الوعي الجماهيري عبد العزيز حسين الصاوي " الوعي الجماهيري " .. هذا مصطلح قادم من عهد بعيد . منذ الخمسينات وحتي اوائل السبعينيات عندما كانت للشارع حيوية كبيرة بمختلف انواع التعبير .. المواكب، الاضرابات ومختلف انواع الضغوط علي السلطات الحالكمة، ثورة اكتوبر كانت اكثرها وضوحا .. في اساس هذه الحيوية ومصدرها الاهتمام الشعبي الواسع بالعمل العام السياسي وغير السياسي. هذا لم يعد الواقع الان ومنذ زمن .. سنلاحظ علي طريق التراجع في هذه الحيوية ان مستوي التحركات الجماهيرية في ابريل 1985 ضد نظام مايو كانت اضعف كثيرا بالمقارنة للتحركات في اكتوبر 1964 لذلك اطلقنا عليها مصطلح انتفاضة وليس ثوره .. نأخذ احوال قطاع الشباب الان باعتباره مقياس الحرارة الاكثر دقة من غيره علي مستوي الحيوية الجماهيرية في بلد يشكل فيه الاقل من ثلاثين عاما في العمر 60% من تعداد سكانه .. في فبراير الماضي حلت الذكري السنوية لوفاة محمود عبد العزيز … أمتلأ استاد المريخ عن اخره بجموع الشباب والشابات وفاض بوسترات في الشوارع وتعليقات وتحليلات في الصحف.. هذا الشاب جسد بموهبته الصوتية وذكائه الاجتماعي طموح قطاع كبير من الشباب السوداني للتمرد .. ولكنه تمرد غير بناء وانصرافي عن القضايا العامة .. فالالتفاف المنقطع النظير حول محمود عبد العزيز كان اقرب للتنفيس عن الكبت المتعدد الاوجه الذي لايعرف طريقا البديل .. علي الضفة الشبابية الاخري سلفيون اشكالا وانواعا منهم الداعشيون.. هنا ايضا تمرد غير بناء لقطاع كبير من الشباب اختار بديل الاخرة ضد بديل عمار الدنيا، طريقا الي السماء. وبين القطاعين لامبالون . والانكي من كل ذلك ان القلة القليلة من القراء السودانيون صحيفتهم المفضلة هي صحيفة "الانتباهة " وبفارق كبير بينها وبين الصحيفة التالية، في إحصائيات التوزيع الرسمية. لذلك كله ليس غريبا ان يكون المظهر الاساسي للاهتمام بالعمل العام لدي الجماهير هو سيل النكات والتعليقات الساخرة التي تمتلئ بها مواقع الانترنت والتلفونات الذكيه .. والاحزاب تنقسم وتتشتت لان مصدر نموها وتماسكها نضب وتبخر بينما حزب الحكومة يفتخر بورم هو الشحم بعينه ويجد فرصته لممارسة العبث بغيره من الاحزاب لان قابليتها علي صده اضحت في خبر كان. في تقديري إن حالة الضعف الشديد في الوعي الجماهيري هذه مظهر لضعف قدرة المجتمع السوداني عموما علي مقاومة الشمولية كثقافة واسلوب حياه .. هذه الشمولية تتجسد في شكلها الملموس والظاهر في الانظمة السياسية الدكتاتورية ولكنها موجودة ايضا في الاحزاب والحركات ذات الايديولوجيات الشمولية يسارا ويمينا ووسطا وطبعا في الحياة الاجتماعية والاسرية. المجتمع السوداني .. الجماهير السودانية نخبا وشعبا .. خضعت لدورة شموليات متصاعدة الشدة طوال فترة مابعد الاستقلال تقريبا انتهت بها الي شلل تام في القدرة علي التفكير المستقل والنقدي .. لم يعد هناك جماهير … لان التعريف البسيط لهذا المصطلح هو تشابه وتقارب المزاج والتطلعات والعمل المشترك بين السودانيين عبر انتماءاتهم الاولية في القبيلة والجهة والمجموعة الاثنية .. فطول فترة الاستبداد السلطوي واشتداد وطأته كسرت العمود الفقري لهذه القدرة وهو النظام التعليمي بتحويله الي اداة للشحن والتعبئة للاتجاه الفكري الواحد يمتنع فيه التعدد وحرية التفكير انعكاسا لانعدامهما في المجال العام كله … وعندما اختلط ذلك في الشمولية الاخيرة بمادة دينية خام نصوصية وتراثية كثيفة هي بطبيعتها قابلة للامتصاص دون تفكير، كان التأثير ساحقا حقا علي العقل العام .. وبما ان اولويات الانظمة الشمولية غير منتجة تنمويا ( الجيش ، الامن ، الاعلام ) فأن تدهور ظروف المعيشة لدي الاغلبية شكل دفعة قوية في اتجاه التخلي عن التفكير العقلاني واللجوء الي الغيبيات الخالية من الروحانيات العميقة. ومثلما عدنا الي الاسلام بالطريق الخطأ فاصبح قوة تعطيل بدلا من الدفع التطويري عدنا الي القبيلة والاثنية بنفس الطريق فاصبحت حصونا ضد الانتقال الي الانتماء الوطني وليس كما حدث سابقا عندما انتقلت الي الاطر الطائفية الاوسع خطوة باتجاه هذا الانتماء. هذه الحالة، حالة الضعف الشديد في الوعي الجماهيري النخبوي والعجز الذهني والنفسي عن مقاومة الشمولية، تطور تدريجي يعود الي بداية المعركة ضد الاستعمار البريطاني علي الاقل .. المجتمع السوداني لم يكن قبل ذلك مؤهلا لبناء ديموقراطية بالمعني الحديث للكلمه لانه كان اسير الروابط الموروثة في القبلية والجهويه وفي الفهم التقليدي للدين والتراث.. ولكن من المفارقات ان الاستعمار البريطاني هو الذي فتح امامنا نافذة للتحرر من ثقل هذه الموروثات وبالتالي اكتساب القدرة علي بناء نظام ديموقراطي اساسه الوحيد هو توفر المقدرة لدي الفرد علي الاختيار الحر بتحرره من الموروثات القديمه.. المدرسة والمصنع والزراعة الحديثة والانفتاح علي العالم، كانت هي الادوات التي وفرها الاستعمار لتمكين سلطته ولكنه كان عاجزا عن السيطرة علي اثرها في تنمية وعي حديث ديموقراطي ومناقض للشموليه. ظهرت الحركة الفكرية والثقافية والسياسية العصريه منذ العشرينات متطورة باطراد . لماذا إذن تراجع معدل نمو هذا الوعي علي مستوي الجمهور العام والنخب الحديثه حتي توقف تماما كما يبدو الان؟ اعتقد ان السبب الرئيسي لذلك هو اننا خضنا معركة الاستقلال دون تمييز بين السلبي والايجابي في الوجود الاستعماري ..بتأثير من نموذج الصدام العنيف ضد الاستعمار الذي جسدته الثورة المهدية ضد الاستعمار التركي،بالاضافة الي رد الفعل الانساني الطبيعي ضد الاستعمارالبريطاني كوجود اجنبي وتحريرا للارادة الوطنية، دخلنا في صراع انقطاعي وليس تفاعلي مع الاستعمار البريطاني .. صراع يرفض بصراحة وجوده السياسي والعسكري والاقتصادي ولكنه يرفض ضمنا كونه وجود مرتبط بأهم تجربة للديموقراطية في تاريخ العالم المعاصر..تمثل هذا الرفض الضمني بأوضح صوره في ان الحركتين الحديثتين اللتان نشأتا نتيجة الاثار الايجابية الجانبية في العلاقة الاستعمارية، وهما اليسار واليمين باشكالهما الحزبية وغير الحزبية كانتا معاديتين للديموقراطية السياسية ، كل بطريقته ووفق ايديلوجيته .. بعبارة اخري نخبة مابعد الاستقلال التي كان المعول عليها في تجاوز الطائفية السياسية الاتحادية والاستقلالية وتنمية الوعي المعادي للشمولية ونشره في اوساط الجماهير والاجيال الجديدة ، اضحت هي نفسها أداة لاهدار هذا الوعي وطمسه وتبديده…طبعا كانت هناك اسباب موضوعية لذلك منها ان الروابط القبلية، روابط ماقبل الاستنارة والمجتمعات الصناعية، كانت لاتزال قوية التأثير وان هذه النخب كان وزنها الكمي والنوعي ضئيلا .. ومنها ان العالم الثالث كان في خلال تلك الفترة ميالا الي الانظمة الاشتراكية غير الديموقراطيه .. بنماذج عبد الناصر وسوكارنو ونكروما ..ولكن هذه التيارات استمرت علي نفس الطريقة وبنفس التفكير حتي بعد ان ثبت ان الديموقراطية هي المخرج الوحيد لحفظ كرامة الانسان وتحقيق مطالبه في السعادة المادية والمعنويه.. واكثر من ذلك حتي بعد ان ثبت ان غيابها يهدد وحدة البلاد وبقائها المجرد. اسباب هذا الاستمرار معقده لذلك يصعب الدخول فيها هنا ، كما ان هناك محاولات مناقضة لها تصدت لها بعض القيادات اهمها في تقديري هي مجهودات قيادة الصادق المهدي في حزب الامه، ولكن النتيجة كانت توالي الانظمة الدكتاتورية التي زادت الطين بله عندما سدت الطريق الرئيسية لمراجعة الاخطاء والايديولوجيات .. وهو حرية التفكير والعمل السياسي والثقافي بحجة تحقيق التنمية ومجابهة الاخطار الخارجيه حماية للسيادة الوطنيه ، كما هو حال كافة الانظمة الدكتاتورية.. واقع الحال في دولة الانقاذ الان ان التنمية علي علاتها تنمية غير بشريه لانها تتم علي حساب ادني احتياجات الانسان السوداني والسيادة في مهب الريح والوطن يتفتت مشاعر وافكار وترابا. الطريق نحو الخروج من هذا المأزق التاريخي طويل ومعقد طول وتعقيد الفترة والعوامل التي تشكل فيها ولكن بؤرته الرئيسية والعنصر الرئيسي الذي يحدد مساره هو إعادة تكوين عقل الانسان السوداني والتوجه نحو تحريره من ضعف الوعي الناتج عن تراجعه نحو الماضي القبلي والتراثي … وهذا غير ممكن إذا لم تتركز الجهود ، في المرحلة الاولي، علي تنشيط دور الفرد السوداني في الحياة العامة وذلك من خلال القضايا الاقرب الي اهتمامات قطاعاته المختلفة، اي النشاطات المجتمعية اللاسياسية، مع ايلاء اهتمام خاص لما يتعلق منها بأصلاح النظام التعليمي لكونه الوسيلة الرئيسية للتنوير وترقية الوعي العام. ( مداخلة مقتضبة في ندوة مؤسسة جسر الاعلاميه يوم 26 مارس 2016 ).