أوقفوا مسلسل إضاعة الحقوق المكتسبة !! د. محمد محمد الأمين عبد الرازق (1) الإسلام قدم "السنة" وهي عمل النبي في خاصة نفسه نموذجا لقمة السلوك الفردي، في أمر المال.. قال تعالى: "ويسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو " وقد فسر النبي الكريم "العفو" قولا وعملا، بأنه ما زاد على الحاجة الحاضرة، فكان لا يدّخر المال وكان يقول: إن خالق غد يأتي برزق غد كل غد.. هذا هو معنى "العفو" عنده وفق تحقيقه للتوحيد، فهو يعتمد على المخزون له عند الله عن يقين، وأصلا العفو هو ما يمكن أن تجود به النفس من المال من غير عنت ومشقة.. ولما كانت الأمة دون هذا المستوى التوحيدي ببعيد، فقد شرعت لها الزكاة ذات المقادير المعروفة في الشريعة السلفية وفق الآية: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم"، وطبقت في المدينة بينما ظل النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم على السنة.. أكثر من ذلك لم يكن يأكل الصدقة، وقال: "إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد" رواه مسلم.. إذن السنة هي الأصل في الدين، أما الشريعة فهي فرع وقد تنزلت من السنة لتناسب طاقة الناس وحاجتهم، ولذلك فهي ليست الكلمة الأخيرة في الإسلام فيما يختص بتنظيم الاقتصاد، فهي رأسمالية ملطفة ألزمت الأغنياء بإخراج مقدار محدد من المال لمقابلة احتياجات قطاعات محددة بنص القرآن وتعرف بمصارف الزكاة.. لكن رغم هذا التخفيف فقد شق على الناس إخراج الزكاة لعزة المال وتجذر الشح في النفوس، حتى إن بعضهم امتنع عن إخراجها بعد وفاة النبي الكريم، وكان امتناعهم هو السبب في حروب الردة المعروفة.. وبما أن السنة هي الأساس في التوحيد، المؤسس على أصول القرآن، فإن تنظيم الاقتصاد اليوم لا يمكن أن يؤسس على إخراج الزكاة كما كان الحال في الشريعة السلفية، فقد أحدث الزمن تغيرات واضحة لا يمكن تجاوزها، وظهرت إمكانيات الانتاج الكبيرة وتعقدت حاجة المجتمع إلى تأمين حياة الناس من جميع الوجوه بالمؤسسات الحديثة.. إذن يجب علينا تطوير نظامنا الاقتصادي بالانتقال من الشريعة إلى السنة، وذلك إنما يكون بتأسيس نظام اشتراكي يكفل الحياة الكريمة لكل مواطن ويترسم خطى النبي الكريم، ويحقق المباديء والقيم الرفيعة التي كان يسعى إليها بسنته الفردية، فيعف جميع الناس عن أكل الصدقات، بأن تحدد لهم حقوق وليس صدقات، وتنتفي الفوارق الطبقية التي تقف حائلا دون التزاوج بين الناس على اختلاف مستوياتهم.. هذا وقد بشر النبي الكريم بأن الإسلام إنما يعود ببعث السنة: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء!! قالوا: من الغرباء يا رسول الله!؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها"، والسنة كما بينا مستوى أعلى من الشريعة.. هذا هو معنى تطوير الشريعة إلى السنة، في الاقتصاد، وقد مرت على السودان محاولات في تنظيم الاقتصاد على منهج النظام الرأسمالي المعروف في الغرب لأن السودان كان مستعمرة بريطانية، لكنها حققت الكثير من الحقوق الأساسية للمواطن، فقد كفلت التعليم بالمجان لجميع المواطنين، وكفلت العلاج المجاني أيضا، وألزم الدستور الدولة بأن تعمل على تيسير فرص الكسب للناس بإقامة المشروعات الاقتصادية الكبيرة كمشروع الجزيرة وسائر مشروعات الإعاشة المعروفة منذ بدايات القرن العشرين، وكذلك مشروعات الخدمات كالسكة حديد.. وبعد خروج المستعمر، سارت البلاد في نفس الاتجاه، ردحا من الزمن وكان التعليم إلى ما قبل الانقاذ مجانيا في جميع المراحل، وللطلاب حق التعليم وحق الإعاشة والسكن في الداخليات، ولم يكن هناك أي احساس لدى المواطنين أو الطلاب بأن هذه الحقوق لها أي علاقة بالصدقات، فهي حقوق شرعية وفق الدستور ولذلك تتم مراقبة تنفيذها من إدارات المؤسسات التعليمية، والطلاب يراقبون تلك الإدارات عن طريق اتحاداتهم المشروعة.. إن التطور الاجتماعي غير مقيد بحركة الأديان السماوية، فهناك مراحل يعمل فيها العقل البشري بدون هداية دينية، وتسمى في الإسلام "الفترة" أما مرحلة ظهور رسالة وحي من الله فتسمى مرحلة "بعثة".. وفي مرحلة "الفترة" تنبت أعراف من التجربة على الأرض كالتي نفذها الانجليز في السودان، وعندما يبعث نبي مكلف وتبدأ مرحلة "بعثة" فإنه يعمل على تنقية تلك الأعراف فيثبت الصالح منها ويجتث الباطل بقدر النور الذي حققه بنبوته.. الشاهد في الأمر أننا، تحت تجربة الحركة الإسلامية السلفية في السلطة قد شهدنا تدهورا مريعا، في أمر الحقوق عامة والاقتصادية خاصة، فقد عجزت عن مواصلة حق التعليم بالمجان، وأثقلت كاهل أولياء الأمور بالرسوم السنوية حتى إن الكثير من المزارعين والعمال أوقفوا دراسة بناتههم وأبنائهم بسبب التكلفة التي تفوق طاقتهم، وكذلك رفعت الدولة يدها عن الإعاشة وأحالت الفقراء إلى ديوان الزكاة، باعتبار أننا إنما نطبق الشريعة، ومن ثم أدرج الطلاب غير المستطيعين تحمل تكلفة التعليم، في قائمة الفقراء مستحقي الصدقات!! وفي غضون ذلك، تحولت البلاد نحو تحرير الاقتصاد على النظام الرأسمالي، ونتيجة لسياسة التحرير، تراكم المال عند الفئة المستولية على السلطة من قيادات حركة الأخوان المسلمين وعضويتها، فانقسم المجتمع السوداني إلى طبقتين، وتحت ضغوط الفقر والحاجة حدثت هجرة مكثفة، إلى جميع أنحاء العالم من أجل لقمة العيش ومقابلة الاحتياجات الأساسية التي تتصاعد مع التحرير يوميا.. وبسبب اتساع دائرة الفقر في الداخل، زهد معظم هؤلاء المهاجرين ليس في العودة وحسب، وإنما حتى في مجرد قضاء الإجازة، تفاديا للحرج الذي حتما سيؤرق مضاجعهم عندما يعجزون عن تلبية احتياجات أسرهم الممتدة التي يستحيل تجاوزها فهي أساسيات كالتعليم والصحة وليست كماليات.. ثم انقسم المؤتمر الوطني بسبب الصراع على السلطة إلى قسمين، وطني وشعبي، فاشتعلت الفتن في أطراف البلاد المختلفة، وبرزت العنصرية في النفوس واستغلت في التشفي والانتقام.. واستمرت الحروب حتى وجدنا أنفسنا أمام السؤال الكبير: " هل يكون السودان أم لا يكون!! " أسوأ من ذلك، فإن تراكم المال في أيدي قادة المؤتمر الوطني وعضويته، مع ضغوط الحاجة والفقر قد أفرز ممارسات فاسدة ودخيلة لم يتعرض لها الشعب السوداني في تاريخه قط، كالزواج "العرفي" و "زواج المسيار" وهي حيل رخيصة تستغل آلية أقدس علاقة بين الرجل والمرأة، وهي الزواج، كوسيلة للمتعة الجنسية العابرة!! إن الاتجاه إلى إقحام الشريعة السلفية في واقعنا المعاصر، قد أثبتت التجربة أنها محاولة بعيدة من أن تحقق قيم الإسلام، وذلك لأنها، أعني الشريعة، لم تفصل أصلا لمجتمعنا المعاصر فالعيب ليس فيها هي وإنما في العقول التي تعمل على إقحامها في واقعنا المعاصر.. وبالنظر إلى التقدم في الحقوق الاقتصادية التي قلنا أنها تحققت في فترات الحكم الوطني على الرأسمالية الغربية، نجد أننا هبطنا إلى ما دونها بكثير بسبب عدم التربية الناتج عن سوء الفهم الديني، حتى صار بعضنا يتحسر على خروج الإنجليز.. وأكثر، تحولت قطاعات المثقفين نحو العلمانية كبديل للدين حسب الفهم السائد، بالرغم من أنهم يعلمون انه هوس ديني ليس إلا، والآن صار مبدأ فصل الدين عن الدولة خيار ينافس في الساحة السياسية.. إن الإصلاح في السودان مرهون باقتلاع دعوة الأخوان المسلمين والسلفيين عموما من جذورها، في النفوس، وإبعادها عن السودان، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بالفكر الإسلامي المستنير، الواعي بحاجة العصر، وبضرورة تطوير التشريع الإسلامي من فروع القرآن "الشريعة" إلى أصوله "السنة" على منهج المستوى العلمي من الإسلام.. فالمستوى العقائدي من الإسلام، الذي طبق في القرن السابع الميلادي لا يصلح، في وقتنا الحاضر، لا لإصلاح المجتمع ولا لتربية الفرد، فقد جف ضرعه تماما، ولم يبق أمام المسلمين إلا السنة فإن نكصوا عنها، فلا تنتظر غير الفتن!! الإسلام عندما يعود بنقائه وطهره، سيرتفع بالمجتمع إلى مستوى أرفع في العدالة وأعلى بكثير من النجاحات التي تحققت على عهد الفترة، لا دونها كما رأينا في السودان ولا نزال.. ولقد حذر الأستاذ محمود محمد طه كثيرا، ومنذ عقود من الزمن، من خطورة الفهم الخاطئ على الدعوة إلى الإسلام، وعلى مستقبل البلاد عامة، ففي كلمة نشرت بجريدة (أنباء السودان) بتاريخ 6 / 12 / 1958م جاء ما يلي:: ( دعاة الفكرة الإسلامية في هذا البلد كثيرون، ولكنهم غير جادين، فهم لا يعكفون على الدرس والفكر، وإنما ينصرفون إلى الجماهير، يلهبون حماسهم، ويستغلون عواطفهم، ويجمعونهم حولهم بغية السير بهم، إلى ما يظنونه جهلا دستورا إسلاميا.. وهم إنما ينصرفون عن الدرس والفكر، ظنا منهم أن الفكرة الإسلامية موجودة ومبوبة ومفصلة، لا تحتاج إلى عمل مستأنف، ولا إلى رأي جديد.. فلست أريد أن أشق على أحد من دعاة الفكرة الإسلامية، فإن أكثرهم أصدقائي، ولكن لا بد أقرر أن في عملهم خطرا عظيما على الإسلام وعلى سلامة هذا البلد.. ثم يجب أن نعرف جيدا أن الإسلام بقدر ما هو قوة خلاقة خيرة إذا ما انبعث من معينه الصافي، واتصل بالعقول الحرة وأشعل فيها ثورته وانطلاقه، بقدر ما هو قوة هدامة اذا ما انبعث من كدورة النفوس الغثة، وأثار فيها سخائم التعصب والهوس.. فإذا ما قدر لدعاة الإسلام الذين أعرفهم جيدا، أن يطبقوا الدستور الإسلامى الذى يعرفونه هم، ويظنونه إسلاميا، لرجعوا بهذه البلاد خطوات عديدات إلى الوراء، ولأفقدوها حتى هذا التقدم البسيط، الذي حصلت عليه في عهود الاستعمار، ولبدا الإسلام على يديهم، كأنه حدود، وعقوبات، على نحو ما هو مطبق فى بعض البلاد الإسلامية، ولكانوا بذلك نكبة على هذه البلاد، وعلى الدعوة الإسلامية أيضا ) .. انتهى.. ………………… (2) انتهينا في الحلقة السابقة إلى تقرير حقيقة أن الحقوق التي اكتسبها الشعب، من تجربته مع الاستعمار والحكم الوطني وهي حقوق أساسية، قد تناقصت بل أهدرت تماما خلال حكم الإنقاذ منذ 89 وإلى يومنا هذا.. فيما يلي أقدم هذه الفقرة من كتب "الإسلام" للأستاذ محمود حول أسس النظام الاشتراكي وفق أصول القرآن: ( لقد آن الأوان لتفصيل الرسالة الثانية، وذلك بالنظر في تكميل تشريع الرسالة الأولى، بتطويره ليحقق قسطا أكبر من الهدف الديني، والعمدة في التطوير أمران، حاجة المجتمع الحاضر، وروح الإسلام، كما كان يعيشها المعصوم.. فأما روح الإسلام، كما كان يعيشها المعصوم، فهي الحرية الفردية المطلقة، وأما حاجة المجتمع الحاضر فهي العدالة الاجتماعية الشاملة، ولا تتم العدالة الاجتماعية الشاملة إلا إذا قامت على ثلاث مساويات: المساواة الاقتصادية، والمساواة السياسية، والمساواة الاجتماعية.. فأما المساواة الاقتصادية، فهي أن يكون هناك حد أعلى لدخول الأفراد، وحد أدنى، على أن يكون الحد الأدنى مكفولا لجميع المواطنين، بما في ذلك الأطفال، والعجائز، والعاجزين عن الإنتاج، وأن يكون كافيا ليعيش المواطن في مستواه معيشة تحفظ عليه كرامته البشرية، وألا يكون الفرق بين الحد الأدنى، والحد الأعلى، أكبر من سبعة الأضعاف، حتى لا يكون هناك تفاوت طبقي، يجعل الطبقة العليا تستنكف أن تتزاوج مع الطبقة السفلى.. وتحقق المساواة الاقتصادية بالاشتراكية، وهي عبارة عن زيادة الإنتاج، باستخدام الآلة، وبتجويد الخبرة الإدارية، والفنية، ثم عدالة توزيع هذا الإنتاج، على الأسس التي سبق ذكرها، ولا تقوم الاشتراكية إلا على تحديد الملكية الفردية بما لا يتعدى إلى وسائل الإنتاج.. فللمواطن أن يملك المنزل، والحديقة حوله، والأثاث داخله، والسيارة وما إلى ذلك، مما لا يتعدى إلى ملكية الأرض، أو المصنع، أو أي من وسائل الإنتاج، وحتى في هذه الحدود الضيقة، تكون الملكية ملكية ارتفاق لا ملكية عين.. وهذا يعني أن ينتقل التشريع من آية الزكاة الصغرى ( خذ من أموالهم صدقة، تطهرهم، وتزكيهم بها، وصل عليهم ) إلى آية الزكاة الكبرى ( يسألونك ماذا ينفقون ؟ قل العفو!! ) و (العفو) كل ما زاد عن حاجتك الحاضرة، من غير ادّخار، ولا كنز، وهذا ما كان يفعله المعصوم، وهو روح الإسلام.. ويجب أن يكون مفهوما، فإن الملكية الفردية تحدد بما حددناها به، لتكون الملكية للجماعة، لا للدولة، وفي ذلك احتراز من نشوء الحكومة المركزية، القوية، ذات الإدارة المتشعبة، الكبيرة المتغولة، التي تفوت على الناس فرص المساواة السياسية في سبيل المساواة الاقتصادية.. فالملكية للجماعة، تدار بأساليب التعاون، يقوم فيها الناس بخدمة أنفسهم، لا ينتظرون من الدولة إلا التدريب المهني والإداري، والمشورة الفنية، والإشراف العام المنسق للتعاون بين أجزاء القطر المختلفة، وكل أمر يستطيع الناس أداءه بدون توسط الدولة يترك لهم أداؤه، ويتبع المساواة الاقتصادية المساواة في جميع الفرص وجميع الحقوق ..) انتهى.. إن التربية الروحية للفرد، هي التكليف الأساسي لدعوات الأنبياء من لدن آدم، وإلى محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.. ولذلك وظف النبي الكريم حياته من أجل إحداث تغيير في أخلاق الناس بالدعوة بالمنطق، والقدوة الحسنة، في مكة على مدى ثلاثة عشر عاما، كأساس لترقية المجتمع، ولذلك عندما قامت الدولة في المدينة كانت القامات الفردية التي تربت في مكة هي الأعمدة، المتينة الذي تأسس عليه بنيان دولة المدينة.. أما تنظيم الأخوان المسلمين، في السودان فقد عصف بهذا المبدأ الأساسي، فلم يول، خاصة تحت قيادة د. حسن الترابي، أي اهتمام بالتربية الروحية التي هي صمام الأمان للفرد من الانزلاق، والسقوط في شهوات النفس السفلى مثل حب التسلط وكنز المال على حساب العدالة.. ونقص التربية والترشيد، في تنظيم الأخوان المسلمين إنما مرده إلى غلبة روح التنظيم، على العمل التربوي، ذلك بأن حركة التنظيم قد نشأت على أساس المواجهات السياسية، والمصادمات الدموية، والتصفيات الجسدية من أجل السلطة، فصار الاهتمام عندهم منصبا على ما يقوم به العضو من عمل خارجي في اتجاه العنف، أكثر من العناية بالتربية الداخلية في تهذيب النفس.. القدر البسيط من التربية الذي يتلقاه العضو، إنما يهدف إلى أن يخلق في العضو درجة عالية من الحماسة والتدافع نحو التضحية، وإلحاق الأذى بالآخرين لخدمة أغراض التنظيم العنيفة من غير ضابط ديني، فكأن عدم التربية عندهم، صار هو التربية !! أسوأ من ذلك، فإن التعاليم التي تتلقاها العضوية من مرشديها، إنما تعمل على تعميق روح الوصاية، والاستعلاء على كافة الناس ممن لا ينضوون تحت لواء التنظيم.. فالأخ المسلم ولو كان عمره في التنظيم لا يعدو أيام قلائل، إنما يوجه من قادته، ليشعر بكمال دينه، ونقصان دين الآخرين، ويسمي الأستاذ سيد قطب ذلك " استعلاء الإيمان"، ويفرد له بابا كاملا تحت هذا العنوان في كتابه "معالم في الطريق"!! إن مثل هذه التوجيهات تؤثر سلبا على نفوس الشباب، بما تبذره من الاستخفاف بقيم المجتمع، والجرأة على الكبار، وبما تصرفهم عن النظر إلى العيوب الذاتية التي هي تكليف الفرد الأساسي.. وما مظاهر التعصب والتشنج، والميل إلى العنف والإرهاب والإثارة، التي عرف بها الأخوان المسلمون، في جميع الأوساط إلا انعكاسا طبيعيا لضعف قيم التربية الدينية.. ونورد هنا أحد إرشادات وتوجيهات الشيخ حسن البنا، مؤسس التنظيم: ( نحن، أيها الناس ولا فخر، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملة رايته من بعده، ورافعوا لوائه كما رفعوه، وناشروا لوائه كما نشروه، وحافظوا قرآنه كما حفظوه، والمبشرون بدعوته كما بشروا، ورحمة الله للعالمين، " ولتعلمن نبأه بعد حين".. أيها الأخوان المسلمون: هذه منزلتكم، فلا تصغروا أنفسكم فتقيسوا أنفسكم بغيركم !!) !! هكذا يضع الشيخ حسن البنا أعضاء تنظيمه في منزلة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي !! فهو كمربي ومرشد، بدلا من أن يدعوهم إلى النظر إلى دخيلتهم لإصلاح عيوب السلوك، يشغلهم بادعاء مقامات الصحابة، وبالفضيلة على كل أحد خارج تنظيمهم!! إذن، وكما هو واضح فإن السلطة عند الأخوان المسلمين مقدمة على التربية، فهم يرون أن تفاصيل الفكرة الإسلامية إنما هو أمر يجيء الاهتمام به بعد الاستيلاء على السلطة، معتمدين في ذلك على فهم خاطئ للقولة الحكيمة: " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" وفات عليهم أن السلطان المعني هنا إنما هو السلطان الذي جسد القرآن، وتأدب بأدبه، وتربى بتربيته وليس مجرد السلطان.. وهذا يعني أن التطبيق الجماعي للتشريعات الإسلامية إنما يقوم على أرضية من التربية ثابتة في النفوس، تجعل سلطان القانون مكمل لها، ومهمته سد الثغرات عند من يعجزون عن الانضباط المطلوب، في المجتمع.. في إطار محاولة الأخوان المسلمين احتواء نظام مايو، بعد المصالحة الوطنية عام1977م، استخدموا جميع وسائل الإرهاب الديني لتغفيل السلطة واستغلالها لجمع المال.. فضغطت لتعديل القوانين لتتمشى مع الشريعة، لأن مشكلتنا الحقيقية، حسب أقوالهم، هي عدم تطبيق الشريعة، فهم لقلة تفكيرهم، كانوا يظنون أن مجرد إعلان تطبيق الشريعة هو الحل، وليس هناك حاجة للدراسات والفهم والبرامج العلمية.. ولذلك اتجهوا إلى السيطرة على البنوك بإدخال النظام الإسلامي حسب زعمهم، بدل نظام الفائدة التقليدي، فأنشأوا بنك فيصل الإسلامي للسيطرة على المال باسم الدين.. وقد مرت في مايو، تحت الضغط الديني، كل خطط التضليل، والخداع، فقد قال د. الترابي في كلمة بجريدة الأيام يوم 23/12/1977م: " فقد جاء الأخ جعفر إلى السلطة يحاول الشيوعيون اكتنافه وتسخيره، للإحاطة به ثم الانقلاب عليه فغالب أمرهم ونصره الله عليهم " هذا ما قاله الترابي وهو أراد أن يقول إن مشكلتنا مع نميري كانت هي تحالفه مع الشيوعيين!! مع إن الإخوان المسلمين ظلوا يعارضون مايو، بعد أن ضربت الشيوعيين عام 1971م، بسبب انقلاب هاشم العطا، ولخمس سنوات، وذلك بالمظاهرات في شعبان وغيرها، واشتركوا في كل محاولات الانقلاب العسكري ضد مايو، حتى الغزو الأجنبي عام 1976م!! ثم قال في نفس الكلمة حول ضرب الجزيرة أبابا: " ومهما كان من سياسات اتخذتها مايو إزاء الطائفية فقد انكسرت اليوم شوكتها!! " هذا قوله عن أحداث الجزيرة أبا التي اشترك فيها الأخوان المسلمون مع الأنصار، وقتل فيها ممثلهم الدكتور محمد صالح عمر!! إن الهدف من هذا الخداع هو تخدير نميري، وتغفيله بالتملق، لتمرير مخطط تقويض السلطة من الداخل.. وفي نفس الاتجاه فقد تمكن الأخوان المسلمون من إنشاء بنك فيصل بعد المصالحة، كما أسلفنا، للإقبال على المال العام والخاص!! ففي عام 79-1981م، وبسبب المتاجرة بالشريعة، واستغلال العاطفة الدينية، ارتفع حجم التمويل لدى البنك بنحو 318%، بينما لم تتجاوز الزيادة في حجم التمويل لدى البنوك الأخرى مجتمعة نسبة 56%!! هذا وقد نال البنك من الإعفاءات الضريبية والامتيازات ما لم تنله البنوك المملوكة للدولة!! راجع كتب بنك فيصل الإسلامي الأخوان الجمهوريون.. وبعد استلام السلطة عام 89 بالانقلاب العسكري، وجد تنظيم الأخوان المسلمين فرصة التحكم في كل إمكانيات البلاد، وتوظيفها لخدمة التنظييم، ففصلوا للصالح العام جميع معارضيهم لتمكين السلطة بأيديهم، ثم تحولت قياداتهم إلى راسماليين كبار باستغلال السلطة وبسياسة التحرير والخصخصة تمكنوا من شراء مؤسسات الدولة بأبخس الأثمان.. وعندما وقع الانقسام الشهير وطرد الترابي من السلطة، بسبب الصراع عليها انقسموا إلى تنظيمي الوطني والشعبي، وصرح أحد قادة الشعبي في الخارج: عندما كنا سويا في السلطة لا فرق بين أموال الدولة وأموال الحركة الإسلامية!! وقال الترابي: لم أعد أؤمن بنظرية عدم التدخل في شئون الدول، في محاولة لاستدراج المجتمع الدولي لضرب الانقاذ واقتلاعها من جذورها بهدف الانتقام والتشفي!! فالحركة الإسلامية دينها وإيمانها هو السلطة والمال!! فهم في حقيقة أنفسهم لا يسعون إلى السلطة من أجل الإصلاح العام وإنما من أجل أنفسهم فقط، ولذلك لا يمكن أن تحل مشاكل البلاد مالم تزال هذه العقبة من الطريق، بتصحيح أفكارهم في دواخلهم أو باقتلاعهم من جذورهم خارج السلطة.. إن بلادنا، فى فقرها هذا، عزيزة بأصالة شعبها، غنية بإمكانات أرضها الثرّة، وسمائها المدرارة، فهى لا تفتقد الاّ جهد، وعرق، بنيها لتصبح، بإذن الله، طليعة للعالم فى كل شىء.. فلا تجوع إذ يجوع الناس، ولا تبتئس إذ يبتئسون، وإنما هى التى يناط بها أن تمسح من على وجوه الحزانى حزنهم، وتزيل عن المستضعفين ضعفهم، وشقاءهم.. بلادنا هذه يجب أن يستشعر بنوها، وبناتها، مسؤوليتهم، فى هذه المرحلة الحاسمة.. وأول خطوة في طريق الإصلاح إنما هي محو الفوارق الطبقية التي خلقتها الحركة الإسلامية، بأن نعمل على مساواة السودانيين في الفقر إلى أن يتساووا في الغنى.