عوض محمد الحسن في طفولتي في ديار الشايقية في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، كانت الطاحونة آية من آيات التكنولوجيا الحديثة، وكانت "طاحونة شيخ" في مدخل جريف نوري صرحا مهيبا من الحجر،في قرية كل مبانيها من الطين (الجالوص)، حتي المباني الحكومية (مثل المدرسة والشفخانة)،تُديرها سيور ضخمة و"عجلات" مهولة من الحديد، ومُزودة بحوض ضخم من المياه لم أدر حينها دوره في تسيير الطاحونة. وفي منتصف الطاحونة، وفي وسط الهدير وذرات الدقيق التي تملأ فضاء الطاحونة، ينتصب "سيّد"، وذرات الدقيق تُغطي شعره ولحيته وكامل جسده، كأحد آلهة الأساطير الإسكندنافية، يصب القمح والذرة في فم الطاحونة ليخرج طحينا من فتحة صغيرة في خاصرتها. وبالإضافة إلى الطاحونة، شملت آيات التكنولوجيا والمهارات الحديثة (في نظري الطفولي-القروي آنذاك)، ماكينة الخياطة (والترزية) – وقد كتبت عن ذلك فيما سبق، وحلاقي الحمير! طافت بذهني هذه الخواطر والذكريات وأنا أشاهد في نهارات رمضان الطويلة في نصف العالم الشمالي-الغربي منافسات الأمريكتين (كوبا أميريكا) وأوروبا (اليويفا)، استعين بها على الصيام. تذكرتُ على وجه الخصوص حلاقة الحمير وأنا اتابع في دهشة طفولية (وبعض استنكار يأتي مع تقدم العُمر) تصفيفات وحلاقة شعر العديد من لاعبي كرة القدم ذوي الأصول الأفريقية واللاتينية، ومن تبعهم من لاعبي البلدان الأخرى من ذوي البشرة البيضاء، تُميزها الخطوط الأفقية القصيرة على جانبي مُقدمة الرأس، والزخارف (والشرافات) على جانبي مؤخرة الرأس، وترك العُرف في قمة الرأس طويلا، وقص باقي شعر الرأس حتى لتكاد فروة الرأس تبين. وكانت حلاقة الحمير في طفولتي فنا رفيعا ومهنة مُربحة. وكانت الحمير نفسها في تلك الأيام وسيلة النقل والتنقل الرئيسية في معظم أنحاء السودان، (وزينة)، لا يخلو بيت منها. وكانت (موديلات) الحمير، واهتمام أصحابها بها، أشبة بموديلات السيارات في عصرنا هذا، وزهو راكبيها بها: بعضها "تيربو"، وبعضها "دفع رباعي"؛ بعضها سريع حتى لا يُسمح للصبية بركوبها خشية سقوطهم من على ظهرها من فرط سرعتها، وبعضها بطئ يستخدمه صغار الأطفال لنقل الأعلاف والذهاب للطاحونة؛ بعضها من الأرتفاع بحيث يتطلب الجلوس على ظهرها الإستعانة بحائط قصير أو جذع شجرة أو صخرة، وبعضها قصير يستطيع الصبية ركوبها دون مشقة. وكان فن حلاقة الحميرمقتصرا، فيما أذكر، على "الحلب" الذين يستخدمون مقصات بدائية الصنع، لكنها تفي بالغرض. وتحتاج المهنة إلى يد ثابتة، وعين "نجيضة"، وموهبة فنية أصيلة. وحينما يطول شعر الحمار (أو الحمارة) أكثر من اللازم، يُضرب موعد محدد مع حلّاق الحمير (مثلما هو الحال الآن مع صالونات الحلاقة الفاخرة)، وذلك لانشغال حلاق الحمير وارتفاع الطلب على خدماته. وحينما يحين الموعد المضروب، يُؤتى بالحمار إلى الحلاق، فيُوثق قوادمه الخلفية والأمامية حتي لا يتحرك أثناء الحلاقة فيُفسدها. يبدأ الحلاق برسم مستطيلين على جانبي منتصف ظهر الحمار حيث تُوضع "البردعة" والسرج، ويُخطط أضلاع المستطيلين بخطوط مستقيمة لا عوج فيهاحتى لتبدو، حين يُزاح السرج والبردعة، وكأن هناك بردعة خفية ملتصقة بظهر الحمار، آية للناظرين. يتلو ذلك قص شعر الحمار في كامل جسده، وتزيين القوادم الأمامية والخلفية بزخرفات وأشكال هندسية بديعة، وخطوط متقاطعة، بعضها غائر طويل، وبعضها ضحل وقصير، وقص "العُرف" وتشذيبه، وإزالة الشعر الزائد من الأذنين، وربما إضافة أحد الأشكال الهندسية على جبهة الحمار. تجدر الإشارة إلى أن الحلاق الموهوب، مثله مثل كبار الفنانين التشكيلين، لا يستند على نموذج/تصميم مُعد سلفا ينقل منه الأشكال المطلوبة، بل يعتمد على القريحة والموهبة التي لا يسندها تعليم نظامي، غير أنه يختلف عن الفنانين التشكيليين لأنه لا يقوم بتوقيع اسمه على "أعماله الفنية"! تذكرت كل ذلك وأنا أتابع في دهشة ممزوجة بالنوستالجيا، أشكال وتصاميم الحلاقة التي يخرج بها نجوم كرة القدم الأوروبية واللاتينية اثناء المنافسات الوطنية والقارية والعالمية، وتعجبت أكثر لانتقال مثل هذه التقليعات في زمن قياسي وانتشارها بين شباب وأطفال بلدان العالم الغنية (والفقيرة على الأخص) حتى قبل انتشار الهواتف الذكية وتطبيقاتها (هل تذكرون موضة الحلاقة "كابوريا" في سالف الأزمنة؟)، وشعرت بشئ من الأسى حين تذكرت "الإنقراض" التدريجي للحمير في نوري وقرى السودان المختلفة بفعل رياح "التقدم" والعولمة التي أحلت الآن "الركشة" مكان الحمار (رغم أن مخلفات (روث) الحمير العضوية لها فوائد مختلفة للإنسان والبيئة، بينما تُحدث "مخلفات" الركشات الضرر بصحة الإنسان وصحة البيئة، إلى جانب "طررتها" التي تصك الآذان حتى داخل الحصون المُشيدة). ولكن يبدو أن التاريخ يُعيد نفسه. اختفت الحمير من القرى وانتشرت بكثرة هذه الأيام في أطراف المدن الكبرى وأحيائها القديمة، لتقوم بنفس الدور الذي لعبته قبل عقود طويلة: نقل مياه الشرب بعد أن عجزت الحكومة عن فعل ذلك في القرن الحادي والعشرين (ربما لانشغالها ببناء المفاعلات النووية والأقمار الصناعية)! والحمدلله الذي جعل خلاصنا في حميرنا! [email protected]