ظل الوضع الاقتصادي يتدهور بانتظام منذ نهاية العام 2011م عندما خرجت عائدات النفط من السودان إلى جنوب السودان بعد انفصال الجنوب وبات النقد الأجنبي الذي توفره صادرات السودان لا يغطي إلا جزءاً يسيراً من احتياجات السودان وانعكس الوضع سلباً على العملة السودانية التي استمر تدنيها حتى بلغت قيمة العملات الأجنبية بالجنيه السوداني ما يقارب ضعف السعر الرسمي تقريباً وسعى السودان للاستعانة بقروض وتسهيلات ائتمانية خارجية لسد الفجوة بين احتياجاته من النقد الأجنبي والموارد المتوافرة من حصيلة صادراته إلا أن ذلك يعد أمراً مستحيلاً بسبب الحصار الاقتصادي والعقوبات المفروضة على السودان والديون الخارجية التي تجاوزت الخمسة والأربعين ملياراً والتي فشل السودان في سدادها، كما أن محاولة الاستفادة من عائدات الذهب المكتشف حديثاً في السودان كانت لها مثالبها لأن الذهب ملكية خاصة للمعدنيين وهم لا يبيعونه حسب سعر الدولار الرسمي لأن الأجدى لهم اقتصاديا أن يهربوه خارج السودان لبيعه بالعملات الأجنبية ولم يكن أمام بنك السودان من سبيل للاستفادة منه سوى أن يشترى الذهب بالعملة المحلية بحساب سعر الصرف الحر الذي يصل ضعف السعر الرسمي وهذا إجراء له سلبياته الاقتصادية المدمرة التي تضع البنك المركزي في وضع المساهم في خلق السوق الموازية وبالتالي في تدني قيمة العملة الوطنية. لقد نجحت الحكومة في تطوير علاقاتها مع دول الخليج لدرجة سمحت لها بالحصول على بعض الدعم منها ولكن ذلك الدعم لم يوقف تدهور قيمة العملة المحلية وواصلت الحكومة تدرس إجراءات اقتصادية أكثر شجاعة في حل الأزمة مستفيدة من الودائع الاستثمارية التي حصلت عليها من الدول الخليجية. ويبدو أن تلك الودائع الاستثمارية قد عززت احتياطيات البنك المركزي الآن بدرجة تسمح له أن يتدخل بطريقة فعالة لدعم العملة الوطنية فأقدم هذا الأسبوع -ولأول مرة منذ فترة طويلة- على ضخ مئة مليون دولار للبنوك التجارية لمقابلة احتياجات عملائها العاملين في مجال الاستيراد من النقد الأجنبي مما سيخفف الضغط على دولار السوق الموازية وبالتالي يرفع من قيمة العملة الوطنية. هذه نقلة نوعية في مواجهة الأزمة الاقتصادية لأن التوجه خلال الشهور الماضية كان نحو محاصرة الأزمة الاقتصادية بالإجراءات الإدارية أو الأمنية بمطاردة تجار العملة دون معالجة جذور الأزمة وذلك بتوفير عملات أجنبية كافية تتوافر بالسعر الرسمي لكي يتناقص الطلب على النقد الأجنبي مما يقلل من سعر صرفه ويرفع قيمة العملة المحلية وقد أثبتت السياسة الإدارية والأمنية عدم جدواها ما دام الطلب يفوق العرض في سوق النقد الأجنبي الحر. الأموال التي ضخت في المصارف التجارية السودانية لتوفيرها للمستوردين بالسعر الرسمي إضافة لسماح البنك المركزي للمصارف بتحويل أرصدتها بالعملات الأجنبية إلى حساباتها بالخارج من شأنه أن يقلل الطلب في السوق الحرة على النقد الأجنبي وبالتالي تدني أسعاره. ولكن يبقى السؤال الأهم هو: هل المبالغ التي تم ضخها بالأمس كافية لإحداث التوازن المطلوب؟ كثير من الاقتصاديين يرى أن المبالغ جد قليلة وأنها ستفقد خلال فترة قصيرة فإذا لم يكن البنك المركزي ينوي مواصلة الضخ فإن التوازن المطلوب لن يتحقق وإن سعر العملات الأجنبية مقابل الجنيه السوداني سيظل مرتفعاً ولذلك ستراوح الأزمة مكانها وإن الحل الجذري لن يتحقق إلا إذا ارتفع السودان بإنتاجيته وزاد كمية صادراته وهذا بالضرورة حل بعيد المدى لا يتحمل المزيد من الانتظار، فهل في مقدور البنك المركزي أن يوالي ضخ النقد الأجنبي في البنوك التجارية بالكميات المطلوبة وبالسرعة المطلوبة؟ سؤال ستجيب عنه الأيام القادمة بعد أن نعرف أثر السياسات الجديدة على السوق.