قبائل وأحزاب سياسية خسرت بإتباع مشروع آل دقلو    النصر الشعديناب يعيد قيد أبرز نجومه ويدعم صفوفه استعداداً للموسم الجديد بالدامر    المريخ يواجه البوليس الرواندي وديا    ريجي كامب وتهئية العوامل النفسية والمعنوية لمعركة الجاموس…    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    فاجعة في السودان    ما حقيقة وصول الميليشيا محيط القيادة العامة بالفاشر؟..مصدر عسكري يوضّح    "المصباح" يكشف عن تطوّر مثير بشأن قيادات الميليشيا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخارجية: رئيس الوزراء يعود للبلاد بعد تجاوز وعكة صحية خلال زيارته للسعودية    الأمر لا يتعلق بالإسلاميين أو الشيوعيين أو غيرهم    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يستقبل رئيس وزراء السودان في الرياض    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية تنفجر غضباً من تحسس النساء لرأسها أثناء إحيائها حفل غنائي: (دي باروكة دا ما شعري)    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    إحباط محاولة تهريب وقود ومواد تموينية إلى مناطق سيطرة الدعم السريع    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا اصطدم هابرماس بالفلاسفة الفرنسيين؟
نشر في حريات يوم 21 - 10 - 2015

ذكرت في مقالة سابقة أنَّ هابرماس اصطدم بفلاسفة ما بعد الحداثة من أمثال فوكو ودريدا وسواهما حول قضايا أساسيَّة: كمسؤوليَّة العقل الغربي عن الاستعمار والفاشيَّة والنَّازيَّة، واحتقار التَّنوير والدّيمقراطيَّة وحقوق الإنسان واعتبارها مجرَّد سلعة أو واجهة يخفي الغرب الرأسماليُّ خلفها أطماعه وجشعه الَّذي لا يشبع. واتَّهمهم بأنَّهم محافظون شباب أو نيتشويون عدميون وهو تعبير ملطَّف عن الرَّجعيين. ولكنَّه اعتذر مؤخَّرا عن هذا الاتّهام الظَّالم الَّذي صدر عنه تحت تأثير الانفعال. (أنظر عدد مجلَّة "اسبري" المشار إليه في المقال السَّابق). فهم كانوا يعتبرون أنفسهم تقدُّميين بل وتقدُّميين جدًّا لأنَّهم لا ينتمون إلى اليسار فقط وإنّما إلى اليسار المتطرَّف.
انظروا فوكو وديلوز ودريدا مثلا: آخر صرعات اليسار الباريسيّ! أقول ذلك رغم أنَّ ديلوز أكثر جدّيَّة من دريدا وأكثر أهميَّة، وكذلك فوكو بطبيعة الحال..فيما بعد تصالح هابرماس مع دريدا وألَّفا كتابا معا بعد 11 سبتمبر بعنوان: "الفلسفة في زمن الإرهاب". وهو الَّذي نقله الباحث السُّوريّ خلدون النَّبواني إلى اللُّغة العربيَّة وقدَّم له. ولكنَّ الخلافات ظلَّت رازحة بين الرجلين حتَّى بعد هذه المصالحة التَّكتيكيَّة أو الشَّكلانيَّة. فهابرماس يتَّهم دريدا بأنَّه خرج كليًّا على النّطاق الخَّاص بالفلسفة أو بالفكر الفلسفيّ. فلم يعد يهتمُّ بتقديم حجج منطقيَّة لتدعيم وجهة نظره بل وأصبح يستسخفها. ولم يعد يهتمُّ بصلاحيَّة البرهنة العقلانيَّة على رأي مَّا وإنَّما يكتفي بإلقاء الكلام على عواهنه وكأنَّ كلامه فوق كلّ برهنة منطقيَّة أو مناقشة عقلانيَّة. لقد ختم العلم، دريدا، أو هكذا توهّم. والأنكى من ذلك أنَّه أصبح يهتمُّ بالأسلوب الأدبيّ لفلسفته أكثر من أيّ شيء آخر. لقد أصبحت الفلسفة بالنّسبة إليه مجرَّد تنميقات شكليَّة أو حذلقات لفظيَّة مملَّة ومبهمة: أي تعني كلّ شيء ولا تعني أي شيء..باختصار شديد: لقد تحوَّلت الفلسفة لديه إلى أدب ثرثار أو كلام مرسل خارج عن حدّ السَّيطرة. لقد انتفخ دريدا أكثر من اللّزوم حتَّى توهّم بأنَّه أصبح هيدغر أو نيتشه!
هذا من جهة. ومن جهة أخرى فقد كان هابرماس ينوي الانخراط في مناقشة علنيَّة مع ميشيل فوكو عن "كانط والأنوار". ولكنَّ القدر لم يمهل فوكو فمات فجأة في منتصف الطريق وتعذَّر بالتَّالي إجراء هذه المناظرة الكبرى الَّتي كان ينتظرها بفارغ الصبر مثقَّفو أميركا أيضا. لكن يبقى السُّؤال مطروحا: لماذا غضب عليهم هابرماس كلَّ هذا الغضب في ثمانينات القرن الماضي. السَّبب بسيط وهو أنَّ مرجعيته الفلسفيَّة غير مرجعيتهم. فمرجعيته أو قدوته كانطيَّة- هيغليَّة في حين أنَّ مرجعيتهم نيتشويَّة – هيدغريَّة. وهذا ما لا يغفره لهم هابرماس. ففي رأيه أنَّ نيتشه وهيدغر من ألدّ أعداء الحداثة والعقلانيَّة التَّنويريَّة. وبما أنَّه واقع تحت عقدة النَّازيَّة والكارثة الهتلريَّة الَّتي شوَّهت وجه ألمانيا فإنَّه لا يكاد يطيق أحدا يحب نيتشه أو هيدغر. ومعلوم مدى تعلُّق فوكو بنيتشه أو دريدا بهيدغر. معظم أعمال دريدا ليست إلاَّ تعليقات على هامش النَّص الهيدغريّ. وهو نفسه يعترف بأنَّ مصطلح التَّفكيك الَّذي اشتهر به أخذه عن هيدغر. هذا ما قاله لي شخصيًّا في المقابلة الوحيدة الَّتي أجريتها معه أيَّام زمان ونشرتها مجلَّة الفكر العربيّ المعاصر. أمَّا فوكو فقبيل موته بفترة قصيرة أدلى بمقابلة اعترف فيها بأنَّ أكبر تأثير فلسفيّ عليه جاء من جهة هيدغر ونيتشه ولكن هذا الأخير هو الَّذي تغلَّب في نهاية المطاف. وبالتَّالي فمنذ البداية هناك اختلاف أساسي في المرجعيَّة الفلسفيَّة بين هابرماس الألماني الواقع تحت عقدة النَّازيَّة كما ذكرنا وفلاسفة فرنسا المجايلين له والَّذين لا يعانون من هذه العقدة على الإطلاق. ويبدو أنَّ كلّ ما يخصُّ نيتشه وهيدغر يذكره بالكارثة النَّازيَّة. فهل يعتبرهما مسؤولين عن ظهور هتلر؟ هذا ليس مستبعدا. ففيما يخصُّ هيدغر فإنَّه يقول ما يلي في آخر مقابلة أجرتها معه مجلَّة اسبري الفرنسيَّة الَّتي ذكرتها آنفا:
"حتَّى الآن فإنَّ تصوري للدّيمقراطيَّة موروث عن كانط والثَّورة الفرنسيَّة. وقد حاولت في فترة ما بعد الحرب العالميَّة الثَّانية أن أفهم سبب التَّاريخ المكسور للدّيمقراطيَّة الألمانيَّة والعودة اللاَّمفهومة إلى السُّقوط في هاوية الفاشيَّة. وهكذا تلاحظون أنَّ الجيل الألمانيّ الَّذي أنتمي إليه كان مفعما بالغضب واللاَّثقة بذاته وبهويته الألمانيَّة. وقد رحنا نبحث عن سبب هذه الكارثة. واعتقدنا أنَّها مسجلة في الجينات الغامضة المعادية للعقل والمغروسة في أعماق تراثنا. لم يعد التُّراث الألمانيُّ بعد حصول الكارثة النَّازيَّة بقادر على أن يبقى بمنأى عن النَّقد الجذريّ الصارم. أصبح موضع شكّ أو بين قوسين. وأصبحنا مضطرين لنقده ومساءلته بقسوة. وعرفنا عندئذ أنَّ الدَّرس الأساسيَّ الَّذي نستخلصه من الكارثة الهتلريَّة هو أنَّ تراثنا ينبغي أن يخضع للغربلة النَّقديَّة الصَّارمة. كلُّ شيء فيه ينبغي أن يخضع للتَّحليل العقلانيّ وألاَّ يقبل أيَّ شيء إلاَّ بواسطة محاجات منطقيَّة عقلانيَّة. نعم لقد شعرت عندئذ بأنَّ ذلك هو واجب كلّ مثقَّف ألمانيّ بعد الحرب العالميَّة الثَّانية".(أفتح هنا قوسا وأقول بأنَّ السُّكوت المريب للعديد من المثقَّفين العرب عن الأصوليَّة الإخوانيَّة- السَّلفيَّة- الوهَّابيَّة – التَّكفيريَّة إن لم يكن التَّعاطف معها سرا شيء مزعج ولا يبشر بالخير. فهناك أفعال لم تتجرأ حتَّى النَّازيَّة على ارتكابها..ليت أنَّ هناك تأنيب ضمير عندنا نحن أيضا وليس فقط عند مثقَّف ألمانيّ محترم كهابرماس. ليت محاسبة الذَّات تصبح أيضا جزءا من الثَّقافة العربيَّة وليس فقط الثَّقافة الألمانيَّة. فلا يكفي إلقاء المسؤوليَّة على الآخرين باستمرار..الحقّ ليس دائما على الطليان!..)
ولكن ماذا فعل هيدغر؟ هل تاب؟ هل اعتذر؟ هل راجع موقفه أو تراجع عنه؟ لقد ظلَّ مصرا على موقفه السَّابق، على غيّه وضلاله. فعندما كان هابرماس طالبا في جامعة بون عام 1953 قرأ بالصدفة نصّ هيدغر الشَّهير "مدخل إلى الميتافيزيقا". وهو نصٌّ يعود إلى عام 1935 أي إلى بداية الفترة النَّازيَّة وصعود هتلر ولكنَّه لم ينشر إلاَّ عام 1953، أي بعد عشرين سنة من ذلك التَّاريخ. ولكي يثبت حسن نيته يقول هابرماس بأنَّه كان يشعر في السَّابق بأنَّه وريث روحي لهيدغر. ولكنَّه صعق عندما رأى أنَّ "روح الفاشيَّة" تتحدَّث من خلال هذا النَّص. هذا ما يقوله حرفيًّا في المقابلة الَّتي أجرتها مجلَّة "اسبري" معه مؤخَّرا. وأدرك عندئذ أنَّ هيدغر ظلَّ في أعماقه نازيًّا ولم يشعر بأيّ تأنيب ضمير رغم كلّ ما حصل. ولهذا السَّبب استغرب هابرماس العبادة الشَّخصيَّة الَّتي كان يحظى بها في فرنسا في ذلك الوقت من قبل دريدا وفوكو وعشرات الآخرين. وصدمه موقف المثقَّفين الفرنسيين حقيقة. واستغرب عدم اتّخاذ أيّ مسافة نقديَّة مع فكره ليس فقط في فرنسا وإنَّما في أمريكا أيضا. لم يكن هناك إلاَّ الإعجاب الهائل به والتَّهليل له والوقوع تحت تأثيره المغناطيسيّ. لهذا السَّبب إذن غضب هابرماس على فوكو ودريدا وسواهما..فهوى يرى أنَّ هيدغر مضادٌّ في العمق لفكر التَّنوير والثَّورة الفرنسيَّة. إنَّه يعتقد جازما بأنَّه رجعيٌّ كبير، رجعيٌّ حقيقيٌّ. فلماذا يتعلَّق به إذن مثقَّفون تقدميون بل ويساريون جدًّا كفوكو ودريدا؟ بل ويقول بأنَّه لم يستطع أن يضبط أعصابه فصبَّ عليهما جام غضبه. فقد تألَّم كثيرا لأنَّ مثقفي اليسار الفرنسيّ يتعلَّقون بهيدغر ونيتشه إلى مثل هذا الحدّ.
مناظرة دافوس لعام 1929
لكن لنعد إلى الوراء قليلا: في الواقع أنَّ هيدغر كان قد عبَّر عن اشمئزازه من فلسفة الأنوار منذ ما قبل الحرب العالميَّة الثَّانية عندما خاض مناظرة مشهورة ضدَّ أحد ممثليها الكبار المفكّر الكانطيُّ الألمانيُّ: ارنست كاسيرر. لقد حصلت مناظرة فلسفيَّة ضخمة أكاد أقول مناطحة فلسفيَّة كبرى بين هيدغر النّيتشويّ/وكاسيرر الكانطيّ. ويبدو أنَّ هيدغر انتصر في خاتمتها بالضَّربة القاضية إذا جاز التَّعبير. وكان ذلك إيذانا بصعود القوى الجامحة اللاَّعقلانيَّة في ألمانيا. فهتلر صعد إلى قمَّة السُّلطة عام 1933 أي بعد أربع سنوات فقط من حصول مناظرة دافوس. ربَّما كان ذلك تبسيطا لمناظرة فلسفيَّة من هذا الحجم والعلو الشَّاهق. وهو حتما تبسيط. ولكن لا يمكن إهمال السّياق السّياسيّ والمناخ النَّفسي العام الَّذي جرت فيه تلك المناظرة الكبرى.
ينبغي العلم بأنَّ دافوس، هذه القرية السّويسريَّة السَّاحرة القابعة في رؤوس الجبال والوديان، كانت ملتقى الانتلجنسيا الأوروبيَّة قبل أن تصبح ذلك الملتقى العالمي الضَّخم المنعقد سنويًّا لكبار قادة العالم. وكانت منتجعا للصَّحَّة والعلاج حيث الهواء النَّقي والمياه العذبة..هل نعلم بأنَّ توماس مان كتب روايته الشَّهيرة "الجبل السّحري" في دافوس؟ وهل نعلم بأنَّ ألبرت أنشتاين جاء إليها لكي يلقي محاضرات عن نظريَّة النّسبيَّة وأشياء أخرى؟ وبالتَّالي فالفندق الكبير لدافوس كان ملتقى الشَّخصيات العلميَّة والفلسفيَّة والأدبيَّة الكبرى. ولذا فليس مستغربا أن تكون المناظرة الفلسفيَّة بين هيدغر/ وكاسيرر قد جرت فيه.
هذا وقد تنادت الصحافة الألمانيَّة والأوروبيَّة من كلّ الجهات لحضور ذلك اليوم المشهود. وقد يدهشنا ذلك الآن إذا ما علمنا أنَّ موضوع المناظرة كان ناشفا ومتقشّفا إلى أقصى الحدود: ميتافيزيقا كانط! من يهمُّه هذا الموضوع العويص؟ بل من يعرف معناه أصلا؟ هل حقًّا يهمُّكم يا معشر الصحفيين مثل هذا الموضوع وأنتم مشغولون بالبحث عن الأخبار المثيرة والسَّبق الصحفي والصرعات والموضات، الخ.. ؟ ولكن يبدو أنَّهم شعروا بأنَّه خلف هذا الموضوع الميتافيزيقي التَّجريدي ظاهريًّا تختبئ قضايا سياسيَّة وفلسفيَّة خطيرة.
يضاف إلى ذلك أنَّ كلا المتصارعين كانا نجمين من نجوم الفكر الألمانيّ آنذاك. فارنست كاسيرر(1874-1945) غير المعروف كثيرا في العالم العربيّ كان سيّدا من أسياد الفكر. وكانت تحيط به هالة من العظمة والمجد نظرا لمكانته الأكاديميَّة العالية في الجامعات الألمانيَّة. ثمَّ نظرا بالأخصّ لمؤلفاته الكبرى المتركزة على قضايا الفيزياء المعاصرة، وفلسفة التَّاريخ، واللُّغة الرَّمزيَّة. وكلُّ فلسفته كانت مرتكزة على القول بأنَّ الإنسان ما هو إلاَّ روح خلاَّقة للرموز من خلال اللُّغة. كان يقول بأنَّ الإنسان حيوان رمزيٌّ قبل كلّ شيء. انظروا كتابه الضَّخم ذي الأجزاء الثَّلاثة: فلسفة الأشكال الرَّمزيَّة. ولكن في ذات الوقت كان كاسيرر كانطيًّا عقلانيًّا. كان يمثّل فلسفة الأنوار في أعلى ذراها تألقا. كان زعيما لمدرسة ماربورغ: وهو تيار فلسفيٌّ يمثّل الكانطيَّة الجديدة. كان كاسيرر من أتباع النَّزعة الإنسانيَّة، ومن أنصار الفلسفة الهادفة إلى تغليب سلطة العقل ولغة المنطق. أمَّا هيدغر فكان نيتشويًّا يتحدَّث بلغة الخيال الجامح والفنّ الصاعق والبراكين المتفجرة. بل وكان يقول بأنَّ الإنسان شاعر قبل أن يكون عالما. وبالتَّالي فالخيال الخلاَّق يسبق المنطق العقلانيَّ الجافَّ ويعلو عليه. بل وتنبأ بانهيار عهد المنطق وبدء عهد جبروت الخيال. ومعلوم أنَّ هيدغر ما كان يحترم العقل الخالص والعلم الفيزيائيَّ والتكنولوجيا كثيرا. كان يقول بأنَّ الإنسان حالم قبل أن يكون مفكّرا وشاعر قبل أن يكون عالما. وهيدغر نفسه كان يكتب أحيانا بلغة شاعريَّة-فلسفيَّة لا تضاهى. ابتدأ كاسير الأكبر سنًّا المناظرة بروح منفتحة، متسامحة، متسائلة. أمَّا هيدغر فردَّ عليه فورا بلغة صارمة، قاطعة، متغطرسة. وربَّما لهذا السَّبب انتصر عليه في ختام المناظرة. وهو انتصار لم يقم منه كاسيرر بسهولة. لقد تأثَّر نفسيًّا وانكسر. نقول ذلك خاصَّة وأنَّ المناظرة جرت أمام نخبة النُّخبة وصفوة الصفوة. والسُّؤال الَّذي يطرح نفسه هنا هو التَّالي: هل يمكن القول –بعد هذه المناظرة- أنَّ عهد العقل المتوازن الرَّصين انتهى وابتدأ عهد الخيال الجنونيّ الجامح الَّذي يصنع المعجزات؟ ربَّما. يكفي أن ننظر إلى هتلر وهو يخطب بكلّ عصبيَّة وهيجان جنوني لكي نتأكَّد من ذلك. كيف استطاع شخص متسكّع في الشَّوارع وعاطل عن العمل أن يستقطب الشَّعب الألمانيّ حوله ويزجَّه في أكبر مغامرة كارثيَّة في التَّاريخ؟ ما هو المغناطيس الجذَّاب الَّذي كان يتمتَّع به هتلر بلا جدال؟ وكيف استطاع مغنطة الشَّعب الألمانيّ بأسره؟ أسئلة لا يمكن تحاشيها. وهل سبقت فلسفة نيتشه وهيدغر صعود هتلر؟ هل مهَّدت لها الطريق؟ سؤال أيضا لا يمكن تحاشيه. وإن كان من الظُّلم أن نختزل فلسفة مفكّر ضخم كهيدغر إلى مجرَّد البعد النَّازي. فأكبر فيلسوف في القرن العشرين كان أعمق من ذلك وأكبر بكثير. ولهذا السَّبب لم يستطع غلاة الصهاينة أن يقضوا عليه حتَّى الآن رغم محاولاتهم المتكررة ورغم الآلة الإعلاميَّة الجبَّارة الَّتي يمتلكونها ويحرّكون خيوطها من وراء السّتار.
أخيرا يمكن القول بأنَّ كليهما، أي كاسيرر وهيدغر، كانا على حقّ. فالتَّصوران اللَّذان قدماهما متكاملان في الواقع لا متعارضان. لماذا؟ لأنَّ الإنسان شخص منقسم على نفسه. إنَّه مشكل في أعماقه من تيار المنطق المتوازن/وتيار الخيال الخلاَّق، من تيار العقل/وتيار الجنون. الإنسان مجنون أيضا أو بحاجة إلى جرعة جنونيَّة معينة وإلاَّ فإنَّه يصبح شخصا مملاًّ تعيسا. الإنسان يرغب بالمعرفة التَّحليليَّة العقلانيَّة للعالم من جهة/ وبالغوص في الخيال الشَّعريّ والمقاربة الفنّيَّة للعالم من جهة أخرى. علَّكم عرفتم لماذا أقول وأكرر القول: بَّأن قلبي مع نيتشه وعقلي مع كانط؟
(منقول).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.