ما من عنزين يمكن أن ينتطحا على حقيقة أن مصائر البشر هي آخر ما كان يهمّ القذافي في صراعات السِّياسة وتضاعيفها، سواء المحليَّة، أو الإقليميَّة، أو الدَّوليَّة. لذا، عندما أطلق تحذيره الشَّهير، عام 2011م، وتحديداً في عقابيل اندلاع الثَّورة الليبيَّة، من الأفواج الهائلة من الميليشيات واللاجئين الذين قال إنهم سيجتاحون إلى أوروبَّا، وسيحوِّلون المتوسِّط إلى «بحر من الفوضى»، مزكِّياً نظامه بوصفه «المستقر الضَّامن للأمن»، إنَّما كان يبتزّ القوى العظمى، ودول الغرب عموماً، لتجييرها لصفِّه في مواجهة خصومه، بأكثر مِمَّا كان يمارس قراءة سياسيَّة موضوعيَّة ومسؤولة للأحوال، والأحداث، وعواقبها على النَّاس، مواطنين أو أجانب. لكن، مهما يكن من أمر، فإن واقع الحال يشهد، اليوم، «قوارب الموت» تمخر المتوسِّط، و«شاحنات الجثث» تعبر الحدود، ناقلة إلى أوروبا، فيما يشبه اللعنة تحلّ بالمستعمرين السَّابقين، عشرات الآلاف من «لاجئي اليأس» الأفارقة والآسيويين وغيرهم، خصوصاً السّوريِّين مؤخَّراً، والذين لا يصل سوى أقلهم، بينما تتقاسم جبال الموج والحيتان ابتلاع أكثرهم، أو تلفظ بقاياهم على السَّواحل القصيَّات قوتاً للجَّوارح الناعقة، إن تبقَّت منهم بقايا أصلاً. وبحسب مفوضية الأمم المتَّحدة العليا لشؤون اللاجئين فقد وصل إلى أوروبا، عبر المتوسط، خلال النِّصف المنقضي، فقط، من هذا العام قرابة ربع المليون لاجئ ومهاجر، شكَّل السّوريّون وحدهم نسبة 34% منهم، بينما ابتلع البحر 2100 شخص، علماً بأن معظم من وصلوا أو من قضوا نحبهم لم يكونوا مهاجرين لأسباب اقتصاديَّة، بل كانوا فارِّين من حرب أو اضطهاد. غير أن أوروبَّا لا تكفّ عن الجَّأر بالشَّكوى من عجزها عن استيعاب مَن يبلغون حدودها، رغم أن حنجرة ديمتريس أفراموبولوس، المفوض الأوروبِّي لشؤون الهجرة، بحَّت من كثرة الدَّعوة لاستقبال تدفّقاتهم الهائلة «بشكل حضاري ولائق»، معبِّراً عن أن العالم يواجه، الآن، «أسوأ أزمة لاجئين منذ الحرب العالميَّة الثانية» (وكالات، 31 أغسطس 2015م). ويوم الخميس قبل الماضي، 27 أغسطس/آب، انعقدت «قمَّة غرب البلقان 2015م» التي كان مخططاً لها أن تبحث قضايا التَّعاون في المنطقة، لولا أن اكتشاف جثث 70 سوريَّاً، يوم الأربعاء 26 أغسطس/آب، داخل ثلاجة شاحنة لنقل الدَّجاج، قلب الأجندة لتسيطر عليها أزمة اللاجئين والمهاجرين غير الشَّرعيين، كون «طريق غرب البلقان» بات البوَّابة الرَّئيسية للتَّسلل إلى أوروبا، يعبره عشرات الآلاف من المهاجرين، معظمهم من السّوريِّين، زحفاً من تحت الأسلاك الشَّائكة، أو اقتحاماً للقطارات، والحافلات، وما إلى ذلك (فرانس برس، 27 أغسطس/آب 2015م). وفي مؤتمر صحفي مشترك، على هامش القمَّة، حول الشَّاحنة التي وُجدت متوقفة عند الحدود مع المجر، على بعد كيلومتر واحد من العاصمة النِّمساويَّة، قال فرنر فايمان، رئيس الوزراء النِّمساوي «إن من الصَّعب التَّعرّف إلى الجّثث لتعفّنها»، واعتبرت أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانيَّة، الحادث المروِّع «تحذيراً من مشكلة اللاجئين»، وأكدت جوهانا ليتنر، وزيرة الخارجيَّة النِّمساويَّة أنهم سيجرون تعديلات قانونيَّة لمكافحة تهريب البشر. وكانت وسائل إعلام نمساوية قد حدَّدت أن اللاجئين سوريّون، وأن بينهم نساءً وأطفالاً، وأنهم ماتوا اختناقاً، بينما شكَّكت الشّرطة النِّمساويَّة في إمكانيَّة التَّأكّد مِمَّا إنْ كانوا قد اختنقوا أم لا، وأفادت بأنها تجري تحقيقاً حول دخول الشَّاحنة من المجر، وحول المهرِّبين، وعملية التَّهريب. لكن صحيفة عربيَّة علقت قائلة، بحق، إن كلَّ هذه التَّفاصيل تبقى ثانويَّة أمام الواقع المُرِّ الذي يجبر السّوريِّين على الهروب من الدَّمار والحرب والقتل، ليلقوا حتفهم على الحدود البريَّة مع دول عربيَّة ترفض استقبالهم، أو في مياه البحر المتوسط، محاصرين بين الحكومات و«داعش» (القدس العربي، 27 أغسطس/آب 2015م). وإذاً، فإن الرِّوائي الفلسطيني الشَّهيد غسَّان كنفاني لم يكن يمارس ضرباً من اللهو الأدبي بخيال مجنَّح عندما أصدر في بيروت، عام 1963م، بعد مرور نحو خمسة عشر عاماً على نكبة 1948م التي أضحت عنواناً لضياع فلسطين، وقبل نيِّف وخمسين عاماً من حادثة مقتل السّوريِّين السَّبعين مجمَّدين في ثلاجة الدَّجاج النِّمساويَّة، كأثر من ضياع الإنسان العربي، روايته العبقريَّة الأولى «رجالٌ في الشَّمس»، عن مقتل ثلاثة فلسطينيِّين اختناقاً داخل خزان لنقل المياه تصليه حرارة الشَّمس، على الطريق الصَّحراوي، بلهيبها الفتَّاك، وقد جعل كنفاني محورها سؤاله الفلسفي: «لِمَ، يا ترى، لَمْ يدقّوا على جدار الخزَّان»؟! ثمَّ أعقب روايته تلك بروايتيه البديعتين الأخريين «ما تبقى لكم» و«عائد إلى حيفا»، عاكساً بذلك ملامح رؤيته لتطوّر شخصيَّة الفلسطيني من «لاجئ»، إلى «فدائي»، إلى «ثائر»؛ وعاكساً، في الوقت نفسه، حالَ لم تتلازم مع هذه الرؤية خطة ل «تثوير» الواقع بنفس القدر، ملامح توجّسه من مستقبل المنطقة العربيَّة بأسرها، والإنسان العربي في قلبها، لا الأرض الفلسطينيَّة فقط، أو الإنسان الفلسطيني فحسب. في «رجال في الشَّمس» يعرِّي كنفاني شخصيَّة أبو الخيزران، القيادي الانتهازي الذي لا يكفّ عن اللغو بحديث فارغ عن «الجّموع»، و«الآخرين»، و«الجَّماهير»، بينما سعيه الحقيقي متوجِّه، فحسب، نحو تحقيق مجده الشَّخصي، ولو بمحض الحكايات الملفقة! فأبو الخيزران، سائق الشَّاحنة حاملة خزَّان الماء، اتَّفق مع الرِّجال الثَّلاثة على نقلهم من العراق إلى الكويت، وفق خطة فحواها أن يقبع اثنان منهم فوق سطح الخزَّان، ويبقى الثَّالث إلى جانبه بقمرة القيادة، ثمَّ يتبادلون المواقع بحيث يهبط مَن عليه الدَّور ليجلس إلى جانبه، ويصعد مَن يجلس بجانبه إلى سطح الخزَّان، بينما الشَّمس فرن معلق يتتبَّع الشَّاحنة، مصلتاً لهيبه القاتل عليها. وقبل نقطة الحدود بخمسين متراً يدخل ثلاثتهم الخزان، حسب الخطة، ريثما ينهي أبو الخيزران إجراءات العبور، على ألا يستغرق ذلك أكثر من سبع دقائق ينطلق، بعدها، إلى حيث يخرجهم على مسافة خمسين متراً أخرى. لكن أبو الخيزران يستغرق في نسج مغامرات كاذبة يرويها لموظف نقطة الحدود العابث عن غزواته الجِّنسيَّة الخياليَّة مع إحدى الرَّاقصات المشهورات، ناسياً الرِّجال الثَّلاثة داخل الخزَّان، ليتسبَّب ب «فحولته الملفقة» تلك في موت ثلاثتهم اختناقاً. على كثرة حكايات الدياسبورا والمنافي، إلا أن حادثة السّوريين السَّبعين الذين قضوا، في منتصف العقد الثاني من الألفيَّة الثَّالثة، في محاولة فاشلة لتهريبهم من المجر إلى النِّمسا، داخل ثلاجة شاحنة لنقل الدَّجاج المجمَّد، أعادت إلى ذاكرة الكثيرين، وبقوَّة، رواية كنفاني عن الفلسطينيِّين الثلاثة الذين قضوا، عقب نكبة 1948م، في محاولة فاشلة لتهريبهم من العراق إلى الكويت، داخل خزان لنقل الماء «لم يدقّوا على جداره»، بينما الشَّمس تصلي الخزَّان بلهيبها طوال الطريق الصَّحراوي! لكن القادة الأوروبيِّين لم يكشفوا، في مؤتمرهم الصَّحفي ذاك، عن فحوى الأكاذيب التي ربَّما ذهب «قائد» الشَّاحنة الثَّلاجة يحكيها لموظف حدود عابث بين المجر والنِّمسا، ناسياً، في غمرة نشوته بتلفيقاته تلك، السّوريين السَّبعين يتجمَّدون داخل ثلاجة الدَّجاج؟!