حركة الإصلاح الآن تجربة التأسيس هذه رؤية نقدية تقويمية موجزة لتجربة تأسيس حركة الإصلاح الآن في مدة عمرها القصيرة التي لم تتجاوز اثني عشر شهراً. ورغم أنها رؤية خاصة بتجربة موغلة في الخصوصية، وما يستخرج من حكمتها قد لا يناسب التجارب الحزبية الأخرى، إلا أن فوائد عامة قد تتوفر للقوى السياسية من الاطلاع عليها. لذلك ستكون هذه الورقة من وثائق الحركة المنشورة والمتاحة لاطلاع العضوية والرأي العام. اثنا عشر شهراً من الأرباح والخسائر توافق ميلاد الحراك الإصلاحي، الذي تحول في النهاية إلى حركة الإصلاح الآن، مع تطورات مهمة في الساحة صنعتها أحداث سبتمبر/ أكتوبر 2013. أوجدت تلك الأحداث مبرراً قويا لوقفة مبدئية جريئة تتجاوز حجج الاحتراز من الفوضى وتعليق سيف الفتنة على كاهل كل منتقد أو مصلح، لتؤكد أن درء الفتنة منوط في المبدأ بعدل الحاكم. العدل هو أهم معيار للحكم بمشروعية الحاكم، كما يستفاد من تأويل القرآن في مسألة الحكم بين الناس. وخرجت من ذلك الحراك مذكرة تطالب بقوة بالالتزام بمبادئ جوهرية في الفقه السياسي، حتى لا تتحول تلك المبادئ لمراكب يمتطيها الحاكم أو يتركها بحسب هواه. بسبب تلك المدافعة الفكرية والسياسية وفي ظل توارد آثارها صدرت "وثيقة التأسيس" كأول بيان يفصح عن مبادئ حركة الإصلاح وثقافتها السياسية. وقد تميزت الوثيقة، رغم صفوية خطابها، ببيان تجديدي نبه المجتمع السياسي إلى أن بالساحة صوتاً جديداً يستحق أن يسمع. وقد نزعت الوثيقة إلى تفصيل مرجعياتها بصورة لا تستعصي على الفهم، مع تركيز على الوعي بالبعد الأخلاقي للسياسة. وفي هذا الصدد تناولت الوثيقة قضية الإسلام ودوره في الحياة العامة وربطه بنظام الأخلاق في السياسة، بصورة لا تختزل الإسلام في حملة شعارات انتخابية، أو تختصره في معركة صفرية بين قوى علمانية وأخرى متدينة، أو إلى محض معركة مصطلحات. عدلت الوثيقة عن ذلك إلى بيان مفصح عن مقاصد الإسلام ودوره البناء في إقامة مجتمع عدل وسلم ومعرفة وتحاور وتعاون بناء. مجتمع يسع المسلمين وغيرهم ويقدم مثالاً للتعايش الإنساني كما أوصت به رسالة الإسلام. لا يقتصر تطبيق ذلك المثال على الصعيد الوطني، بل يمتد إلى دور الإسلام على الصعيد العالمي، في لحظة ارتباك يعيشها العالم الإسلامي تجعل مثل هذا البيان ضرورة ملحة. أكثر منجزات حركة الإصلاح الآن في الاثني عشر شهرا الماضية هي في المجال السياسي، حيث استطاعت أن تضيف حيوية للمسرح السياسي وأن تقيم علاقات مع القوى السياسية داخل السودان وخارجه. واستطاعت أن تساهم في وضع الأجندة السياسية وأن تقيم علاقة تفاعلية حركية مثمرة ومنتجة مع القوى المشاركة في الحوار الوطني والمقاطعة له. كما أنها أقامت، من خلال عملية الحوار، علاقات عملية جيدة مع الفريق الإفريقي عالي المستوى ومع عناصر المجتمع الإقليمي والدولي المؤثرة في تشكيل الواقع السوداني. تمثلت إنجازات الحركة أيضاً في أنها تمددت في النسيج السياسي السوداني بنسبة أكبر من القاعدة الأصلية التي انطلقت منها وهي قاعدة اتسمت بالضيق في البداية وبقلة الإمكانات. برغم ذلك استطاعت أن توظف إمكاناتها المادية المحدودة توظيفاً فاعلاً. فعلت ذلك من خلال تعزيز ملكات التطوع لدى الأعضاء مع الاجتهاد في محو العادات السيئة التي ربما اكتسبها الأعضاء من انتماءاتهم الحزبية السابقة في أن الحزب يعطي ويدفع ويمنح ولا يتلقى. بسبب هذه السياسة انتفت حاجة الحركة للمتفرغين، فليس بالحركة متفرغ كامل التفرغ، ولا وسائل نقل وحركة حزبية، ولا دعوم مالية مقابل المواصلات واستخدام الهاتف. ونفقات الاجتماعات الهامة مثل مجلس الشورى تدبر وفق تقليد النفير. وبصورة مجملة استطاعت الحركة في أقل من عام زحزحة المفاهيم والعادات الراسخة في التمويل الحزبي، الشيء الذي منحها هامشاً واسعاً من الاستقلالية وجعل مواقفها عصية على الشراء. وبرغم ذلك يبقى التمويل معضلة أساسية لا يمكن حلها على المدى البعيد، وفي وجود أهداف طموحة، فقط بمثل إجراءات التقشف الموصوفة. هذا تحد يجب البحث عن حلول ناجعة له في إطار النظر إلى مستقبل الحركة وأهدافها الكبيرة، وأيضاً في إطار الإصلاح الكلي للسياسة السودانية. وافى ميلاد الحركة إطلاق دعوة الحوار من خلال الخطاب الرئاسي المشهور بخطاب الوثبة. شاركت الحركة في الحوار بحماسة باعتباره خيارها الاستراتيجي. واستطاعت أن تساهم في تشكيل الحوار من خلال مشاركتها في إصدار أهم وثيقتين منه، هما "وثيقة خارطة الطريق" ووثيقة اتفاق أديس أبا با بتاريخ 5 سبتمبر 2014 . تجاوزت الحركة بذلك الموقف المبدئي الخصومات السياسية لتفاجأ بعد ذلك بأن إطلاق الحوار، تلك القضية الوطنية الجامعة، لم تصدر من إيمان حقيقي أو التزام يعتد به. كانت تمهيدا فقط لانتخابات باهتة لا تحمل قيمة تعزز مشروعية الحكومة القائمة، بدلاً من السعي مع كل أبناء الوطن من أجل إرساء قواعد لمشروع مشترك يجدد بناء الدولة العادلة التي يأوي إلى ظلها الجميع. أكبر اخفاقات الحركة تمثلت في ان الجهاز التنفيذي، قلب الحركة النابض، لم يستطع ان يحيل المكتسبات السياسية الى مكتسبات بشرية وتنظيمية على أرض الواقع، أي مكتسبات جماهيرية موصولة بمنابع القوة والتأثير في قاعدة المجتمع. عقدة القصور التنفيذي ظلت تلاحق الحركة في كل الفترة الماضية بما يجعلها واحدة من اهم بنود الإصلاح الداخلي في المستقبل. ويجب أن ينعكس ذلك في مكتسبات موثوقة في العلاقة مع المجتمع وفي حجم التأييد للحركة القابل لأن يصبح مدداً تعبوياً ممتداً إلى المواطنين داخل السودان وبين المغتربين والمهاجرين. واحدة من أهم الأزمات التي واجهت الحركة، وهي في دقة لحظة الميلاد، كانت محاولات الاختراق المتوقعة. وربما أسهم التأكيد الذي تكرر عند الحديث عن الخصائص الأساسية للحركة في الإغراء بالاختراق. تحديداً الحديث عن "الجماهيرية" و"الانفتاح". وبينما دخل بعض بنيات سيئة منذ البداية، دخل بعض آخر، ليس أقل ضرراً، بنية حسنة ولكن بدون التزام حقيقي. دخل فقط من أجل المغامرة أو التجريب، في رحلة مجانية لا يضره المشاركة فيها. ساهم في ذلك الخلط، في البداية على الأقل، تباين الأصول التي جاءت منها بعض قيادات الحركة وعضويتها. فهؤلاء لم ينشأوا في بيئة واحدة، لأن الحركة لم تنشأ من داخل حاضنة فكرية ثقافية تتولى تشكيل عضويتها. وأدى ذلك بالضرورة إلى تفاوت في المفاهيم والأساليب. العزاء في أن عاقبة تلك المحاولات المتوقعة كانت مفيدة فقد انتهت إلى أن تكون الحركة أكثر تماسكا ووحدة، لكنها نبهت إلى ضرورة اتخاذ الإجراءات التي تحمي الحركة وتوحدها دون التضحية بالمبادئ التأسيسية المعلنة. بناءً على ذلك فإن مقاومة الاختراق والتخريب يجب أن تعني مزيدا من الانفتاح والعلنية، لأنهما الترياق الأقوى لتحييد المؤامرات. ويستحيل أن تدعو حركة إصلاحية للتضحية بمبدأ راسخ مثل الانفتاح والتفاعل لمصلحة الانغلاق والتقوقع. في المفاضلة بين التيار والحزب لا توجد أداة قياس موثوقة الآن لنحدد بها الاتجاه الذي ساد في قمة المواجهة السياسية مع سلطة الحكم والحزب. لكن من المفيد أن نذكّر بأن جدلا مهمّاً قد ثار آنذاك وأنه لم يختف قبل أن يخلف وراءه أثراً على طبيعة الحركة واتجاهاتها. آنذاك دافع بعض عن فكرة التيار بينما دعا بعض آخر لفكرة الحزب. الذين جادلوا لمصلحة التيار احتجوا بأن الحركة التي تمضي بغير حواف صلبة لا يمكن تسييجها وتحظيرها بالقوانين والإجراءات السلطوية. فهي الأقدر على حشد طاقات المقاومة في المجتمع في ظل قيادة عصية على الاستئصال أو التحييد، لأنها قيادة قابلة للتنقل والتجدد. والتنظيم العفوي يعطي التيار قدرة أكبر على المناورة. من ناحية أخرى فإن التيار أكثر قابلية للاختراقات، وللتجزئة والتفتيت والانحراف عن الأهداف الرئيسة التي تكسبه مشروعية الوجود وتقود زحفه. وهناك بالطبع سيف القانون المصلت من قبل نظام معاد يطوع القانون لمصلحته ولا يتهاون في التعجيل بضرب أي حركة تيارية في مهدها. ومن مشكلات التيار صعوبة التعامل مع القوى السياسية المنظمة والاصطفاف إزاءها، لعدم توفر الشخصية القانونية الاعتبارية. برغم كل ذلك يبقى التشكيل التياري واحداً من أقوى تراكيب العمل السياسي الناجح. وهو أنجح ما يكون حال تبنيه لقضية واحدة محددة يروّجها بشعار بسيط ونافذ للقلوب مثل قضية الاستقلال أو التغيير أو الثورة. بالنسبة للخيار الآخر، خيار الحزب، فقد ساد الوعي بمشكلات الحزبية القائمة في العالم كله. التنظيم الحزبي الآن أصبح له منافسون من تنظيمات المجتمع التقليدية ومن تشكيلات المجتمع المدني الحديثة الشيء الذي أدى إلى انخفاض معدلات الالتزام العضوي للأحزاب في العالم كله، وإلى تراجع قدرات التركيبة الحزبية على تحقيق أهداف الجماعة السياسية التي تؤمن بها وتنضوي تحتها. والتجربة الحزبية النمطية في السودان تؤدي بصورة حتمية إلى تكوين أجسام وتشكيلات ما تنفك تولد أجساماً أخرى جديدة كالدوائر والأمانات إلى أن ينتهي الحزب إلى أن يصبح بيروقراطية سياسية ضخمة، متخمة ومرهقة، وبناءً مترهلاً يسرع إلى أطرافه التآكل وإلى مركزه الانقسام. لكن الحزب بالمقابل أقدر على ضبط أفعاله وأقواله وعلى إدارة الحرب التي يشنها عليه خصومه، خاصة إذا كانوا مستنصرين بالسلطة. لكن هناك القيود التي تفرضها الطبيعة الحزبية، مثل الإذعان للسقوف القانونية والسياسية التي تفرضها السلطات الرسمية بغير مبررات قانونية في كثير من الأحيان. وقد حدث ذلك فعلاً على مدار العام الماضي حتى بعد أن تعهدت الحكومة بتوفير المناخ الملائم لإجراء الحوار الوطني. وهناك الصدود النفسي الطبيعي لدى المواطن من المواقف الحزبية التي غالباً ما تكون في موضع الاتهام والريبة. ومثل ذلك لا يحدث في حالة التيار بسبب أن ظهور التيار على المسرح واختفاؤه يكون سريعاً لا يساعد على تكوين نظرات متصلبة ومتحاملة تجاهه وتجاه قياداته. القيادة والعضوية من المشكلات التي واجهت الحركة في ميلادها السريع تباين الفهم لواجبات العضوية وتفاوت الاستعداد للوفاء بها مهما كانت التضحيات التي تتطلبها. وأيضاً تباين الفهم للزعامة ومستحقاتها، والاعتماد على كاريزمية القيادة في كل شيء وانتقاد وجودها في ذات الوقت. الإفراط في ما هو متوقع من القيادة ساهم في تعميق الاعتمادية الفكرية وضعف الأطروحة السياسية لدى بعض من يطلب منهم تحرير أفكار الحركة وتقديمها في المواقف المختلفة. بالمقابل هناك آفات موروثة من انتماءات وخبرات سابقة تثبت أن المعايير الإصلاحية لم تترسخ حتى بين دعاة الإصلاح كما ينبغي لها أن تترسخ. مثال لذلك شيوع الغيرة والصراعات التي تؤدي إلى الإضعاف المتبادل وتصرف وقتاً وطاقة كبيرتين في احتوائها. بعض تلك السلوكيات كانت بسبب غياب التكوين المترافق. ففي العادة تتكون الحركة السياسية من بنية تحتية هي الأساس والنسق الذي تتصاعد منه تراكيب الحركة. هذا النظام انقلب رأساً على عقب في حالة حركة الإصلاح الآن لأنها نشأت من بنية فوقية. غياب التدرج من القاعدة إلى القمة ألغى ميزات الرفقة وأدى في أحيان كثيرة إلى غياب التجانس، وتشاكس المفاهيم والمصطلحات، وافتقاد المعايير الفكرية والسياسية الموحدة. الخطاب خطاب الحركة في مخاض ميلادها كان خطاباً فكريا، هدف إلى شرح الأسس والمبادئ والأهداف التي قامت عليها الحركة. مع ذلك رأى فيه كثيرون خطاباً فوقياً يتودد إلى الضمير الصفوي. فضلاً عن أن الخطاب جاء معزولاً ومتعالياً عن المطالب التي تحرك الجماهير تحريكاً مباشراً فإنه أهمل قضايا الهامش رغم مركزيتها وتأثيرها في السياسة بأشدّ من تأثير الأطروحات المذهبية التي راجت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. تفاعل الحركة مع محيطها الاجتماعي كما في الكائنات الطبيعية فإن قدرة الكائنات الاعتبارية – مثل الحركات السياسية – على البقاء والنمو رهينة باستعدادها للتجانس الفاعل مع محيطها الاجتماعي. والعكس من ذلك صحيح، فالحركات التي تعادي مجتمعاتها لا تصمد أمام تحديات البقاء. فنشوء اتجاهات مقاومة في المجتمع للكائن الجديد تجعل نموه مستحيلاً أو عسيراً على الأقل. وغالباً ما تقع في ذلك الخطأ الحركات التي تتبنى فكراً غالياً قائما على رؤية دينية أو أخلاقية. ويحمد لحركة الإصلاح أنها استطاعت أن تنشئ علاقات رسخت مصداقيتها وعززت الثقة والرجاء فيها لدى قطاع مقدر من الجمهور. تحقق ذلك من خلال تفاعل حيوي، ليس مع القوى السياسية المنظمة وحدها، ولكن مع المثقفين والقطاعات الشعبية أيضاً. ينبغي المحافظة على هذه السياسة وتعديتها من المحيط الوطني إلى المحيطين الإقليمي والعالمي من أجل التوظيف الأمثل للعولمة وتحويلها إلى رصيد إيجابي. التمويل اعتمدت الحركة بصورة شبه كاملة على تبرعات عدد محدود للغاية من القيادات، وكانت تلك تكلفة عالية. اشتراكات العضوية بالمقابل مثلت نسبة محدودة، ربما لأن نموذج الحزب الممول من عضويته ليس شائعاً. لكن الضعف في تحصيل الاشتراكات لم يكن كله بسبب النظرة للحزب باعتباره ممولا للأعضاء وليس العكس، ولكن بسب الإخفاق في أداء المكتب التنفيذي في هذه المهمة ومهمات أخرى. برغم كل العنت الذي واجهناه في مسألة التمويل فإن المحصلة الأخيرة تعد إنجازاً إذا ما قارنّا بين حجم النشاط في العام المنصرم وقلة الموارد المادية. ما يدعو للتفاؤل هو أن فهماً صحيحاً بدأ يترسخ يؤكد أن الاعتماد على العضوية في تحصيل الاشتراكات سيسود، بينما ستخفض نسبة الإنفاق العام للحركة، وهذا مبدأ إصلاحي أساسي يجب الالتزام به داخل الحركة قبل المناداة بتطبيقه في دواوين الحكومة والمؤسسات العامة. موجهات المستقبل : تحالف الأفكار والأخلاق. ما يميز الأفكار هو نفوذها وسلطانها على النفوس وقابليتها للاستدامة والتطور المستمر. فإذا اجتمعت إلى قوة الفكرة قوة الأساس الخلقي والقيمي، تفجرت طاقة مضاعفة ذات تأثير دائب. ما بقيت الحركة مورداً للأفكار والمبادرات السياسية فإن قوتها وتأثيرها سيبقيان بل يزيدان. وهذا جانب حميد للصفوية حين تفتؤ تثمر بدائل تجدد بها الحياة من خلال مكابدة فكرية مستمرة. الحركة كتلة سياسية حية ونشطة تعمل باستمرار من أجل توليد مبادراتها وطرحها في الساحة. لكن الأفكار لا تغني إذا انعدمت المصداقية. وعلى الحركة ليس فقط أن تتحرى البعد الأخلاقي في خطابها، بل يجب أن يكون ذلك سمة سلوك قادتها وأفرادها مهما شقّ الطريق إلى تلك الغاية وعلا. ينبغي أن نتذكر دائما أن من أهم وظائف الحركة السياسية، إضافة إلى تثمير الأفكار وتفريعها، هو استيلاد القيادات الموثوقة في المجتمع. على الحركة أن تسعى بأقوالها وأفعالها من أجل أن تتغلغل الطبائع الإصلاحية في تكوين المجتمع الثقافي. قوة التنظيم في مرونته وفاعليته. الركيزة الثانية المهمة لنجاح أي حراك إنساني، أياً كانت رسالته، هي قوة التنظيم الحامل لتلك الرسالة. وبخلاف ما قد يظن البعض فإن القوة لا تتأتى من الحشد والعدد، بل إن الحشد قد يؤدي إلى الترهل والتآكل من الأطراف، بل الانقسام في المركز. الأجدى هو أن تبني الحركة جسوراً مع المجتمع وأن تبني أوعية مرنة تستوعب كل الفئات، وأن يكون تنظيمها قادراً على البقاء في كل الظروف. وإذا عدنا إلى جدلية التيار العام والحزب، يمكن القول إن التنظيم الفاعل هو الذي يحمل رأس حزب وجسد تيار. قد تكون هذه معادلة صعبة لكنها جديرة بالاتباع. ينبغي في المرحلة المقبلة بناء تنظيم قيادي رشيق ومرن على مستوى ولايات السودان وبين السودانيين في الخارج ووسط الفئات المختلفة، وأن يكون قادراً على التواصل الإنساني من خلال تشكيلات قاعدية متعددة. ذلك أحرى أن يقنع الآخرين بجدوى أطروحاته وبإمكان نجاحها، فلا شيء يقنع الآخرين باتباع نموذج ما مثل نجاحه. العلاقات البنّاءة مع القوى السياسية المنظمة والقوى الشعبية عموماً. من مكتسبات الحركة خلال تجربتها القصيرة في الاثني عشرة شهراً المنصرمة إقامة علاقات منتجة مع كل القوى السياسية في المجتمع، حتى التي تحمل رؤى سياسية مخالفة أو مناوئة. ضمن أسباب نجاح هذه السياسة هي المرونة في التعاطي مع القوى الأخرى والبحث الدائب عن القواسم لمشتركة والأهداف الجامعة وإن قلت. بهذا تمكنت الحركة من الاصطفاف مع القوى الأخرى دون حاجة إلى تنظيم عضوي أو أي شكل اندماجي آخر. تلك الصيغة الاستقلالية للتعاون والتضامن أسهمت في تجنب الخلافات التي تقلل من فاعلية التشكيلات المعارضة وتغريها بالخلاف والصراع على الألقاب ولمناصب وتنسيها مهمتها الأصلية التي قامت من أجلها. يجب ألا يصرفنا الاستغراق في الحديث عن مزايا التضامن مع القوى السياسية المنظمة عن حقيقة مهمة وهي أن القوة الأكبر والطاقة الجبارة هي المتراكمة في القاع، أكثرها بغير نظام أو تنظيم، إنها ينابيع القوة المتعددة في مجتمع متوثب. وبينما يحق أن تستمر العلاقات مع القوى السياسية المنظمة، بل تتقوى، يجب التواصل مع أبنية القوة الشعبية المنظمة وغير المنظمة التي يمثلها المجتمع المدني. الخطاب المناسب في مكانه المناسب. ينظر أفراد الجمهور بريبة إلى الخطاب الصفوي، ليس فقط لأنهم ملوا سماعه، ولكن لأنهم يئسوا من قدرته على تقديم حلول عملية لمشكلاتهم. وستبقى مهمة الربط الوثيق والمقنع بين القواعد الفكرية والأخلاقية الأساسية لقضية ما ومشروعية المطالب الإنسانية البسيطة والبدهية المستحقة لأية فئة من الناس مهمة صعبة لكنها ضرورية. وسريعاً ما سنكتشف أن اللغة المبسطة التي تحمل تلك المعاني للجماهير واحدة من أصعب المطالب. إضافة إلى ذلك يجب أن تعنى الحركة بقضايا الهامش وبالتعبير عنها بلغة بناءة، بعيداً عن الخطاب التجريمي الحاد المتبادل الآن. الحركة الحاضنة. كما أشرنا سابقاً، فإن كثيراً من المشكلات التي واجهت الحركة يعود سببه إلى الطريقة السريعة التي تشكلت بها، دون أن تمر بطور الحضانة. ورغم أن نسبة كبيرة من عضوية الحركة لهم تجارب حزبية سابقة، إلا أن خلفياتهم وخبراتهم داخل تلك التنظيمات الحزبية كانت متباينة. الجميع حملوا أملا ووعدا مشتركا بالإصلاح لكنهم عبروا عن ذلك بطرائق متباينة وأحياناً بمفاهيم ومصطلحات متباينة. الحاضنة ليست تشكيلا تنظيميا ولا مستوى إداريا خفياً كما في بعض تجارب الأحزاب العقائدية. وليست حظيرة مقفولة لمجموعة تستمد منها مشروعية خاصة. الحاضنة هي الحركة نفسها حين تعنى بالبناء الفكري والأخلاقي والسياسي وفق قيم الإصلاح، مع اهتمام خاص بالفئات الاجتماعية بأصنافها. كل ذلك ضمن الأطر التي تنشؤها حركة الإصلاح: تشجع الأفكار والمبادرات وتنسق المفاهيم والمصطلحات وتعمق الفهم لها والعمل بمقتضاها. الحاضنة هي مجموعة ممارسات ومفاهيم يتشربها من ينتمي إلى حركة الإصلاح وتترسخ في تكوينه العضوي والفكري حتى يصبح معبرا أصيلا عن قيمها ومبادئها وأهدافها. الحاضنة تضمن بقاء الفكرة ونقاءها وتطورها بعد ان يغادر المؤسسون الساحة. الاستثمار في ثورة التقانة. يجب تطويع التقانة وتوظيفها لإحداث أكبر تأثير ووقع في المجتمع. تؤكد الحاجة لهذا المطلب المعادلة الصعبة بين محدودية الإمكانات المادية وطموح أهداف الحركة. مطلوب مزيد من الاعتماد على التقانة في نقل المعلومات والأفكار والتواصل والجتماعي. بل هناك إمكانات واسعة لإنشاء تنظيمات افتراضية متعددة ومنصات إعلامية إسفيرية تعوض قصور الأداء عبر الوسائل التقليدية. مضاعفة الجهود من أجل التمويل النظيف. التمويل المادي من أهم أسباب القوة ومحددات النجاح. وتمكن الحركة من أن تقدم نموذجاً عملياً ناجحاً رهن بقدرتها على توفير الموارد المادية. لقد نجحت الحركة حتى الآن في المحافظة على استقلاليتها بسبب اعتمادها على التمويل الذاتي مع التخفيض المستمر لنفقات عملها. يجب الاستمرار في هذه السياسة ومحاربة الثقافة السائدة التي تعتبر الحزب مورداً من موارد الدخل والتكسب لعضوية انتفاعية. يجب تأكيد العكس وهو أن الحزب، باعتباره مشروعاً وطنياً، يتلقى من منتسبيه أكثر مما يمنحهم. ويجب في الحد الأدنى تثبيت مبدأ العطاء بأن تكون المساهمة الشهرية إلزامية للأعضاء حسب استطاعتهم وأن يكون ذلك من شروط اكتساب العضوية واستمرارها. ولا ينفي ذلك جواز تثمير أموال محدودة بما يكسب الولاية أو المؤسسة قدرا من الاستقلالية في الموارد المالية، وفق ضوابط التعامل مع المال العام. بعض معالم طريق. بناء على هذا الاستعراض لتجربة عام واحد للحركة يحسن بنا وضع بعض معالم الطريق الأساسية للعام المقبل. وهذا مما يجب أن يتداول حوله المجتمعون في هذا اللقاء. ونبتدر المساهمة ببعض المقترحات المفتوحة للزيادة، وهي: أولاً: البدء في إعادة بناء الحركة داخل السودان وخارجه بالمعايير التجديدية الموصوفة في وثيقة التأسيس، وبما يحقق دفعاً وانتشاراً واسعين (رأس كالحزب وجسد كالتيار). ثانياً: اكتساب عدد يحدده هذا الاجتماع من القياديين ذوي الخبرات المتنوعة في شتى الصعد في غضون الاثني عشر شهراً القادمة ثالثاً: البدء في تجديد القيادات العليا بعد عام من الآن رابعاً: انعقاد المؤتمر العام في غضون الاثني عشر شهراً القادمة خامساً: إعادة تقويم هذه الأهداف بعد ستة أشهر من الآن أخيراً يجدر بنا أن نجدد القول أن الإصلاح ليس دعوة محتكرة لنا أو لغيرنا. نحن فقط دعاة له لا نرجوا مكافأة ولا استحقاقاً خاصاً مقابل ذلك. نحن حركة وعي عام تسعى إلى إصلاح الثقافة والممارسة السياسية بما يقيم دولة عادلة وفاعلة ونظاماً سياسياً حراً في وطن يسع الجميع. ويشرفنا أن تلتقي أهدافنا مع كل القوى السياسية وأن نتعاون معها لترسيخ الدعوة للإصلاح. ومن الواجب في هذه المناسبة أن نجدد التعبير عن إيماننا بأن الإصلاح يمضي بسنن طبيعية تدفعه نحو الغلبة والانتصار النهائي يوماً بعد يوم. وسيفاجأ الذين يعبثون بقضية الإصلاح عبر الحوار الوطني أن الإصلاح مصير لا حيدة عنه. فالتغيير الإيجابي نحو الإصلاح يمضي أصلا بسنن الاندفاع في مجرى النهر العميق. يمضي بالتعليم، وبانتشار الوعي، وبتطور التقانة، وبحقائق العولمة، وبتفتق عبقريات المجتمع في المقاومة والإبداع. والقوى التي تضع نفسها في معترض هذا السيل ستخسر المعركة، اليوم على طريقة التجزئة، وغداً قريباً لا شك ستخسر المعركة الكبرى على طريقة الإجمال. يومها، سيصبح الأهم الذي يشغل المجتمع السياسي هو إدارة التغيير وليس صناعة التغيير، لأن صبح الإصلاح الحق سيكون قد تنفس. حركة الإصلاح الآن اجتماع مجلس الشورى – الخرطوم السبت، 9 مايو، 2015.