* أودّ فى هذا المقال ان أناقش الإطار العام لمشروع المعارضة والذى ولد منذ استيلاء عصابة الإنقاذ على الحكم فى بلادنا. لقد استولت الجبهة الاسلامية على الحكم بانقلاب عسكري فى الثلاثين من يونيو 1989. ولقد تسنمت الإنقاذ مكانة متميزة بين الأنظمة الشمولية فى تاريخ البشرية فظاعة فى تعذيب وقتل معارضيها وإطلاق الرصاص على المواطنين العزل دون تردد لمجرد تظاهرهم السلمى والتعبير عن رأيهم فى سياستها الرعناء وفسادها الذى يعرفه القاصى والدانى. وهى اول حكومة فى تاريخ بلادنا مطارد رئيسها من قبل المحكمة الجنائية الدولية فى جرائم إبادة جماعية ضد شعبه. ولقد نجحت الإنقاذ فى فصل الجنوب ولا زالت تحرق المدن وتقتل المواطنين بالرصاص والفقر والجهل والمرض. ان مشروع الإنقاذ هو حكم ديكتاتوري تحت رايات التطرّف الديني. * هذه الخلفية المبسطة والمختصرة لمناقشة مشروع المعارضة وفتح الحوار للتساؤل عن أسباب إخفاقها لتحقيق هدفها المعلن وهو ازالة حكم الإنقاذ وبناء سودان ديمقراطى. بالطبع هناك تفاصيل لشقى الإزالة والبناء سنتطرق اليها لاحقا. وكأي مشروع لا بد من تعريف وتوثيق الهدف او الأهداف بوضوح لايقبل اللبس ولا سوء الفهم. كما يجب ايضا مراجعة الهدف او الأهداف والتوسع فيها بالاضافة او الحذف كلما تقدمنا من مرحلة الى اخرى. * وأود ان أنوّه هنا الى ان تركيزى سيكون على المشروع والذين يقومون بأمره ومحاولة تحقيقه وان نظرتى تركز على المنهج وتقرأ التاريخ القريب فى ذات الوقت. وفى ذلك لن اكتفى بالنقد ولكن سأقدم ما أراه حلا او اصلاحا حيث أخفقنا. والاقتراحات التى سأقدمها لا تنبع من وهم او ادعاء انها حلول نهائية بل هى محاولات لتشجيع الآخرين للإدلاء برأيهم. وهى ايضا محاولة متواضعة للتمهيد لاعادة النظر فى الحلول المطروحة من قبل المعارضة. ونحن اذ نفعل ذلك لا نحاول تحميل من قاموا بجهد المقاومة وزر الفشل ولا مسؤولية عدم تحقيق أية إنجازات ملموسة فى طريق تحقيق مشروع سودان جديد على أنقاض الخراب الذى انجزه مشروع المؤتمر الوطنى الحضارى. * ان المالك الأوحد لهذا المشروع هو الشعب السودانى ممثلا فى كل قطاعاته وقواه التى تعمل على بناء وطن ديمقراطى يسع الجميع ويتساوى فيه الجميع امام القانون، او كما لخصه شاعرنا العظيم محجوب شريف "وطن خير ديمقراطى" * وهؤلاء الممثلون هم من الأحزاب، أمة واتحادي وشيوعى ومستقلين ورموز وطنية وخلافهم. وهنا نواجه اول الأمراض الوراثية لهذا المشروع وهى عدم التعريف الواضح لما نريد انجازه. ان الصياغة الدقيقة والواضحة لما نريد انجازه هى فى غاية الأهمية. فإذا ارادت أية أسرة بناء بيت فلا بد من الاتفاق على بناء البيت وفق تصور محدد. اما اذا لم يتفقوا حقا ولكن جلسوا امام المعماري وكل يحاول ان يقنع المعماري بان رؤيته هى التى يجب تنفيذها فلن يتم إنجاز الخارطة دع عنك بناء المنزل. * فالصادق المهدى والميرغنى يريان الدولة الاسلامية هى الانسب للسودان ولذا قد نفضا أيديهم عدة مرات عن مشروع المعارضة. لماذا بناء بيت جديد وهناك بيت الإنقاذ الإسلامى ومشروعها الحضارى. يكفى فقط تغيير الطلاء ولا داعٍ للهدم والبناء من جديد. الميرغني والذى هو اليوم شريك اصيل فى حكم الإنقاذ ومساعدتها على القيام بكل ماتقوم به من وحشية فى قمع شعبنا ونهب ثرواته كان شريكا أساسيا فى معارضة ذات النظام. الإنقاذ لم تتغير ولم تصبح اكثر ديمقراطية بل صارت اكثر جبروتا وقمعا. ويصح ذات القول على السيد الصادق المهدى فقد راوح بين المعارضة والإنقاذ ردحا من الزمن وان كان اليوم فى صفوف المعارضة فليس هناك ضمان لعدم عودته الى احضان الإنقاذ. ولعل لهذا التأرجح أسباب يقف على رأسها إيمانه بمشروع اسلامى يرى ان الإنقاذ اقرب اليه من المعارضة. لا زال الجميع يذكر مقولته عن قوانين سبتمبر وأنها "لا تساوى الحبر الذى كتبت به" ثم تمسكه بها واصراره على عدم الغائها . * ونحن اذ نذكر هذه المواقف للسيد الصادق والسيد الميرغني لا ننكر حقهما فى تغيير رأيهما وهجر صفوف المعارضة والعمل مع الإنقاذ ولكن ننكر على دعاة الإطاحة بالإنقاذ وبناء سودان ديمقراطى جديد قبولهم بالاحضان بعد كل رحلة عودة من احضان المؤتمر الوطنى. هذا الموقف افقد وسيفقد المعارضة الجادة المصداقية فى نظر الشعب. * ثم لنأت الى احد اهم سمات هذا المشروع اى مشروع المعارضة وهى إقامة نظام ديمقراطى. ان نظرة سريعة الى العاملين على امر هذا المشروع تدعو الى الرثاء ان لم يكن الشفقة. فإذا تركنا الأحزاب الطائفية ( الأمة والاتحادي) وهى احزاب لا تُمارس الديمقراطية فان الحزب الشيوعي مثلا ليس حزبا ديمقراطيا وهو ما تثبته الممارسات الاخيرة من عدم احترام لمؤسسات الحزب ولابدال التامر بالشفافية والالتزام الصارم بقرارات لجانه. * وباستثناء حزب المؤتمر السودانى فليس هناك رئيس او زعيم حزب قد تنحى عن القيادة وهو على قيد الحياة. * الشعب السودانى مؤهل تماما للتمييز بين الشعارات باسم الله او الطبقة العاملة او الطائفة وبين من يمارس الديمقراطية ويصر عليها. وكما يقول اهلنا فاقد الشىء لايعطيه. * لا أظن الشعب السودانى سيتحمس للالتفاف حول معارضة غير ديمقراطية تعمل على اعادة الديمقراطية. ان تجربة ربع قرن تحت نظام الإنقاذ قد علمت الشعب السودانى تدقيق النظر والتمعن فى الممارسة لا الوقوف عند الشعار وتصديقه. ولا أظن المطالبة بالبيان بالعمل مطالبة بالكثير بل هى اقل ما يجب تقديمه للشعب السودانى بعد مشروع الإنقاذ الحضارى. * ان على الأحزاب ترتيب بيوتها الداخلية بممارسة الديمقراطية قولا وفعلا. هذا يعادل تدريب من يقومون بتنفيذ هذا المشروع لإكسابهم مهارات جديدة تؤهلهم على إنجاز المشروع الذى يشاركون فيه. وهو سيؤدى الى خلق جو صحى داخل هذه الأحزاب وبروز عناصر اكثر شبابا وقدرة على التنفيذ. ان تنفيذ أي مشروع دون خلق الكوادر وتدريبها على القيادة والعمل الجماعى بروح ديمقراطية سيؤدى الى هزيمة هذا المشروع وقد يكون مصيرة مصير الهبات السابقة له. * ان الذى يحاول تنفيذ مشروع لما يزيد على الربع قرن دون تحقيق تقدم او إنجاز مراحل هامة من هذا المشروع عليه بمراجعة المشروع وطريقة العمل على انجازه. * ان مشروع ازالة نظام المؤتمر الوطنى وبناء سودان ديمقراطى لهو اكثر الحاحا اليوم من الامس. ولكن لا بد من اعادة النظر فى طريقة عملنا وفى كفاءة المساهمين والعاملين على تنفيذ هذا المشروع وفى اعادة النظر فى تعريفه والتساؤل الصارم فى قدرة او رغبة كل المساهمين فى تنفيذه. * هناك أمور هامة لابد من مناقشتها باستفاضة وهى كيفية الخروج من الدائره الشريرة من ديمقراطية ثم انقلاب عسكري يؤدى الى طغيان اكثر جبروتا وتسلطا. وهنا لا بد من مناقشة دور الصادق المهدى فى فشل الديمقراطية. لقد اثبت الرجل ان له مقدرة عالية على عدم التعلم من أخطائه وعدم الاستماع للنصح وامتلاكه لهوه واسعة بين الفعل والقول. * دور الجيش فى المرحلة الديمقراطية الجديدة وكيف يمكن تحويل الجيش الى دعم وسند لها لا عامل عدم استقرار ومهدد تستخدمه الأحزاب. ولا بد من دراسة تركيبة الجيش والتغيير الذى طرأ عليها منذ استيلاء المؤتمر الوطنى على السلطة وتسييس الجيش وحتى يومنا هذا. * هنا أمور كثيرة يجب حسمها او على الأقل اشراك اكبر عدد من بنات وأبناء شعبنا للتفاكر حولها والاخذ برأيهم. * دور العامل الدولى فى استقرار الديمقراطية من الأمور الهامة التى يجب طرحها للنقاش. * تحتاج المعارضة الى إطار لعملها يوثق ويناقش لمرحلة ازالة هذا الكابوس ومرحلة بناء سودان جديد يليق بشعبنا بعد دوامة الفشل التى بدأت منذ خروج المستعمر وتوجت بحكم نظام فاشى رسخ الجهل والفساد والمرض باسم الدين. * إطار العمل ليس ضمانا للنجاح ولكن سيقلل احتمالات الفشل. اما العمل العشوائى ورزق اليوم باليوم وردود الفعل لجرائم الإنقاذ فهى ضمانة للفشل والمراوحة فى مكاننا وترك الريادة للمؤتمر الوطنى ليقرر شروط اللعب. * ان الإطار العام وبعد ان يتفق على الهدف فى خطوطه العامة وهى استخدام كل السبل لاسقاط هذا النظام يجب ان ينظر فى احتياجات العمل المسلح لاسقاط النظام. نظام المؤتمر هو نظام وحشى لن يقابل المتظاهرين بالورود، بل سيحصد ارواح شبابنا لمجرد الاحتجاج السلمى. هذه هى اللغة الوحيدة التى يفهمها هذا النظام بدليل تفاوضه فقط مع من يحملون السلاح. وحتى الذين يحملون السلاح وليسوا متوحدين على هدفهم النهائى تم البيع والشراء بين عناصرهم. * ان وحدتنا واستخدام الأساليب المناسبة لاسقاط النظام ستؤدى بالتعجيل للوصول الى إكمال الجزء الاول من مشروع السودان الجديد. لابد من وجود جسم ديمقراطى لقيادة هذا المشروع. * وكما اشرت سابقا فان الجزء الاخر من مشروع السودان الديمقراطي الجديد لا يمكن تأجيله حتى إسقاط النظام. فهو يحتاج الى عمل صبور وتخطيط مرن ويجب ان يبدأ ونعمل على انجازه بصبر ودقة. * ان الذين يرون ان إسقاط النظام بالقوة ليس خيارا لا يعنى نزع حقهم فى المساهمة فى بناء السودان الجديد. وكذلك الذين يريدون للدين ان يلعب دورا أساسيا فى هذا المشروع يجب ان يقدموا رؤيتهم وفق نظام ديمقراطى تعددى وفصل سلطات واستقلال قضاء فى دولة علمانية. دولة لا يحق لأحد فيها ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة ولا التحدث باسم الاله. ان المشاريع غير الجادة والتى لا تقوم على اجتهاد فكرى جاد فى مجالات السياسة والاقتصاد والحكم والتى تكتفى بالشعارات من نوع "الاسلام هو الحل" لن تبنى وطنا. ان ربع قرن من مشروع المؤتمر الوطنى الحضارى وقبله قوانين سبتمبر تؤهل شعبنا على الإصرار على قيام دولة مدنية. * ان الإصرار على الوحدة الشكلية والقلوب متفرقة وغير موحدة هو احد اهم أسباب ما نحن عليه اليوم. ان دراسة تجارب انتفاضات شعبنا السابقة وتعلم الدروس الصحيحة لهى من اهم واجباتنا ونحن نخطط ونعمل للمستقبل. كذلك تجارب الشعوب الاخرى التى نجحت والتى فشلت ومعرفة ظروفها الاجتماعية والاقتصادية والظرف العالمي لا تقل أهمية عن دراسة تجاربنا. فالشعب الإريتري مثلا نجح فى التحرر من النظام الاثيوبى ليستبدله بطاغية اخر. وهناك تجارب غنية يمكن التعلم منها. * ان واجبنا جميعا ان نعمل مباشرة بالتنظيم والاستعداد للقتال وبالدعم المالى لتحرير بلادنا. فالمؤتمر اللاوطنى لن يساوم وهو يعرف حجم الظلم والخراب الذى احدثه ببلادنا لذا سيقاوم حتى اخر قطرة دم. فى ظنى هذا هو الخيار الوحيد الذى يجب ان نعمل عليه ومنذ اليوم. انه الخيار الوحيد لتحرير وطننا من قبضة هذا النظام المجرم. وعندما نقنع الشعب اننا نملك البديل بالنموذج الذى نقدمه سيلتف الشعب حولنا وسننقل المعركة الى مشارف اخرى تجعل بناء وطن ديمقراطى حلما يمكن الوصول اليه. أحمد الفكى .