسلل للجيش بعد عام المصالحة الوطنية في 1977م. فقام قادة الإخوان بتنظيم دورات (كورسات) في الإيديولوجية والدعوة الإسلامية لكبار ضباط القوات المسلحة، وسهل ذلك عليهم التغلغل في أوساطهم والتأثير عليهم. وكان رئيس المجلس العسكري للإنقاذ وثلاثة من أهم ضباطه من الذين شهدوا تلك الدورات.
وبعد سقوط نميري قامت الجبهة الإسلامية القومية بتقوية صلاتها بالجيش، وساندت علنا مطالب منتسبيه بتحسين أجورهم وتحديث إمكاناته أسلحته، في الوقت الذي ظل فيه حزبا الأمة والاتحاد الديمقراطي في حالة من التردد و . وأثبت نجاح انقلاب 1989م أن تغلغل الجبهة الإسلامية القومية في الجيش قد أتى أكله المتوقعة.
الإخوان المسلمون وجنوب السودان
تغير موقف الإخوان المسلمين تجاه مسألة الجنوب في سنوات السبعينيات. فبعد أن كان الترابي وأتباعه قد اتخذوا موقفا ليبراليا في عامي 1964 و1965م تجاه تلك القضية، بدأ بعض قادة الإخوان في الدعوة علنا لفصل الجنوب بدعوى أنه طالما ظل السودان متحدا، فإن قيام دولة إسلامية فيه يصبح مستحيلا. ولكن ظلت غالبية أعضاء الإخوان يصرون على قيام دولة إسلامية في سودان موحد يغدو معقلا للإسلام في أفريقيا. وكانت الجبهة الإسلامية القومية قد أقامت المركز الإسلامي الإفريقي للقيام بالعمل الدعوي في جنوب البلاد. وفي عام 1982م أنشأت الجبهة الإسلامية القومية وبتمويل كويتي وإماراتي "رابطة الجنوبيون المسلمون" لإقامة مدارس إسلامية وقرى بالجنوب. وكان من وراء إنشاء تلك الرابطة هجرة آلاف اليوغنديين عقب الإطاحة بعيدي أمين في عام 1979م. وساعدت العلاقات الوثيقة بين الجبهة الإسلامية القومية والجنوبيين السودانيين تلك الجبهة في انتخابات عام 1986م بجنوب البلاد.
وقامت الجبهة الإسلامية القومية في يناير 1987م بنشر "الميثاق الوطني" وتوسعت فيه في شرح العلاقات الخاصة بينها وبين الجنوب، وفسرت فيه برنامجها لأسلمته. وأقترح الترابي سياسة يقوم الإخوان المسلمون بموجبها بلعب دور الطليعة الإسلامية في الجنوب، وإجبار المسلمين التقليديين (الصوفيون) على أن يحذو حذوهم. غير أن الجبهة الإسلامية القومية قدمت أيضا تنازلا كبيرا ومهما وهو القبول بحق أي فرد (بغض النظر عن دينه) في تولي المناصب العامة، ووعدت بالسماح بحرية المعتقد والمساواة أمام القانون، مشيرة إلى أنه في الدولة الفيدرالية ستحكم مناطق غير المسلمين بقوانين غير إسلامية (ليست قائمة على الشريعة). إلا أن الجبهة الإسلامية القومية رفضت، وباستمرار، أي مساومة أو حل وسط في أمر علمانية الدولة. ويمكن عَزْو قيام انقلاب 1989م جزئيا لموقف الجبهة الإسلامية القومية المتشدد حيال التفاهم مع الجيش الشعبي لتحرير السودان.
العلاقات مع الإخوان المسلمين في مصر ومع الأحزاب الأخرى
ظل الإخوان المسلمون السودانيون مستقلين عن سَمِيُّ تنظيمهم في مصر، وأفلحوا في جعل حركتهم نسخة سودانية من الأيديولوجية الإخوانية. وكانوا يشبهون علاقتهم بالإخوان المسلمين في مصر بعلاقة السودانيين الأشقاء بحزب الوفد المصري في الأربعينيات. فقد كانا يناديان بوحدة وادي النيل، ولكن كان لكل منهما منطلقاته الذاتية، وتحت راياته المنفصلة المستقلة. وكان هنالك سبب آخر لإصرار إخوان السودان على الاحتفاظ باستقلاليتهم وذاتيهم الخاصة، وهو خوفهم من أن يؤدي أي اتحاد لهم مع إخوان مصر تلقائيا إلى خسرانهم لحلفائهم الأنصار الذين كانوا يعادون كل ما يأتي من مصر. وكانت محاولات الإخوان لاستغلال واجهة المنظمات المختلفة مبعثها بغض السودانيين للتطرف، ورغبة الإخوان في الوصول لأوسع دوائر ممكنة، خاصة في أوساط أتباع الطريقة الختمية. وهذا يذكرنا بموقف الشيوعيين والمنظمات التي كانوا يقيمونها. وكذلك حاول الإخوان المسلمون اختراق الأحزاب السياسية الأخرى حتى يجدوا لهم مواضع أقدام فيها، وليعلموا ما يجري في داخلها. فحاول الرشيد الطاهر بكر المشاركة في انتخابات 1957م كمرشح عن حزب الأمة، بينما اخترق مدثر عبد الرحيم وعثمان جاد الله هيئة تحرير صحيفة الختمية المسماة "الجهاد". غير أن الخلافات الداخلية في داخل حركة الإخوان السودانية بين من يعلنون الفتهم مع إخوان مصر، وبين من يعارضونها لم تسوى أبدا. وظل كبار قادة الإخوان مثل جعفر شيخ إدريس والصادق عبد الله عبد الماجد وهم في مهاجرهم في الخليج العربي يهاجمون استراتيجية الترابي في غضون سنوات عهد نميري، وظلوا لصيقين بالإخوان المسلمين المصريين. وعندما أطلق سراح حسن الهضيبي مرشد الإخوان المسلمين المصريين في عام 1973م أقترح جعفر شيخ إدريس والصادق عبد الله عبد الماجد أن ينضم الإخوان في السودان إلى التنظيم العالمي للإخوان المسلمين تحت قيادة الهضيبي. وسياسيا ظل الشيخان ينتقدان آراء الترابي "غير الإسلامية" حول دور المرأة في المجتمع، واستهجنا مُوادَّته لنميري ونظامه. غير أن مقترحات الرجلين قوبلتا بالرفض من مجلس شورى الجماعة، رغم أن منصب نائب الأمين العام عرض على الصادق عبد الله عبد الماجد عند عودته للسودان في نهاية السبعينيات ولكنه رفضه، وكون حركة مستقلة للإخوان المسلمين نازلت الجبهة الإسلامية القومية في انتخابات 1986م دون أن تصيب أي نجاح يذكر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.