منذ توقيع قوى"نداء السودان" ممثلة في حزب الأمة القومي والحركة الشعبية لتحرير السودان(شمال)، وحركة تحرير السودان(مناوي) وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، على "خارطة الطريق" قبل ثلاثة أسابيع، والجدل حولها مستمر بين مؤيد، ومعارض، بين من يقول ان الخيار الأفضل هو معالجة الأزمة السودانية عبر الحوار المفضي إلى تسوية سياسية تفاديا لمخاطر المواجهة الشاملة مع النظام، وبين من يقول لا خيار سوى إسقاط النظام الذي أثبت بما لا يدع مجالا للشك عدم قابليته للإصلاح كما أثبت بالتجربة العملية نقضه المستمر لاي عهد او ميثاق واستغلاله لأي اتفاقية في تمديد عمر الشمولية. هكذا أصبحت"خارطة الطريق" عاملا جديدا من عوامل الانقسام في صفوف المعارضة الرسمية والشارع السياسي السوداني، وهو انقسام مأزوم لم يخل من الحدة واتهامات التخوين والمزايدات الغوغائية أحيانا. والأزمة ليست بسبب الاختلاف وتعدد الخيارات في كيفية التعامل مع النظام، فهذا مفهوم ومشروع، بل تكمن الأزمة في فشل الفريقين المختلفين في الوفاء باستحقاقات اي من الخيارين: "خيار التسوية" و"خيار الانتفاضة الشعبية التي تسقط النظام". فخيار التسوية السياسية مع النظام والذي تدعمه "خارطة الطريق" ليس خيارا مجانيا، بل يتطلب ضغوطا مكثفة، ملموسة ومحسوسة على النظام، تجبره على تقديم تنازلات جوهرية بموجبها تحدث تغيرات نوعية تنقل البلاد إلى خانة "القابلية للتغيير الشامل والجذري" على المدى المتوسط أو البعيد، وبكل أسف هذه الضغوط مفقودة الآن، ونتيجة لذلك لن تفلح قوى"نداء السودان" في التوظيف الأمثل لخارطة الطريق بحيث تنتزع بموجبها تنازلات من النظام في مجالي السلام العادل والتحول الديمقراطي، إلا إذا غيرت منهج عملها. ما يحدث الآن عمليا هو سعي "المؤتمر الوطني" إلى تحويل "خارطة الطريق" إلى مشروع "استسلامي" للمعارضة المسلحة، ومشروع "استتباعي" للمعارضة المدنية، ويعتمد في سعيه هذا على صفقاته مع "المجتمع الدولي" في مجالي مكافحة الإرهاب، ومؤخرا مكافحة الهجرة إلى أوروبا ، وربما تكون هناك صفقات سرية أخرى لا نعلمها ولكنها حتما لن تكون في صالح بلادنا! "خارطة الطريق" في جوهرها مشروع لتسوية سياسية متواضعة جدا، أركانها: مفاوضات بين الحكومة وكل من الحركة الشعبية(شمال) وحركتي "تحرير السودان" و"العدل والمساواة" للوصول إلى وقف إطلاق نار دائم يسبقه وقف عدائيات لإيصال المساعدات الإنسانية، وتتزامن معه مفاوضات حول الأوضاع السياسية الخاصة بالمنطقتين(جنوب كردفان، والنيل الأزرق)، ودارفور، وبعد ذلك ينعقد اجتماع بين لجنة(7+7) وكل من حزب الامة والحركة الشعبية وحركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة للاتفاق على مطلوبات مشاركتهم في "الحوار الوطني" في الخرطوم، أي ذات الحوار الذي دعا له البشير في يناير 2014. فكل مقترحات الوساطة الإفريقية بقيادة ثابو مبيكي للحل تعتمد "حوار الوثبة" كمرجعية، ولكنها تدعو لتطويره ليستوعب الحركات المسلحة. ما هي طبيعة الترتيبات الأمنية والسياسية التي على أساسها ستتوقف الحرب ويبرم اتفاق السلام؟ ما هي الشروط التي على أساسها ستشارك قوى "نداء السودان" في "الحوار الوطني" في الخرطوم؟ وما هي نوعية التوصيات التي سيخرج بها الحوار؟ هل ستتضمن حرية التعبير والتنظيم وإلغاء القوانين المقيدة للحريات ؟ هل سوف تتشكل حكومة انتقالية؟ ماذا عن العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية؟ وما هي ضمانات إنفاذ مثل هذه التوصيات؟ هذه الأسئلة المهمة من المفترض أن يجيب عليها كل من المؤتمر الوطني وقوى"نداء السودان" في المفاوضات وفي اجتماع أديس ابابا مع لجنة 7+7 ثم في طاولة "الحوار الوطني" في الخرطوم ، والسؤال الأهم ماهي الروح التي ستتحكم في نوعية الاجابات؟ هل هي روح الثبات على الدكتاتورية والاحتكار وإعادة إنتاج التمكين التي يمثلها "المؤتمر الوطني"؟ أم روح التغيير والتحول الديمقراطي التي تنسجم مع مصلحة غالبية الشعب السوداني؟ الإجابة بنعم للتغيير يجب أن تأتي من ميادين التظاهرات والاعتصامات وحشود المواطنين السودانيين الموحدة خلف أهداف سياسية بإرادة وطنية حقيقية وباستعداد عملي للتضحية من أجل فرض شروط السلام العادل والتحول الديمقراطي على النظام، ومثل هذه الحشود لا تتشكل اعتباطا أو بمجرد الأحلام والتمنيات بل هي نتيجة "استثمار سياسي طويل الأجل" في التنظيم، والإعلام، والتعبئة وكل مصادر القوة الجماهيرية على الأرض، وهذا "الاستثمار السياسي" هو الفريضة الغائبة عن الواقع السياسي السوداني! غائبة عن القوى التي وقعت على خارطة الطريق المسرفة في التفاؤل بمساندة المجتمع الدولي، وغائبة كذلك عن القوى التي تعارض خارطة الطريق وتتحدث عن الانتفاضة لإسقاط النظام والتي اختزلت الانتفاضة في معارك كلامية وخطابية ليس ضد النظام بل ضد من يفترض أنهم حلفاؤها في المعارضة من فريق"خارطة الطريق"! غياب هذه الفريضة مرتبط بعيوب بنيوية في القوى السياسية الموجودة في الساحة، لا مجال للتفصيل فيها هنا ونظرا لهذا الغياب ظلت الأزمة الوطنية طيلة عهد الإنقاذ معلقة على حبال المساومات بين النظام والمجتمع الدولي من جهة، وبين النظام والحركات المسلحة من جهة أخرى، وهذه المساومات في الماضي أدت إلى صفقة انفصال الجنوب وتجدد الحرب في الشمال واستمرار الدكتاتورية! فما العمل الآن حتى لا يتكرر ذات السناريو؟ تأسيسا على ما سبق يجب الاتجاه إلى "الاستثمار السياسي طويل الأجل في مصادر القوة" وصولا إلى تعديل ميزان القوة على الأرض ومن ثم الحديث من مواقع الإرادة والقدرة إما عن تسوية جادة وإما عن انتفاضة تطيح بالنظام. ولكن هذه الإجابة الصحيحة من الناحية النظرية تواجهها في الواقع العملي معضلة "الحرب" التي تتطلب حلا عاجلا، فليس من الإنسانية والمنطق ان تستمر معاناة الأبرياء من القتل والتشريد والمجاعات والحصار حتى يتحقق التحول الديمقراطي وهو عملية تاريخية طويلة، فواقع الحرب هو الذي يفرض الحوار والتفاوض مع النظام وفي هذا السياق يجب ان نتفهم موقف القوى التي وقعت على خارطة الطريق ولا سيما الحركات المسلحة. أقصى ما يمكن توقعه من "خارطة الطريق" هو وقف الحرب والشروع في معالجة كوارثها الإنسانية، والانتقال بالبلاد إلى مربع سياسي مختلف جزئيا عن المربع الحالي (مربع القابلية المحدودة والمشروطة للتغيير في اتجاه ديمقراطي) وهذا الهدف الذي يبدو متواضعا ليس سهل التحقيق وفقا للمعطيات الماثلة، بل يتطلب مجهودات مضنية من قوى "نداء السودان" في تطوير نفسها من حيث توسيع التحالف وتقويته والارتقاء به تنظيميا لتحقيق اختراقات جماهيرية وتعزيز شرعيته السياسية على المستوى القاعدي. أما في ظل الضعف الحالي فلن يكون هناك سوى "المشروع الاستسلامي" الذي يعمل المؤتمر الوطني ليل نهار على تسويقه إعلاميا وتكريسه سياسيا. إن تحقيق "العبور الآمن" للسودان نحو السلام والديمقراطية في ظل التعقيدات التي تسبب فيها النظام الحالي يتطلب التفكير خارج الصندوق والعمل بوسائل غير تقليدية والاستعداد بخطط مدروسة بدقة لمواجهة عدد من المعضلات الكبيرة التي تشكل تهديدا "وجوديا" للدولة السودانية. وهناك نوع من القضايا يجب ان يتصدى له المجتمع المدني والمثقفون والخبراء كل في مجاله لأنه خارج خبرة ودراية السياسيين، فعلى سبيل المثال لا الحصر هل تدارس خبراء عسكريون وأمنيون كيفية التصدي لمعضلة "المليشيات" في السودان؟ في حالة انفجار الانتفاضة مثلا من من القوات المسلحة سينحاز للشعب في ظل "تعددية القوات المسلحة" الماثلة الآن، فإلى جانب الجيش والشرطة هناك جهاز الأمن الذي تحول الى قوة مقاتلة لها سلاحها، وهناك مليشيات "الدعم السريع" عالية التسليح والمفتقرة للانضباط والتقاليد العسكرية ، وهناك الدفاع الشعبي والشرطة الشعبية، وقوات خاصة لا حصر لها، أضف إلى ذلك الحركات المسلحة التي تحارب الحكومة في ثلاثة أقاليم والفصائل المنشقة عنها، كيف يمكن ان تنمو حياة سياسية مدنية طبيعية في ظل هذا الكم الهائل من السلاح؟ وإذا خرجت "الكتلة الحرجة" إلى الشارع واختلفت هذه القوات الكثيرة بين منحاز للشارع ومدافع عن النظام ماذا سيكون مصير البلاد؟ ما هو حجم الموارد المالية وما نوع الخبرات الفنية المطلوبة لتصميم برنامج عملي لتخليص السودان من المليشيات وما هو المدى الزمني لذلك؟ وماذا عن الاقتصاد والفيدرالية والإحصاء السكاني وإصلاح الخدمة المدنية والقضاء؟ ماذا عن معضلة "الدولة العميقة" أي دولة الإسلامويين التي كرسوها على مدى أكثر من ربع قرن؟ هل مشاريع "السياسات البديلة" التي ابتدرتها بعض منظمات المجتمع المدني غطت كل هذه الجوانب باحترافية ومهنية وخطط عملية؟ ان التغيير السياسي هو الشرط الابتدائي لكل تغيير ننشده في هذه الدولة السودانية المنكوبة ولكنه لن يصمد بل لن يتحقق دون التحضير الجيد والوعي العميق بالتعقيدات المحيطة التي ترجح أن الخيار الأفضل هو قبول النظام بحل سلمي "مدفوع الاستحقاقات" يفكك نظام الحزب لصالح نظام وطني، ويعيد هيكلة الدولة بصورة تجعلها قابلة للحياة كدولة موحدة ذات جدوى لكل مواطنيها على اختلاف انتماءاتهم، ولكن أكبر عقبة في سبيل ذلك هي النظام الفاسد المستبد الذي لن يقبل بحل كهذا إلا مرغما ومحاصرا بضغوط حقيقية لا قبل له بها فكيف السبيل إلى ذلك؟ هذا هو مربط الفرس. (نقلاً عن التغيير الالكترونية). [email protected] https://www.facebook.com/rasha.awad.587