(1) "حيّ الضباط"، من أحياء أم درمان القديمة، أكثر من كان يقيم فيه ، هم من أسر قدامى ضباط وجنود "قوة دفاع السودان"، التي أنشأها الحاكم العام البريطاني في بدايات القرن العشرين، لتشكل نواة للجيش السوداني. يقيم في الحيّ هذه السنوات ، عدد كبير من الجيل الثاني والجيل الثالث، من سلالة هذا النفر الجليل ، الذي أنشأ القوات المسلحة السودانية بشكلها الحالي. لقد درج الحكم الكولونيالي الإستعماري، على تجنيد المنحدرين من قبائل جبال النوبة ومن قبائل في جنوب السودان ، وأكثرهم من قبيلة "الشلك"، ليشكلوا نواة ذلك الجيش. معروف أن أراضي "الشلك" هي مناطق الجنوب على النيل الأبيض، الأقرب إلى الشمال السوداني، وذلك في وقتٍ كان فيه الكثيرون من أبناء الوسط النيلي يستنكفون عن العمل في سلك الجندية، إلا من هدى ربي إلى أن في ذلك حماية وإعلاء لشأن الوطن. الذي لفتَ انتباهي منذ سنوات الصبا الباكر في شارع "الموردة"، نادٍ للضباط بلافتة متواضعة، يقع جنوبي "دار الرياضة" في أم درمان. كنا كلّ يوم جمعة وبرفقة بعض أصدقائي نتابع منافسات "الليق" من فرق الدرجة الثانية في كرة القدم ب"دار الرياضة" بأم درمان، ونمر بجوار ذلك النادي. سألتُ مستفسراً، فعلمتُ أنّه مخصّص للضباط المتقاعدين من "قوة دفاع السودان". لكن ظلّ يجول سؤال بخاطري لم أجد إجابة له: لماذا يبدو "نادي ضباط أم درمان" شبه مهمل، ولا وجه للمقارنة بينه وذلك النادي المهيب الذي ساهم في إنشائه بعزم أكيد، الفريق الراحل الفاتح بشارة، أواخر سنوات السبعينات من القرن الماضي. . ؟ (2) شهدتْ مدينة "أم درمان" في تكوينها السكاني ، قدراً عاليا من الامتزاج والتفاعل والتصاهر بين سكانها، الذين قدموا من شتى إثنيات السودان ، من شماله وجنوبه، ومن شرقه وغربه. تلك كانت طبيعة المدينة، منذ تشكلها عاصمة لدولة المهدية. تتداخل أحياء المدينة تداخلاً محدوداً، ولكنك لن ترى حدوداً فاصلة، ولا جداراً قائماً مثل جدار "برلين"، ولا أسلاك شائكة بين حيٍّ وآخر. غير أن لكلّ حيّ سماتٍ تميّزه ، إما بمرجعيّة أصول سكانه الإثنية ، أو باختصاصهم بمهنٍ معينة، أو ربّما يشكلون "حوشاً" كبيراً يضمّ أفراد أسرة واحدة ممتدة . إنك تجد جُلّ صيادي الأسماك يقطنون في أحياءٍ تقع قبالة شاطيء "النيل": "الموردة" و"أبوروف" و"العباسية" و"أبوكدوك" و"بانت شرق". ثم تجد صناعة المراكب الخشبية في حي "أبي روف" و"بيت المال" . "حيّ الضباط" هو حيّ تسكنه سلالات من جنود "قوة دفاع السودان" السابقين، وذلك النادي العتيق جوار "دار الرياضة" بأم درمان مخصّص لهم حصراً. إن التعايش في مدينة أم درمان، والتسامح في قبول الآخر، شكلا روح "أم درمان" ، فهي المدينة التي اجتمع فيها بتوادد لافت، المسلمين والمسيحيين واليهود والهنود ، إلى جانب المنحدرين من مختلف قبائل السودان ، فشكلوا فسيفساء "أم درمان" التي نرى . إن طبيعة مثل هذه المدن المتعددة الإثنيات ، والمحتشدة بمختلف السحنات ، تحمل في جيناتها ميزات التعدّد والتنوّع، الذي تبدو معه هذه الانتماءات، وكأنها في حالة من التصاهر الثقافي الايجابي ، برغم اختلاف الألسن والعادات والثقافات، إختلافا يناقض ذلك الإنسجام. "أم درمان" هي هوية "السودان"، لكنها هوية قيد التشكّل. حينَ وقع انفصال جنوب السودان وذهب إلى حاله دولة جديدة ، ما كنتُ أتصوّر أن للانفصال تداعيات قد تفضي إلى ما لم يكن في الحسبان ، خاصة على بعض سكان "حيّ الضباط"، المنحدرين من أصول تعود إلى قبائل في جنوب السودان. (3) ضمّتنا مناسبة إجتماعية ، مثل تلك التي تجمعك- لمجرد الصدفة المحضة- بمن يجالسك، فتبتدر معه موضوعاً عاماً ، لكسر حاجز يقف بينك والغريب عنك. تحدثنا في مسائل عامة، ممّا يخوض فيه الناس ، بمجانية لا تكلف شيئا، إلا ربّما تزجية وقت المجاملة وترطيب المؤانسة، كحديثك عن أحوال الطقس، أو أحوال المعيشة، أو الضيق من الحكومة. . ! لكن ابتدر الرجل ، وهو من أبناء "حي الضباط" الذين أعرف عنهم الكثير ، يحدثني بهدوء هامس عن تجربته في الحصول على بطاقة الهوية القومية التي قد احتاجها لإنجاز بعض المعاملات القانونية. قال الرجل: – تعرف أبها الصديق.. لقد تقدمتُ بكلّ حسن نية للحصول على "الرقم الوطني" وقمتُ بملء الإستمارة الخاصة بذلك، حين فاجأني الضابط وهو يتحرّى معي، بسؤالٍ عن قبيلتي .. أدهشني حديثه. بادرت لتخفيف الأمر عليه وطمأنته. قلت له: – هذا طبيعي ، فعلوها معي، وقلت وقتها رأييّ للضابط المتحريّ، أنني سفير عملت في الحكومة ومثلتُ السودان في الخارج، ولن أعطيك رداً على سؤالك عن قبيلتي. كيف أفعل وقد تجاوزنا هذه المحطة منذ عقود مضت. .؟ حاججته طويلاً، ولكنه أصرّ وقال : إنها التعليمات. . – ذلك بالضبط ما حدث معي، إذ حاولت أن أعطي الضابط حجّة مثل حجتك ، لكنه أصرّ. قلتُ له إن جدي من قبيلة "الشلك" ، وهو من قدامى سكان مدينة أم درمان ، مقيماً فيها منذ قبل الدولة المهدية. . طوى الضابط أوراقه واحتفظ باستمارتي جانباً، وأخبرني بصوتٍ آمر، أن عليّ أن أذهب إلى دولة جنوب السودان للحصول على وثيقة هويتي منها.. أسقط في يدي، وتحيّرتُ . قال لي ذلك الصديق أن شيخا جليلا ومقرئاً ذكر إسمه، وهو من جيل الشيخ المقريء عوض عمر ، وجد عسرا حين تقدم لاستخراج رقم وطني فنصحه الضابط أن يراجع "جوبا" في ذلك. نفض الشيخ الجليل يده من الأمر برمته ومضى إلى حال سبيله ، وبالطبع لم يكن سبيله يأخذه إلى "جوبا". أما صديقي فقد أكد لي أنه لا يعرف شيئاً عن موطن أجداده في منطقة "الشلك" في جنوب السودان، وأنه ووالده وجده الأول، ظلوا يقيمون في مدينة أم درمان ولا علاقة لهم بجنوب السودان ، ولا هذه الدولة الجديدة التي خرجت من السودان القديم، ويسمعون أخبارها مثلما يسمع الناس أخبار بلدان أخرى في القنوات الفضائية ! (4) هكذا رفضَ الضابط المتحرّي أن يجيز إستمارة الرجل، لأن أجداده نزحوا قبل أكثر من مائة عام من جنوب السودان..! ترى.. هل نحن نمهّد لنشوء فئة حديدة من السكان، يصنّفون من "البدون في السودان" ، بعشوائية تثير السخرية كما الأسى. .؟ ظاهرة "البدون" عرفتها دولة الكويت التي استقلت عام 1961 ، ونبّهت سكانها للتقدم للحصول على الجنسية الكويتية. تشهد الجغرافيا والتاريخ أن أقليات عديدة كانت تقيم في الكويت قبل إستقلال الدولة، ولقصر المدة التي أتيحت للسكان للحصول على أوراق ثبوتية، فقد ظلت فئات من سكان الكويت وأيضاً العراق ، خاصة من البدو الرحل، غير مدركة لأهمية الحصول على وثائق ثبوتية توضح انتماءهم لدولة الكويت أو العراق، في تلك السنوات القديمة. إن البدو الرحل في الجزيرة العربية وبأسلوب حيواتهم، عرفوا التجوال من منطقة لأخرى بحرية لا تعترف بالحدود السياسية التي طرأت وهم في تجوالهم. . ثمّة من يرى شبهاً بين أسلوب حيواتهم وأسلوب حياة الغجر الجائلين في بلدان أوروبا الشرقية. "بدون" الكويت هم "غجر العروبيين" إذاً. تتعقد مشاكل إثبات الهوية بمرور السنوات ، وظهور أجيال تلو أجيال ، مما تصعب معه إجراءات إثبات الانتماء وضبط الهوية. تحوّل ملف "البدون" في الكويت، إلى حالة لفتت أنظار منظمات حقوق الإنسان، فنادت بضرورة التصدّي لمعالجتها، بما يحفظ للمواطن المقيم في بلده بلا هوية، كرامته وحقه في العيش بأمان ، وفي ذات الوقت أن يكون للدولة حقها في تقديم خدماتها لمواطنيها جميعاً دون تمييز. إنّ ملف الهوية المُعلق بين دولة السودان ودولة جنوب السودان، إذا لم يعالج بالحكمة التي تستصحب التاريخ العميق المشترك، وقت أن كانت الدولتان كياناً واحدا، فإن هذا الملف مرشح ليأخذ أولوية بين الملفات العالقة بين البلدين الشقيقين. لربّما جنح المسئولون في كلا البلدين إلى أيسر الحلول واعتبار مثل هذه الفئة من المواطنين "لاجئين" من البلد الأول، مقيمين بصورة مؤقتة في أراضي البلد الثاني ، ولكن ذلك لن يشكل حلاً نهائياً لهذه المعضلة. . (5) إن ما أثاره معي صديقي من حيّ "الضباط" في أم درمان، حول عجزه في الحصول على هويته "السودانية" عبر الحصول على "الرقم الوطني"، يضع إصبعاً على مشكلة توشك – إن أهملتها الأجهزة المعنية في الدولة – أن تتفاقم عبر توالي الأجيال ، فتتحول قنبلة موقوتة، قد تنفجر ذات يومٍ لن يكون بعيدا. على مثل هذا النسق- ولست مغالياً- نشب التطهير العرقي بين "التوتسي" و "الهوتو" في رواندا. لقد شكلتْ المجموعات السكانية في منطقة النيل الأبيض ومنطقة "السدود"، وبما فيهم أبناء قبيلة "الشلك"، أنموذجاً عبقرياً في التمازج الإجتماعي والتشارك الإقتصادي، الذي أثمر على مدى تاريخي طويل ، ذلك الانتماء إلى "السودان" الذي لم تمسسه أصابع التآمر ، حتى استفتاء عام 2011. بعده تفككت أوصال السودان ، وتهرّأت حبال التواصل التلقائي بين أبنائه، ثم أعلنت الحكومة في الشمال إنتهاء عهود "الدغمسة" . ذلك مصير مؤلم ينتظر منطقة أخرى شهدت تمازجاً عبقريا شبيهاً، هي منطقة "أبيي". . ثمّةُ حكمة مرتجاة، وبصيرة ثاقبة مطلوبة لترى، ليس حسن الجوار فحسب ، بل حسن الأخوّة ، لتجاوز [email protected]