محمد وداعة: الجنجويدي التشادى .. الأمين الدودو خاطري    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    دبابيس ودالشريف    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لو فجر المهدي ثورة سياسية وليس دينية لأسس سودانًا قوياً موحداً 3 - 4
نشر في الراكوبة يوم 29 - 03 - 2013

خلصت في الحلقتين السابقتين إلى إن الحكم الوطني فشل ولم يكن بالقدر الذي يلبى طموحات سودان ما بعد الاستقلال وكان دون التحديات التي وجد الوطن نفسه فيها بعد أن حملت له الصدفة الاستقلال الذي لم يكن واردا في قاموس القوى الوطنية الأمر الذي غيب عن هذه القوى إستراتيجية المرحلة التي يتطلبها الوطن في حالة الاستقلال لحسم كل تعقيداته الوطنية ولكن أصبح الصراع من اجل السلطة البديلة للاستعمار هو هم القوى السياسية حتى اليوم فهو الذي شكل ولا يزال البنية الأساسية لأحزاب (وطنية اسما) دون طموح وطن ممزق الأوصال وهذا ما يتحمل مسئوليته الأكبر الحزبان (الأمة والاتحادي) أو بتعبير أدق (المهدية والختمية) اللذان تسلما أمر الوطن في اخطر مراحله السياسية .لأنهما اللذان أضاعا فرصة إعادة بنائه كما إن الطائفية والعقائدية (يسارية أو إسلامية)بكل مسمياتها والعسكر واصلوا مشوار التدمير لوطن بات تحت قبضة المتآمرين عليه من الخارج حيث شكلوا ولا يزالون يشكلون حائطا يحول دون بناء حكم وطني يقوم على ديمقراطية لبرالية قوامها مؤسسات حزبية تؤسس لدولة موحدة تتساوى فيها كل الجهويات والعنصريات والأديان ويعود فيها الجيش لثكناته كما كان قبل انقلاب نوفمبر ولا أدرى هل إرادة القوى السياسية بدءا من أول حكومة وطنية نهاية بحكم الإنقاذ الذي هيأ السودان لبلوغه نهاية السيناريو على طريق التمزق بسبب الأخطاء التاريخية للحكم الوطني من بداياته. هل ستحقق هذه القوى المقولة المنسوبة لغردون باشا التي أطلقها عندما قال:
SUDAN IS HOPELESS COUNTRY AND WILL NEVER REMAIN
(السودان دولة لا أمل فيها ولن يبقى ) وهاهو السودان يمضى في الطريق الذي (بشر به )غردون بعد أن أصبح تحت قبضة قوى عالمية تقوم إستراتيجيتها على تمزيقه وتقسيمه ساعده على ذلك الإنقاذ والقوى المعارضة ممثلة في التجمع الوطني يوم لم يتفقا إلا على رهنه للمصالح الغربية عندما انصاعا لسياسات ورغبة المتآمرين على وحدة السودان وتسابقا على كسب ود أمريكا الإنقاذ حتى لا يفقد الحكم والتجمع الذي كان يطمع في دعمها له ليعود للسلطة بالقوة ومن الخارج وهذا من المواضيع التي سأعود لها بتفصيل في حلقة قادمة لأهميتها.
فالسودان في بداية مشواره مع الحكم الوطني بعد الاستقلال لم يكن يعرف غير حزبين (الأمة والوطني الاتحادي) كقوة مؤثرة في فترة الاستعمار وهما اللذان ورثا الحكم منه ولم يكن بجانبهم وقتها إلا الجبهة المعادية للاستعمار وهو تنظيم شيوعي وليس له أي تأثير في الساحة السياسية وقتها كما كانت هناك أحزاب صغيرة تدعو للاستقلال بلا أي تبعية لطرفي الحكم الثنائي وهما الحزب الجمهوري وحزب الاستقلال للسيد ميرغني حمزة وكلها أحزاب لا نفوذ لها ولم يكن لها وجود في أول برلمان يتولى تقرير مصيره.
لهذا قلت انه لا بد من وقفة خاصة مع هذين الحزبين اللذان يتحملان ما لحق بالسودان من تدمير وان كنت اعلم إن الحديث عنهما بشفافية تامة سوف يثير الكثير من ردود الفعل ولكن يبقى واجبنا أن نتناول الحقائقبشفافية حتى تتحدث عن نفسها بعيدا عن العواطف وتضخيم الذات والانتماءات حتى نستخلص من التاريخ العبر من اجل وطن أضاعه الحزبان اللذان هيمنا عليه في أهم وأحرج المراحل التاريخية حتى نقف على موطن العلة إذا كان للسودان أن يلتقي شعبه على كلمة سواء تعيد النظر في مؤسسية الحكم جذريا وبصورة تتراضى عليها كل الأطراف إذا قبلت مبدأ النقد الذاتي لذاتها وكما قلت في الحلقة السابقة فان الظروف الموضوعية هي التي أعجزت هذين الحزبين عن الارتفاع لمستوى المرحلة التي قبضوا على مفاتيحها لهذا لابد أن نقف أولا على الظروف الموضوعية التي أعجزت الحزبين عن تلبية الطرح الوطني لأهم مراحله التاريخية.
ولكن وقبل أن أتناول بتفصيل نشأة الحزبين والظروف التي أحاطت بهذه النشأة والتي وقفت وراء الدور السالب للحزبين ومسئوليتهما عن ما لحق بالسودان الوطن ولا يزالا يلحقانه به لابد من وقفة مع أهم حدثين عرفهما السودان في مواجهة الاستعمار لها ارتباط مباشر بالأحداث التي شهدها السودان بعد ذلك كما انه لابد من وقفة مع هذه الظاهرة التي تحتاج لمن يفك شفراتها والتي لا أظن إن العالم شهد أو سيشهد مثلها فاستعمار السودان كان غريبا في فحواه حيث إن السودان كان أولا مستعمرة لمصر التي كانت تحت قبضة بقايا الحكم التركي ونظامه الملكي والتي تخضع في ذات الوقت للاستعمار الانجليزي ولما حسم الانجليز ثورة المهدي في معركة كرري أصبح السودان خاضعا لما سمى حسب الاتفاق بين المستعمر بفتح التاء والمستعمر بكسر التاء فيما عرف قانونا بالحكم الثنائي والذي سبقه تعيين غردون حاكما للسودان في 1877-1878 من حكام مصر والذي تم اغتياله على يد الثورة المهدية بقيادة زعيم الثورة المهدية محمد احمد المهدي لتنقلب الأوضاع بعد وفاته وغزو جيش كتشنر للسودان وحسم الثورة المهدية في معركة كرري والتي هزم فيها جيش الخليفة عبالله التعايشي لحساب انجلترا فى1898-1899. والتي سقط فيها آلاف الضحايا وعلى رأسهم الخليفة نفسه.
هذه الظاهرة بتداعياتها هي التي أفرخت طائفة المهدية التي تحولت لحزب الأمة والتي أصبحت واحدة من القوتين السالبتين في تاريخ السياسة السودانية وتأتى المفارقة هنا إن هذا الحزب انهزمت ثورته أمام الانجليز أصبح الحليف الأساسي لهم لتزداد الأمور غرابة .
تحت هذه الخلفية انتهى السودان لان يتحول لمستعمرة لحكم ثنائي مصري انجليزي في مظهره ومسماه وانجليزي في واقعه بعدان ورث الحكم الثنائي السودان كمستعمرة بعد دحر المهدية للاستعمار المصري .
لهذه الخلفية ارتباط هام بالحدثين اللذان صاغا الحزبين موضوع هذه الحلقة.
فالحدث الأول كان فى هذه الثورة التي فجرها الإمام محمد احمد المهدي والتي حولت في تقديري الخاص مسار القضية السودانية ليس لأنها ولدت حزبا طائفيا (حزب الأمة) الذي لعب ولا يزال يلعب دورا سالبا فى السودان ولكن لان هذه الثورة التي فجرها المهدي في وجه الاستعمار لو كانت يومها ثورة سياسية بأفق ورؤى وطنية تتوافق مع ظروف السودان وطبيعة تكوينه من عنصريات وجهويات وقبليات واديان مختلفة ولم تكن ثورة دينية المحتوى لحققت هذه الثورة ما تقتضيه المرحلة ولنجحت في صياغة سودان موحد يتعايش فيه أبناؤه بمختلف انتماءاتهم الدينية والعنصرية حيث ان السودان لم يكن إلا أشتات دويلات متباينة في العنصر واللون والدين والذين جمعتهم مطامع مصر اداريا تحت قبضة الاستعمار ولم يكن يجمع بينها أي ارتباط عضوى يحقق دولة مواطنة تقوم على الإحساس بالانتماء لدولة ولكن الثورة المهدية عندما انطلقت كانت ثورة دينية ذات رؤية وعين واحدة قاصرة على المنتمين للإسلام وهم عنصر واحد لهذا لم يكن متاحا لهذه الثورة أن تجمع هذا الشتات حولها بالرغم من إن المهدي اقتحم بثورته كردفان ودارفور إلا انه كان اقتحاما تحت الإطار الديني فخسرت ما كان بيدها أن تحققه لو إنها كانت ثورة ذات رؤية سياسية تستهدف توحيد السودانيين بمختلف هوياتهم وعنصرياتهم وأديانهم في مواجه الاستعمار كعدو مشترك لهذا فإنها أخفقت في هذا بسبب الطرح الذي تبنته والذي يفترض أن نستوعب منه الدرس وهو ما لم نفعله حتى اليوم ويا ليتنا نفعله الآن فلو إن تلك الثورة يومها استهدفت توحيد كل المتضررين من الاستعمار من سكان المناطق المتباينة عنصريا وجهوياً وقبليا ودينيا لكان السودان اليوم دولة موحدة ولما انفصل جنوبه ولما لجأت مناطق أخرى للحروب التي تتهدد وحدته اليوم تحت دعم المستهدفين تمزيق السودان.
ولكن ثورة المهدية على العكس من ذلك زرعت بذرة طائفة دينية لا تختلف في مضمونها عن الواقع الذي نعيشه اليوم تحت ظل الإنقاذ الذي يحول دون لملمة أطراف السودان بسبب طرحه الديني فلقد جاء نتاج ثورة المهدية أن تنشأ طائفة أصبحت قواما لواحد من اكبر حزبين يتحملان فشل الحكم الوطني في السودان مناصفة وسيظلان مصدرا لفشله لان هيمنة الطائفة على الأحزاب السياسية الكبيرة سيبقى من معوقات الحكم الوطني طالما إنها أحزاب شمولية تحكمها أسرة واحدة غير مؤهلة لان تكون حزبا مؤسسيا ديمقراطيا تحكمه قاعدته عبر مؤسسة ديمقراطية وليس حكرا لآسرة بالوراثة حتى يصبح جامعا لأشتات الوطن بكل تناقضاته.
أما الحدث الثاني ولا يقل غرابة وان كان أفضل كثيرا في المحتوى والمضمون فلقد تمثل في ثورة اللواء الأبيض سنة 1924 والتي شهدها السودان بمفهوم مختلف عن ثورة المهدية .فلقد كان قائد ثورة 24 أولاً من أبناء جنوب السودان وكان التنظيم جامعا للضباط من أشتات المناطق المختلفة وكانت طموحاته سودانا موحدا متعايشا من مختلف مناطقه وعنصرياته وجهويته وأديانه لبناء سودان جديد محل الدويلات المتعددة لهذا مخطئ من يظن إن فكرة السودان الجديد ولدت مع الحركة الشعبية بقيادة قرنق فلقد نبعت الفكرة منذ ثورة 24 يؤكد ذلك ما أدلى به رئيس الجمعية على عبداللطيف عند استجوبه من احد الضباط الانجليز عندما أراد أن يعرف منه القبيلة التي ينتمي إليها فكان رده معبرا عن السودان الذي نفتقده اليوم وهو يجيبه قائلا:
(لا يهمني إن كنت منتميا لهذه القبيلة أو تلك فكلنا سودانيين نعمل يدا واحدة من اجل تحرير بلدنا من سيطرتكم) ولا أدرى كيف سيكون حال على عبداللطيف لو انه كان حيا اليوم ليجد كيف تبدل الحال لتنزع عنه جنسيته التحى وهب حياته من اجلها بسبب انفصال الجنوب ولو إن نظرة ثورة 24 هذه سادت ثورة المهدية يومها لشهدنا سودانا غير سودان اليوم. وحزبا غير حزب الأمة اليوم ولكان حزبا قوميا جامعا لكل ألوان الطيف والأديان لو إن رؤية على عبداللطيف ورفاقه سادت الفكر السياسي للحزبين لكان السودان
دولة مستقرة إلا إن ثورة24 ارتبطت يومها مباشرة بمصر وعلى تنسيق مع قادتها تحت دعوى وحدة وادي النيل (وهكذا نبع الحديث عن هذه الوحدة) لان ثورتهم كانت عملا مشتركا مع المصريين وتحت مظلة أهداف مشتركة تم الاتفاق عليها بين الطرفين حيث كانت الدولتان تحت الاستعمار الانجليزي لهذا يمكن أن نتفهم الظروف التي قادتهم لهذا الموقف ولرفع شعار وحدة وادي النيل لإحساسهم وإدراكهم إن مصر نفسها مستعمرة للانجليز وأنها تطالب بجلاء الجيش الانجليزي عن أراضيها كما يطالب السودان بجلائه عن أرضه فكان طردهم من البلدين هدفا مشتركا هو الذي يوحد بين الموقفين لهذا لم يكن غريبا أن يتم التنسيق بين جمعية اللواء الأبيض والضباط المصريين في السودان وان يكون مسعاهم وحدة وادي النيل بل واهتداء قادة الجمعية في ثورتهم يومها بالقادة المصريين المناهضين لوجود الانجليز في مصر وعلى رأسهم احمد عرابي وسعد زغلول الذي قيل إن الثوار هتفوا بحياته لما احتلوا سجن كوبر.
تحت هذه الظروف كانت نشأة الحزبين موضوع هذه الحلقة وهما الوطني الاتحادي وحزب الأمة فكما إن الأخير نشأ تحت ظل طائفة جديدة لم يعرفها السودان فان الحزب الوطني الاتحادي نشأ امتدادا للعلاقة مع مصر تحت دعوة وحدة وادي النيل ولينشأ تحت رعاية طائفة الختمية الموالية والمرتبطة بمصر بل وتمتد جزرها لمصر حيث يوجد الفرع الأكبر لها حتى إن الشارع الذي يحمل اسم الميرغنى هو الشارع الأكبر في مصر بعد شارع السودان ولهذا نشأ هذا الحزب أكثر شعبية من حزب الأمة كما أكدت صناديق أول اقتراع عرفها السودان.
وما يستحق الوقفة أولا مع مولد ونشأة هذين الحزبين إنهما كانا ثمرة البذرة التي زرعها مؤتمر الخريجين في 1938والذى شارك فيه ما يقرب1800من مثقفا وخريجا كلية غردون ومع ذلك وبكل أسف وأقولها جادا بكل ما تحمله الكلمة من حسرة أن يكون نتاج مؤتمر المتعلمين والمثقفين نشأة حزبين تتقاسمها طائفتان كل منهما ملك خاص لبيت وأسرة واحدة تتوارثه كما ترث أي مبنى مملوك للأسرة مع إن قوام المؤتمر كان من متعلمي ومثقفي السودان إلا أنهم افتقدوا النظرة للمستقبل ووضح إن هذا القطاع الذي يفترض أن يكون صاحب نظرة مستقبلية أعمق إلا انه انساق وراء الدوافع الذاتية للتقرب من مراكز النفوذ التي تمثلت في زعماء الطائفتين بحثا عن السلطة وقد تأكد هذا المسلك بما ظل يشهده السودان من ارتباط وتهافت نفس القطاع على الأنظمة العسكرية و الدكتاتورية (التهافت نحو المؤتمر الوطني اليوم نموذجا والذي يعبر عنه اليوم إن أكثرية المؤتمر الوطني لم تعد من الإسلاميين) وبهذا لا يقل دور الخريجين والمتعلمين عن الدور التخريبي للطائفية فلقد كان غريباً أن تكون ثمرة مؤتمر الخريجين إن طائفتين أصبحتا القوى المهيمنة على اكبر حزبين سياسيين بالرغم من اختلاف الوضع نسبيا في الحزب الوطني الاتحادي الذي اختلف في بنيته عن حزب الأمة الذي كان ملكا خالصا لطائفة الأنصار التي ترجع في جذورها للثورة المهدية وان انتهى الوطني الاتحادي في نهاية الأمر لنفس المصير ملكاً خاصا لأسرة المراغنة الأمر الذي يؤكد قصر النظر لدى المؤتمرين الذين فشلوا فئ قراءة مستقبل الحكم الوطني تحت الطائفتين
حقيقة الحزب الوطني الاتحادي لم يكن ملكا خالصا لطائفة الختمية لوجود قوى وطنية غير طائفية شريكة فيه بل كانت الشريك الأقوى كما كشفت الأوضاع بعد ذلك إلا إن طائفة الختمية استولت عليه أخيراً ليصبح حزبا طائفيا كما هو حال حزب الأمة وهذا يحتاج لوقفة خاصة عند تناول شان هذا الحزب بالتفصيل وهو الحزب الذي ملك زمام الأمر بعد أن انحاز له الشعب عبر صناديق الاقتراع في أول انتخابات وطنية ومصيرية يشهدها السودان و الذي كان بيده أن يفعل الكثير لو
انه سلك الطريق الصحيح لهذا فانه يتحمل المسئولية الأكبر في الإخفاق الذي لازم الحكم الوطني,
ومع ذلك فالحزبين يتفقان في الكثير من الحيثيات التي ارتبطت بهما
1- فكلاهما أولاً نشأ تحت قبضة قوى أجنبية تمثلت في طرفي الاستعمار حيث كان حزب الأمة انجليزي اللون بينما الوطني الاتحادي مصرا المولد والانتماء.
2- كلاهما كان فاقدا لإرادته بحكم إن مصادر تمويله كانت بيد واحد من طرفي الاستعمار ولعلني بهذه المناسبة أورد حقيقة كشفت عنها المستندات التي أفرج عنها الانجليز بعد خمسين عاما وكان المرحوم بشير محمد سعيد قد حمل معه نسخة منها من لندن وجاء بها للقاهرة وكان يعد نفسه لتناولها في كتاب توثيقي لم تمهله الأيام ليخرجه للنور ويومها اطلعت شخصيا على بعضها بل كانت بيدي صور لبعضها ولكنها احترقت في شقة كنت اسكنها بالقاهرة والتي كشفت محتوياتها إن مسئولا كبيرا في حزب الأمة كان قد خاطب الحاكم العام طالبا من الحكومة الانجليزية دعم الحزب بالمال أسوة بمصر التي ذكر في خطابه إنها تمول الحزب الوطني الاتحادي وكانت تلك حقيقة إلا إن المستندات توضح بان الحكومة الانجليزية اعتذرت عن الطلب بحجة إن وزير المالية لا يملك أن يصرف من مال المملكة أي مبلغ فى غير الميزانية المخصصة له باعتبار إن المال مال المواطن دافع الضرائب ولكنهم أمام إلحاح الحزب ولاقتناعهم انه يستحق الدعم لموقفه لتحالفه معهم ضد ما أسموها مطامع مصر في السودان رأت الحكومة البريطانية إنها يمكن أن توفر لحزب الأمة الدعم بطريق غير مباشر عبر مشروعات النيل الأبيض الزراعية وغيرها من الوسائل غير المباشرة كعمل خاص وهكذا كان حال الحزبين يعتمدان على التمويل الخارجي لعدم وجود أي مصادر للتمويل.
3- الطائفتان انطلقتا من أن السلطة هي الهدف الأول والأخير ولا هدف غيره حتى أصبحت حكرا لهما يتبادلاها حسب الظروف حتى لو كانت عسكرية بانقلاب فان عسكر السلطة يقدمونها لهم في طبق من ذهب ليؤمنوا الاستمرار في الحكم تحت وهم إنهم هم القابضين على الشعب والجماهير وان كانت سلطة ديمقراطية ليبرالية فإنها لا تخرج عن هيمنة الحزبين اللذان أصبحا حكرا على الأسرة وملكا خاصا بهما والموالين لهما من زعماء القبائل وأصحاب المصالح الخاصة من المتطلعين للاستوزار وجني المال وما تعود به السلطة من مكاسب.
ومن اجل إنعاش الذاكرة فعلاقة الطائفتين قامت في ضربة البداية بالرعاية في عهد زعيمي الطائفتين السيدين على الميرغنى والسيد عبدالرحمن المهدى دون ان يقحما أبناء الأسرة في السلطة وكان كل منهما يعتمد على ولاء قيادات وطنية متجردة من غير ابنا ء الأسرة فشهد السودان في تلك الفترة الأزهري ورفاقه على رأس الحكومة من جانب الحزب الوطني الاتحادي وعبدالله خليل والمحجوب على جانب حزب الأمة ولما بدر من الحكام بوادر التمرد والاستقلالية عن الزعامة الطائفية بحكم قوة الشخصية التي يتمع بها هؤلاء القادة تخوفت الطائفتان من زوال هيمنتهما على الحزبين انقلب الزعيمان على أول حكومة وطنية حققها الحزب الوطني الاتحادي والتي سادتها يومها قوة وطنية لا تنتمي للطائفة تمثلت في الأزهري ورفاقه بالرغم من رعاية طائفة الختمية للحزب الوطني الاتحادي الأمر الذي تهدد نفوذ الطائفتين في السلطة حيث كان تكوين الحكومة يومها مؤشر لان يفقد زعيما الطائفتين هيمنتها على السلطة إذا خرجت الأحزاب عن قبضتها إذا ما قويت شوكة السلطة بعيدا عنهما والتي عبر عنها الحزب الوطني الاتحادي بمواقفه المستقلة عن الطائفة الراعية فقادت طائفة الختمية انقساما في الحزب الوطني الاتحادي لتنسلخ بشريحة من نوابه أفقدت الحزب الأغلبية التي تؤهله للحكم مع انها.لم تكن خاضعة للإشارة تحت زعامة الطائفة وعلى رأسها وقف الشيخ على عبدالرحمن ألامين والدكتور احمد السيد حمد ورفاقهم والذين لم يكونوا يوما من خلفاء الطائفة ولكنهم في حقيقة الأمر كانوا يمثلون القوى السياسية الأكثر ارتباطا بمصر في الحزب الوطني الاتحادي وإنهم مصنفون برجالات مصر وبصورة لا مواراة فيها لهذا فإنهم وبالرغم من أنهم لم يرفضوا التداعيات التحى أملت على الحزب الوطني الاتحادي أن يتراجع عن وحدة وادي النيل وإنهم أحنوا رؤؤسهم يومها للعاصفة إلا أنهم كانوا مجبرين لذلك الموقف إلا أنهم عندما تطور الأمر لنزاع بين حكومة الحزب ومصر خرج عن إطار العلاقات الجيدة بينهما عندما اشتعلت الحرب الكلامية الشهيرة بين قيادة الحكومة الوطنية والقيادات المصرية ممثلة في عضو المجلس العسكري المصري والمسئول عن ملف السودان صلاح سالم فلقد تهيأ هؤلاء القادة الموالين لمصر وليس لزعامة الطائفة التي يلتقون معها في الانحياز لمصر لهذا جاءت خطوتهم الانقسامية ليلتقي موقفهم مع مطامع الطائفة فكان انشقاق حزب الشعب الديمقراطي عن الحزب الوطني الاتحادي وليصبح الحزب المنقسم مواليا للطائفة وواجهة لها تحت الارتباط بمصر.
لهذا كان من الطبيعي أن ينتهي الأمر لتحالف بين الطائفتين رغم ما بينهما من تناقض في المصالح والرؤى السياسية في كل القضايا ليكونا حكومة ائتلافيه قوامها تحالف السيدين ليصبح الحكم طائفي لسد الطريق أمام أي تطورات سياسية تضعف من شانهما وتقوى من زعامة اللامنتمين للطائفة تحديدا الأزهري ورجالاته فكان تمزيق الحزب الوطني الاتحادي عملا مستهدفا جمع بين النقيضين في كل شئ إلا رغبتهما المشتركة في ألا يفقدا الهيمنة على الحزبين والسلطة لزعامة الأزهري
ولكن الواقع فرض نفسه ليؤكد لهما استحالة استمرار التحالف بينهما لما بينهما من تناقضات حتى بلغ درجة فض التحالف لاستحالة توحدهما في الرؤى حول القضايا الإستراتيجية التي لا يملك أي طرف منهما أن يتنازل عنها للطرف الثاني بسبب ارتباط كل منهما بطرف أجنبي له مصالح متضاربة لولاء طائفة المهدية للغرب والختمية لمصر وأصبح من المستحيل عليهما الاستمرار في شراكة السلطة بعد أن بلغ الخلاف نقطة اللا عودة بين حزب الشعب بقيادة الشيخ على عبدالرحمن وعبدالله خليل رئيس الوزراء عن حزب الأمة ولما أيقن زعيما الطائفتين إن قادة حزب الشعب غير الخاضعين للطائفة قرروا العودة للحزب الذين انشقوا عنه ليستعيدوا الأغلبية البرلمانية بعد أن هدأت الأحوال بين الحزب الوطني الاتحادي ومصر وما ستعنيه هذه العودة من خطر على مستقبل الطائفتين فسارع زعيم حزب الأمة عبدالله بك خليل بتوجيه قيادة الجيش للانقلاب على السلطة لسد الطريق عن عودة الحزب الوطني الاتحادي للحكم في توحده مع المنشقين عنه أو بتحالف حزبي معه لهذا وفى خطوة لم تكن مفاجئة بل تعبر عن المخطط لحماية الطائفتين من تصفية نفوذهما سارع زعيما الطائفتين فكانا أول من اصدر بيان التأييد لانقلاب الجيش واستلامه السلطة في 17 نوفمبر 58 وواد الديمقراطية مما يؤكد إن مصلحة الزعيمين التقت في تأييد سلطة العسكر حيث فضلا أن تذهب السلطة للجنرالات بدلا من أن تعود لقوى تكتب نهاية لهيمنتهما على الأوضاع السياسية وكان السيد محمد احمد محجوب القيادي غير الطائفي في حزب الأمة قد عبر عن هذا الموقف في كتابه الطريق للبرلمان عندما أعلن فيه إن بيان السيدين الذي سارعا بإعلانه تأييداً للانقلاب فوراً اصدرا البيان العسكري باستيلاء الجيش على السلطة والذي واد بالديمقراطية فوصفه بأنه اكبر كارثة حلت بالديمقراطية فئ السودان وصدق ما توقعه ليس لان العسكر اقتحموا السلطة فحسب ولكن لان الأوضاع سارت بعد ذلك لتؤكد هيمنة الطائفتين للحزبين فما شهده السودان بعد ذلك وحتى اليوم أدى لبسط الطائفتين هيمنتهما التامة على الحزبين وعلى مفاتيح الحكم حيث صدقت مقولة محمد احمد محجوب
فلقد شكلت فترة حكم العسكر الأولى مرحلة لتعيد الطائفتان ترتيب أوراقهما للهيمنة على القوى السياسية بإحكام قبضتهم على الحزبين في نهاية الأمر وهو ما تحقق لهما بالفعل ..
فلقد كانت ضربة البداية عندما قررت طائفة المهدية أن تضع حدا للرعاية وان تقدم أبنائها للسلطة لسد الطريق أمام أي تهديد لهم من قبل اى قيادات وطنية غير موالية للطائفية فكان إن أقدم السيد الصادق الصديق المهدي والذي لم يبلغ السن القانونية بعد عودة الديمقراطية بفعل ثورة أكتوبر التي وضعت نهاية لحم العسكر وأطاح بالسيد محمد احمد محجوب ذلك السياسي المميز والذي شارك الأزهري في رفع علم السودان والمهندس والقانوني الضليع صاحب الخبرة السياسية على مستوى العالم ليحكم الصادق قبضته على حزب الأمة ليشهد السودان رئيسا للوزراء من الأسرة الطائفية وفى أول عمل عام له في تاريخه بل ومنازعا حول الإمامة للطائفة وكان موقفه سبباً في تقسيم الحزب بإعلان حزب الأمة جناح الإمام الهادي والذي احتفظ بالمحجوب واجهة له فكان موقف الصادق مرحلة جديدة قدمت أبناء الأسرة للسلطة وليشهد السودان لأول مرة هيمنة أبناء الأسرة ولتصبح السلطة بعد ذلك هدفا لأبناء زعماء الطائفة وكانت ضربة البداية من بيت المهدي حيث تبعه من آل البيت السادة احمد المهدي ومبارك عبدالله الفاضل والصادق الهادي المهدي وكثيرون غيرهم وكانت تلك هي البذرة التي نقلت اكبر حزبين لبسط هيمنة أبناء الطائفتين على السلطة حيث إن طائفة الختمية لم تتخلف عن النهج الذي اختطه الصادق وحزب الأمة فسارت على نفس الدرب تحت قيادة السيد محمد عثمان الميرغنى الذي أحكم قبضته على الحزب الاتحادي الديمقراطي بمسماه الجديد بعد توحد الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي في الحزب الاتحادي الديمقراطي بعد انتفاضة ابريل ساعده على ذلك رحيل السيدين إسماعيل الأزهري والشريف حسين الهندي حيث دان الحزب لهيمنة السيد(الشهير ابوهاشم) وليعلو هتاف الحزب الموحد(عاش أبو هاشم) و(نحن نؤيد حزب السيد)وكانت ضربة البداية لاقتحام أسرة الختمية للسلطة أن يقدم الحزب لأول مرة في تاريخه السيد احمد الميرغنى لعضوية المكتب السياسي في نظام مايو العسكري مع السيد الصادق المهدي بعد المصالحة مع مايو ثم تسميته رئيسا للدولة في مجلس الرئاسة عقب انتفاضة ابريل في الحكومة الائتلافية التي ضمت لأول مرة الصادق المهدي رئيسا للوزراء واحمد الميرغنى رئيسا لمجلس رأس الدولة تأكيدا لقبضة آل البيتين لأول مرة على مفاتيح الحكم وليتحقق بهذا أحكام الطائفية قبضتها على الحزبين والسلطة حيث سارا على ذات النهج الذي مكن الطائفتين من بسط هيمنهما وبصورة مطلقة على اكبر حزبين ساعدهما على ذلك تكالب العسكر عند استيلائهم على السلطة على كسب ودهم حفاظا على السلطة وهاهو القصر الجمهوري تحت ظل الإنقاذ يفتح أبوابه لتمثيل البيتين حيث دخل القصر أبناء زعيمي الطائفتين السيدان عبدالرحمن الصادق المهدي وجعفر الصادق محمد عثمان الميرغنى مساعدين لرئيس الجمهورية ولعل المفارقة هنا التي تكشف عن طبيعة تعامل البيتين مع السلطة ففي الوقت الذي يمثل الحزبان في المعارضة يدخل القصر مساعدين لرئيس الجمهورية أبناء زعيمي الطائفتين الذين لم يسمع بهما احد في العمل العام ناهيك أن يكون في مجال السياسة وليكون أول ظهور لهما رأس الدولة فهل يمكن أن يتحقق هذا لأي مواطن لولا إنهما أبناء زعيمي الطائفتين وكلاهما لم يسمع بهما احد في السياسة أو حتى العمل العام حتى على مستوى مؤسسات التعليم أو النقابات ولكن يكفى إنهما من البيت ومن المرشحين لوراثة زعامة الطائفتين – بعد عمر طويل- وهذا يكفى لتأهيلهما لأعلى مناصب الدولة تأكيدا لوجود الطائفتين في السلطة في أعلى مواقعها وفى ذات الوقت نجد الطائفتين في ساحة المعارضة (مريم ورباح الصادق نموذجا). واحسب إن كلاهما عند إعلانهما دخول القصر كان الخبر مصدر دهشة الشعب السوداني لأنه لم يسمع بهما إلا يوم اعتليا ارفع المناصب في الدولة فهل هناك أي معيار لفشل الحكم الوطني أكثر من هذا.
ولعلني بهذه المناسبة أشير لمقولة نسبت للسيد محمد عثمان الميرغنى تداولها الأوساط الاتحادية وتعبر عن الواقع حتى لو لم تصدر عنه حيث انه لما طلب منه بعض الحادبين على الطائفة من الخلفاء حرصا على قداسة موقفه كزعيم للطائفة أن ينأى بموقعه عن السياسة والحزب وان يقصر وجوده راعيا للحزب وكان هذا من مقترحات بعض الحادبين على لم شمل الاتحاديين عندما طرح مشروع هيئة دعم وتوحيد الحزب والتي عرفت يومها بجماعة دار المهندس والتي صاغت مشروعا يعود بموجبه السيد محمد عثمان الميرغنى راعيا للحزب كما كان والده وان ينأى أبناء الأسرة عن السلطة فكان إن حسم الأمر بان رد على من ناصحوه بأنه لن يرتكب الخطأ الذي ارتكبه والده عندما مكن الأزهري وترك له المجال مفتوحا ليصبح زعيما للحزب إشارة منه بان يبقى الحزب تحت سيطرة أبناء الأسرة حتى لا يفتح الباب لمن يرث الأزهري في زعامة الحزب خاصة وان لغة الإرث هي التي تسود الحزبين وبهذا امن على أن يصبح الحزب ورثة لأبناء الأسرة كما هو الحال في حزب الأمة وإلا يسمح بأي موقع في الحزب إلا لمن يخضعون له بالولاء المطلق وبصفة خاصة من الذين لا يملكون مؤهلات الزعامة.
ليعذرني القاري هنا إذا أوردت حديثا كنت احسبه يوم كتبته طرفة فى مطلع السبعينات عندما صدرت الصحف السودانية بمانشيت أول يترحم على روح طفل وليد للسيد احمد الميرغنى (له الرحمة) توفى عقب ولادته ويومها كتبت رسالة بجريدة الصحافة خاطبت فيها ابني وكان يومها في سنه الثانية وقلت له أعزيك وأبناء جيلك في رحيل من كان سيصبح رئيسكم بعد أربعين سنة لو مد الله في عمره وبالفعل ها هم أبناء زعماء الطائفتين وهم في سن ابني الذي تعدى الأربعين اليوم و أ صبحوا الآن رؤساء لابني بعد أن اخذوا مكانهم في القصر الجمهوري وهكذا كما ترون كيف أصبحت أبواب القصر والحكم سواء تحت الحكم الديمقراطي أو العسكر حكرا لأبناء البيت والذين أصبح متاحا لهم الجمع في نفس الوقت بين الحكم ومعارضته ليضمنوا وجودهم في زعامة المعارضة وفى القصر في نفس الوقت جنبا إلى جنب مع الذين يحملوا السلاح في وجه السلطة والذين يتنقلون غالى القصر عندما يبرموا اتفاقات برمي السلاح متى أرادوا حتى لم نعد نعرف هل الذين يحملون السلاح ويوقعون الاتفاقات هل هي للسلام ونبذ الحرب أم لدخول القصر الجمهوري والاستوزار بعد أن أصبح القصر موطنا لأبناء زعماء الطائفتين ولحاملي السلاح الذي يوافقون على نبذه ليصبحوا شركاء في السلطة لتكتمل بهذا مراسم تشييع الحكم الوطني حزبيا وعسكريا كان أو مدنيا حزبيا.فالأمر سواء في كل الحالتين.
4- لقد سبق حزب الأمة بمسماه هذا الحزب الوطني الاتحادي لأنه كما سبق وأوضحت في هذه الحلقة انه ولد من رحم الطائفة أما الحزب الوطني الاتحادي الذي تم مولده بعد عدة سنوات من حزب الأمة على يد السلطة العسكرية الانقلابية التي استولت على الحكم في مصر و التي أطاحت بالحكم الملكي حيث احتضن قادتها تحت زعامة اللواء محمد نجيب الذي كان مقبولا لأغلبية السودانيين احتضن اجتماعا في القاهرة عام 53لمجموعة من الأحزاب السياسية التي كانت تلتقي في رؤى واحدة تقوم على الارتباط بمصر وتدعو لوحدة وادي النيل وكان أهمها حزب الأشقاء وحزب الاتحاديين وحزب الأحرار الاتحاديين وحزب وادي النيل وغيرهم حيث تم تحت إشراف السلطة العسكرية المصرية توحيدهم في حزب واحد تراضوا على مسماه الحزب الوطني الاتحادي يتبنى وحدة وادي النيل في معركة تقرير المصير المرتقبة بعد أن ابرم طرفا الاستعمار اتفاقا يقضى بمنح السودان حقه في تقرير المصير ليصبح نقيضا لمنافسه حزب الأمة الرافض لهذه الوحدة والذي يتبنى الاستقلال وفق علاقة متميزة مع الانجليز صعدت من مطامع زعيم حزب الأمة بان ينصب ملكا تحت التاج البريطاني وهكذا كان مولد الحزب الوطني الاتحادي الذي كان اقرب إلى انه جبهة تضم مجموعة من الأحزاب لم يكن يجمع بينها إلا وحدة وادي النيل ولم تكن لها أي ب ى رؤى سياسية أو برامج تخرج عن هذا الإطار الذي اقتضاه بعد ذلك وبلا مقدمات لأي رؤية لحكم وطني لدولة مستقلة وكانت اقوي مكونات هذا الحزب مجموعة حزب الأشقاء وطائفة الختمية والتي كانت أكثر ارتباطا بمصر.
5- على ضوء هذا الواقع الذي استجد بتوحيد هذه المجموعة من الأحزاب التي لا يجمعها إلا رغبتها في وحدة وادي النيل تحت مسمى الحزب الوطني الاتحادي في مواجهة حزب الأمة على صناديق الاقتراع لانتخاب البرلمان الذي يقرر مصير السودان بين التيارين الاستقلالي(برؤية حزب الأمة) ووحدة وادي النيل برؤية الكتلة الاتحادية التي تكونت من مجموعة الأحزاب تحت رعاية مصر ولعل تسميته بالكتلة الاتحادية لهو المناسب لها أكثر من أن تكون حزبا سياسيا حيث إنها كانت مجموعة متنافرة لا تحمل رؤية موحدة بل لم تبحث في الأصل أن تكون لها رؤية موحدة تشكل برنامجا سياسيا لحزب سياسي غير إنها توافقت على أن تخوض معركة الانتخابات لتحديد مصير السودان ببرنامج وحدة وادي النيل ولقد تحقق لهذا الحزب أو بتعبير أدق هذه المجموعة أغلبية العضوية البرلمانية بفوز برنامجها الذي ينادى بوحدة وادي النيل لتصبح هذه الوحدة الواقع بمنطق الديمقراطية التي احتكم إليها الطرفان.
6- على ضوء نتيجة الانتخابات والتي انحازت فيها أغلبية المقترعين للحزب الوطني الاتحادي الذي يدعو لوحدة وادي النيل وتحت الظروف الطبيعية يصبح أمر تقرير المصير محسوما لصالح الوحدة مع مصر ولكن ظروفا غير طبيعية بعضها لم يكن متوقعا فرضت نفسها لتغير مسار السودان في غير ما انتهى إليه حكم الديمقراطية التي احتكما إليها وقالت كلمتها وتمثلت هذه الظروف في:
أ- أولا جنوب السودان والذي يمثل أكثر من ثلث السودان لم يكن طرفا مؤثرا في هذه الانتخابات وكان قد شهد تمردا قادته مديرية الاستوائية والذي فجر وقتها ما عرفت بقضية الجنوب الذي يختلف عن الشمال عنصريا ودينيا والذي لم يكن موافقا بالطبع على وحدة وادي النيل التي انتهت عليها المعركة الانتخابية في برلمان غاب عنه التمثيل الحقيقي لأهل الجنوب ولغيره من المناطق المهمشة وقد صعد الجنوب مطالبته بالفدرالية لفرز كومه من النتيجة التي انتهى إليها الاقتراع والذي رجح وحدة وادي النيل.
والمفارقة التي يجب أن نتوقف فيها هنا بل هي جريمة بكل ما تحمل الكلمة فان البرلمان يومها اعترف بتميز الجنوب واعترف لهم بحقه في الفدرالية وكان هذا أعلى سقف لمطالب الجنوب حيث كان هذا واحدا من قراراته ولكن المؤسف إن البرلمان (الشمال) تنصل من هذا القرار ولم يضعه موضع التنفيذ ولو انه نفذه يومها لما انفصل الجنوب.
ب- طائفة الأنصار أو المهدية في مسماها الحقيقي والتي خسر حزبها المعركة الانتخابية حيث حقق منافسه الحزب الوطني الاتحادي الأغلبية التي حققت له برنامجه الذي قام على إعلان وحدة وادي النيل فان قيادة الطائفة والحزب رفضت الاعتراف بهذه القرار واتخذت مواقف مناهضة له بأسلوب العنف وتهديد امن واستقرار السودان إذا ما نفذ الحزب الفائز التزامه وقدم الحزب لذلك نموذجا لحربه ضد القرار عندما فجر حوادث مارس والتي استخدم فيها الأنصار والذين لا يتحركون خطوة إلا تحت الإشارة وأوامر القيادة الطائفية استخدموا السلاح الأبيض من السكاكين والسيوف والذي عملوا بها قتلا في أنصار وحدة وادي النيل الذين خرجوا لاستقبال اللواء محمد نجيب رئيس المجلس العسكري المصري أبان زياراته للسودان فرحا بفوز الأغلبية البرلمانية المؤيدة لوحدة وادي النيل لو التزم الحزب الوطني الاتحادي ببرنامجه الذي حقق له أغلبية المقترعين.
ج- اكتملت حلقات المحاصرة للحزب صاحب وحدة وادي النيل التي حققت الفوز وبانتظار طرح الأمر في الاستفتاء الجماهير حسب الاتفاق الثنائي إلا أن تفجرت الأوضاع في انقلاب مصر حيث تم إعفاء اللواء محمد نجيب من رئاسة مصر وحل مكانه البكباشى جمال عبدالناصر والذي لم يكن معروفا أو محببا في السودان الأمر الذي اثأر الحزب الوطني الاتحادي لتكتمل محاصرته بهذه الظروف فانقلبت قيادة الحزب الوطني الاتحادي على نفسها وعلى التزامها تجاه الناخبين وخرج قادة الحزب عن التزامهم وانقلبوا على أنفسهم وقرروا إعلان الاستقلال من داخل البرلمان دون اللجوء للاستفتاء ضمن ثلاثة قرارات أخرى تمثلت في الاستجابة لمطالب الجنوبيين بالفدرالية وهو ما لم يلتزموا به وتكوين مجلس السيادة ثم انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور السودان المستقل والذي لم تكن هناك أي رؤية خاص به وهكذا تراجع الحزب الوطني الاتحادي الذي حقق الأغلبية التي تلزمه بوحدة وادي النيل دون إن يعود للقاعدة التي انتخبته كما تقتضى القيم الديمقراطية حتى ولو حققت مخالفته الاستقلال إلا أنها تبقى سابقة غير ديمقراطية وان كان سلوكا مبررا بسبب الظروف التي حاصرته,
وهكذا وكما أوضحت في الحلقات السابقة تحقق استقلال السودان صدفة ولظروف ضاغطة وخارجية ولم تكن للأحزاب السياسية أي رؤية أو برنامج يتوافق مع هذا المرحلة الجديدة والدولة تواجه استقلال لم تعد نفسها إليه.
والى الحلقة القادمة أواصل مع المزيد من التفصيل حول الحزبين الكبيرين ومسئوليتهما فيما لحق بالسودان من فشل حكمه الوطني..,


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.