أحاديث المنعطف…… بدأت جلسة البرلمان يوم الإثنين الماضي بتلاوة آيات من القرآن الكريم أسوة بالجلسة السابقة التي انعقدت في غياب نواب الحركة الشعبية من الولايات الجنوبية، ونظرا لذلك الغياب أو بالأحرى(التغييب)- لأن عضوية نواب الجنوب في البرلمان بموجب اتفاقية السلام الشامل والدستور يجب أن تستمر حتى نهاية الفترة الانتقالية في التاسع من يوليو 2011- أعلن رئيس الجلسة أن لا حاجة لتلاوة الإنجيل، فطالب السيد ديفد توتو وهو نائب برلماني من منطقة جبال النوبة في جلسة الإثنين بتلاوة الإنجيل مذكرا البرلمان بأن واقع التعدد الديني والثقافي في السودان لن يزول بعد استقلال الجنوب، فوافق رئيس الجلسة على تلاوة الإنجيل، في يوم الخميس طالعتنا “الانتباهة” صحيفة العنصرية والتعصب في صفحتها الأخيرة بعمود للطيب مصطفى بعنوان: البرلمان والعودة إلى عهد الدغمسة! في إشارة إلى أن مجرد السماح بتلاوة الإنجيل (دغمسة) تفسد على البرلمان نقاءه الديني! إذا أردنا لدولة الشمال أو “الجمهورية الثانية” أن تتوحد وتستقر ولا ينتهي بها الأمر إلى الانقسام فينفصل عنها جنوبها “الجديد” أو غربها أو شرقها فلا بد من إلحاق الهزيمة بمثل هذا الفكر الإقصائي العنصري المأزوم عبر إعادة هيكلة الشمال سياسيا واقتصاديا في إطار دولة مدنية ديمقراطية تحترم التنوع والتعدد، وتؤسس الحقوق والواجبات في الوطن على أساس واحد فقط هو المواطنة، وفي إطار دولة كهذه (تلاوة القرآن) في مستهل الجلسات البرلمانية لا تعني أن الدولة (إسلامية) وبنفس القدر (تلاوة الإنجيل) لا تعني أن الدولة (مسيحية)، فالدولة يجب أن تكون (سودانية مدنية ديمقراطية)، وفي دولة كهذه إذا كان من حق النائب البرلماني السوداني المسلم أن يستمع إلى آيات من القرآن الكريم تحت قبة البرلمان؛ فإن للنائب البرلماني السوداني المسيحي نفس الحق في الاستماع لآيات من الكتاب المقدس، فالدولة إطار للعيش المشترك بين مواطنيها بمختلف انتماءاتهم على أرضية الندية والمساواة، بصرف النظر عن منطق الأغلبية والأقلية، ففي القضايا المرتبطة باحترام الحقوق الدينية والثقافية ولا سيما في البلاد التي تعاني من هشاشة في السلم الأهلي وواقعها مثقل بالاحتقان الناتج عن حروب أهلية طويلة ومظالم سياسية واجتماعية كما هو الحال في السودان لا بد من الحرص على أقصى درجة من احترام الآخر، والتأكيد على نبذ مؤسسات الدولة لأي شكل من أشكال التمييز على أسس دينية أو عرقية، وحسنا فعل رئيس البرلمان عندما استجاب لطلب السيد ديفد توتو، ولكن إذا نظرنا للموضوع من زاوية أكثر عمقا، نجد أن الإصرار على استهلال البرلمان لجلساته بتلاوة القرآن الكريم مجرد مزايدة عاطفية، وهذه المزايدة دفعت المسيحيين للمطالبة بتلاوة الإنجيل. والسؤال متى تتوقف هذه المزايدات؟ في الآونة الأخيرة عندما قفز موضوع(مكافحة الفساد) بشكل مفاجئ إلى أجندة النظام الحاكم بأثر من (تسونامي التغيير) في المنطقة، اعترف أهل البرلمان أنفسهم بأن البرلمان (مقعد) و(عاجز) عن ممارسة وظيفته الأساسية وهي الرقابة على أداء الجهاز التنفيذي والتصدي لعمليات سرقة المال العام، هذا بالإضافة إلى (كارثة تزوير الانتخابات) التي على أساسها تكون هذا البرلمان، أي أن هذا البرلمان فاشل وبعيد عن قيم العدالة والنزاهة وعاجز عن ردع الفاسدين ومحاسبتهم على إهدار مصالح المواطنين، برلمان هذا حاله غير جدير بأن يتلى فيه كلام الله، فمن يحترم كلام الله ويقدسه لا يقبل بأن يحوله إلى ديباجة لتجميل مؤسسات فاشلة وقاصرة ومهدرة لقيم الحق والعدل،إننا نحتاج إلى نقلة في المفاهيم تجعلنا ندرك أن المحك الحقيقي لاختبار درجة الالتزام بالدين هو مدى التجسيد العملي للقيم الخلقية وليس البروتوكولات الشكلية. رشا عوض [email protected]