هجمات بمسيرات استهدفت ميناء ومطار بورتسودان وفندقا في المدينة    صور خاصة للعربية للحرائق في ميناء بورتسودان عقب هجوم بمسيرة    . إلغاء رحلات جوية عقب استهداف مطار بورتسودان بمسيرة    الناطق الرسمي للحكومة: قضية الأمة السودانية ضد دولة الإمارات لن تتوقف عند محطة المحكمة الدولية    ما هي "الخطة المستحيلة" لإيقاف لامين يامال؟ مدرب إنتر يوضح    ((منتظرين شنو أقطعوا العلاقات واطردوا سفيرهم؟؟))    تركيا تعلن استنكارها استهداف المرافق الحيوية ببورتسودان وكسلا بمسيرات المليشيا المتمردة    كيف سيواجه السودان حرب الصواريخ والمسيّرات؟!    أموال طائلة تحفز إنتر ميلان لإقصاء برشلونة    وزير الطاقة: استهداف مستودعات بورتسودان عمل إرهابي    شاهد بالصورة والفيديو.. وسط سخرية الجمهور.. خبيرة تجميل سودانية تكرم صاحبة المركز الأول في امتحانات الشهادة بجلسة "مكياج"    شاهد بالفيديو.. أفراد من الدعم السريع بقيادة "لواء" يمارسون كرة القدم داخل استاد النهود بالزي الرسمي والأسلحة على ظهورهم والجمهور ينفجر بالضحكات    عبد الماجد عبد الحميد يكتب: معلومات خطيرة    تشفيره سهل التحرش بالأطفال.. انتقادات بريطانية لفيسبوك    باكستان تجري تجربة إطلاق صاروخ ثانية في ظل التوترات مع الهند    بعقد قصير.. رونالدو قد ينتقل إلى تشيلسي الإنجليزي    ((آسيا تتكلم سعودي))    "فلاتر التجميل" في الهواتف.. أدوات قاتلة بين يديك    ما هي محظورات الحج للنساء؟    شاهد بالفيديو.. هدى عربي وحنان بلوبلو تشعلان حفل زواج إبنة "ترباس" بفواصل من الرقص المثير    المريخ يواصل عروضه القوية ويكسب انتر نواكشوط بثنائية    شاهد بالصورة والفيديو.. بالزي القومي السوداني ومن فوقه "تشيرت" النادي.. مواطن سوداني يرقص فرحاً بفوز الأهلي السعودي بأبطال آسيا من المدرجات ويخطف الأضواء من المشجعين    تشيلسي يضرب ليفربول بثلاثية ويتمسك بأمل الأبطال    توجيه عاجل من وزير الطاقة السوداني بشأن الكهرباء    وقف الرحلات بمطار بن غوريون في اسرائيل بعد فشل اعتراض صاروخ أطلق من اليمن    الجيش يوضح بشأن حادثة بورتسودان    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مِزاجُ الجَّماهِير
نشر في حريات يوم 02 - 11 - 2016


(1)
أنماط التفكير الميكانيكي وحدها هي التي يمكن أن تتورَّط في اعتبار (الأيديولوجيا) المحضة، كتركيبة صارمة من النُّظريَّات والنُّظم والعقائد، هى المكوِّن الوحيد ل (الوعي) الاجتماعي) بمعزل عن (السَّايكولوجيا الاجتماعيَّة)، في حين أن (الوعي الاجتماعي)، كمقولة سوسيولوجيَّة، يفوق (الأيديولوجيا) المحضة وسعاً وعمقاً، من حيث الطابع المعقَّد وغير المنتظم لتشكيل طبقاته layers، ومن حيث شموله، ليس للدِّين والفلسفة والعلوم الاجتماعيَّة والطبيعيَّة، فحسب، بل ولحياة الشَّعب النَّفسيَّة والعاطفيَّة والأخلاقيَّة أيضاً، بحيث أن ما يندرج ضمنه من المضامين، ومن بينها موضوعة (المزاج)، أكثر مِمَّا يندرج ضمن (الأيديولوجيا) المحضة بما لا يقاس. غير أن هذا لا يعني، قطعاً، أن (السَّايكولوجيا الاجتماعيَّة) لا تتأثَّر (بالأيديولوجيا)، إنَّما يعني، فقط، أنَّها تمتاز عنها بالسَّبق، من النَّاحية التَّاريخيَّة، وبالتَّجلي في مستوى الخصوصيَّة الدَّقيقة للنَّسيج الثَّقافي والنَّفسي الذي يشكِّل، على نحو عفوي، جماع المشاعر العامَّة، والانفعالات و(الأمزجة) والأذواق والعادات والسُّلوكيَّات، مِمَّا يمكن أن ينسب إلى جماعة ما، أو إلى طبقة أو فئة اجتماعيَّة، أو إلى شعب أو أمَّة .. الخ.
ولأن (مزاج) الشَّعب لا يتمظهر كحالة معزولة عن مستوى (وعيه الاجتماعي) خلال الحقبة التَّاريخية المعيَّنة من حياته، فإن الذين يولون اعتباراً خاصَّاً لاستقصاء هذا (المزاج) في العمل السِّياسى يلاحظون، ولا بُدَّ، أن مؤشِّراته ظلت تسجِّل، منذ فجر الحركة الوطنيَّة في بلادنا، وحتى يوم الناس هذا، ميلاً قوياً باتِّجاه (تكاتف) و(وئام) و(وحدة) الصَّفِّ الوطني، ونفوراً واضحاً من (الخلاف) و(الفرقة) و(الشِّقاق) حول القضايا الأساسيَّة، وأهمها إحلال السَّلام، وبناء النِّظام الدِّيموقراطي، وبسط الحريَّات والحقوق، وضمان العدالة والمساواة، وتجنيب البلاد التَّمزُّق والانقسام، وأوضاع التَّبعيَّة للقوى الأجنبيَّة، مِمَّا يتجلى، أكثر ما يتجلى، في الأغاني، والأهازيج الوطنيَّة، وسائر تعبيرات الوجدان الشَّعبي، والعقل الجَّمعي للجَّماهير. ولعلَّ في ذلك تفسيراً أوليَّاً سديداً لخلود (عزة الخليل)، مثلاً، على الصعيد الإبداعي، وانطفاء العشرات غيرها من القصائد والأغنيات التى سعت لتمجيد أحوال سياسيَّة أضيق من (مزاج) الجَّماهير التى توجَّهت إليها، ولا أبرِّئ نفسى، فقد كنت مِمَّن حسبوا (نحاس) مايو (ذهباً) أوَانَ غَرارةٍ ابداعيَّةٍ باكرة!
وهكذا ، فإن أيَّة محاولة للتعرُّف على (الإرادة) الشَّعبية العامَّة بالاستناد، فقط، إلى أنماط القياسات الميكانيكيَّة المبسَّطة، لدرجة انعكاس العلاقات الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة من مستوى البنية التحتيَّة infrastructure إلى مستوى البنية الفوقيَّة superstructure، وإهمال الحالة الرُّوحيَّة الأخلاقيَّة التى تلعب الدَّور الأكثر حسماً في تحديد (مزاج) الجَّماهير الشَّعبيَّة، لهي محاولة محكوم عليها بالفشل الذَّريع، بل إنها لتتساوى، فى نتائجها النِّهائيَّة، مع عدم الإقرار، أصلاً، بجدوى التعرُّف على هذه (الإرادة) الشَّعبيَّة لدى تحديد الخيار أو الموقف السِّياسى.
(2)
وإذا كان التَّدليل على صِحَّة هذا الحكم لازماً فباستطاعتنا إيراد ما لا حصر له من النَّماذج، على أننا سنكتفي، هنا، ولأغراض هذه المقالة، بنموذجين ساطعين، أحدهما من معسكر المعارضة، والآخر من معسكر الحكم:
النموذج الأول: هو حسابنا غير الدَّقيق، كشيوعيين، ل (المزاج) الشَّعبى العام الذي أحاط ب (اتفاقيَّة الحكم الذَّاتي) أواخر فبراير 1953م. فعلى الرغم من أن تلك الاتفاقيَّة التي وقَّعتها الحكومتان البريطانيَّة والمصريَّة مع كلِّ الأحزاب السُّودانيَّة، ما عدا (الحركة السُّودانيَّة للتَّحرُّر الوطني حستو)، قد أرجأت، ولمدَّة ثلاث سنوات هى فترة الحكم الذَّاتي، تحقيق مطالب الشَّعب بالجَّلاء النَّاجز، وحقِّ تقرير المصير، وبناء وطن ديموقراطي حر، وضربت، فوق ذلك كله، قيوداً إضافيَّة على الحريَّات، ووفَّرت للحاكم البريطاني العام من السُّلطات والصَّلاحيَّات ما يمكِّنه من تدعيم النُّفوذ الاستعماري، وممارسة شتَّى أساليب الضَّغط على البرلمان، إلا أن (مزاج) الجَّماهير والرأي الشَّعبي العام كان قد التفَّ، وقتها، بقوَّة حول تلك الاتفاقيَّة، استناداً إلى تصوُّرها مستجيبة لأشراطه، إلى حدِّ أنه لم يعُدْ مستعداً لتقبُّل أىِّ موقف معارض أو ناقد لها، بالغاً ما بلغ من الدَّوافع الوطنيَّة، كالموقف الذى اتخذته (حستو)، مثلاً، وتضمَّنه كتيِّب (الاتفاقيَّة في الميزان) للشَّهيد قاسم أمين.
فبصرف النَّظر عن معقوليَّة الأساس الذى انبنى عليه ذلك النَّقد وتلك المعارضة، من حيث الشُّكوك فى نوايا الاستعمار الحقيقيَّة تجاه المطالب الشَّعبيَّة، انطلاقاً من هاجس الحدب على تجنيب قضيَّة الدِّيموقراطيَّة والحريَّات في الدَّولة الوطنيَّة المستقلة مزالق المؤامرات الاستعماريَّة، وبعيداً عن المعايير الموضوعيَّة (الباردة) للصَّواب والخطأ فى ذلك الموقف، وبرغم نضالات الشِّيوعيين المشهودة، طوال السَّنوات السَّابقة على الاتفاقيَّة، فى سبيل الاستقلال، وإسهامهم غير المنكور في استنهاض طاقات الجَّماهير باتِّجاهه، ودفعهم الدءوب لجهود بناء المنظمات النقابيَّة والمهنيَّة والفئويَّة لأجله، وما لازم ذلك من دواس ضروس خاضوه، على شحِّ إمكاناتهم الماديَّة، مع آلة الإدارة الاستعماريَّة وأجهزة مخابراتها، وسقوط أنبل أبنائهم، كالشَّهيد قرشى الطيِّب، في سوح معارك (الجَّمعيَّة التَّشريعيَّة) فى الخرطوم وعطبرة وغيرهما، بل وعلى الرُّغم من أن الأيَّام وحدها قد تكفَّلت بإثبات أن تلك الشُّكوك لم تكن بلا أساس، حيث أقدمت الإدارة البريطانيَّة، فعلاً، وبين يدي البدء في تطبيق (الاتفاقيَّة) خلال النِّصف الثَّانى من عام 1953م، على سنِّ (قانون النَّشاط الهدَّام) تمهيداً لتأسيس دولة بوليسيَّة تجرِّد الاستقلال من معناه، ومع كلِّ ما تحمَّل الشِّيوعيون من قمع وتضييق في معركة إلغاء ذلك القانون، ليس في مواجهة البريطانيين وحدهم، بل وفي مواجهة بعض السَّاسة (الوطنيين!) الذين ألحفوا في المناشدات الوضيعة للمستعمرين كى (يساعدوهم!) فى القضاء على الشِّيوعية في السُّودان، وما إلى ذلك مِمَّا فضحته وثائق المخابرات البريطانيَّة التي جرى الكشف عنها خلال السَّنوات الماضية، بصرف النَّظر عن كلِّ هذا وغيره، فإن موقف (حستو) من تلك الاتفاقيَّة قد اعتبر، فى الحساب الختامي، مفارقاً ل (المزاج) الجَّماهيري الذي كان قد انفتح على آخره لاستقبالها بالتَّرحاب، الأمر الذي حدا بالحزب لممارسة النقد الذَّاتي العلني، وتعديل موقفه من رفضها إلى قبولها خلال ما لا يزيد على أسبوع واحد (دورة اللجنة المركزيَّة، مارس 1953م).
النموذج الثانى: هو الأداء السِّياسي غير المحسوب جيِّداً، والذى انتهجته الأحزاب والقوى السِّياسيَّة التَّقليديَّة، بالمصادمة ل (المزاج) العام الذي كانت الجَّماهير تخرج به، في كلِّ مرَّة، على صهوات انتصاراتها المؤزَّرة، لتجابه ذات القضايا الكبرى الشَّاخصة في جبهات العمل السِّياسي والاقتصادي والاجتماعي كافَّة، عبر الفترات التَّاريخيَّة الثَّلاث التي أعقبت يناير 1956م، وأكتوبر 1964م، وأبريل 1985م؛ أى (مزاج) التَّشوُّق الدائم لاستمرار (وحدة) نفس القوى التى نازلت الاستعمار، ودكتاتوريتي عبود والنميري، و(تجانس) مواقفها حول مهام إعادة البناء، ابتداءً من إيقاف الحرب الأهليَّة في الجَّنوب والتَّصدِّي الجَّاد لتحدِّيات التَّنمية، وانتهاءً بتعميق مفاهيم الوحدة الوطنيَّة والسَّلام والدِّيموقراطيَّة. ومن نافلة القول أن تلك الوحدة، وذلك التَّجانس، لا يعنيان، بالضَّرورة، تحقيق التَّطابق أو الانصهار، بقدر ما يعنيان إحسان الصِّراع والتَّدافع على قاعدة مشروعيَّة التَّعدُّد والاختلاف (لا الخلاف)، بحيث تتكامل الجُّهود في ما يتوجَّب الاتِّفاق حوله، وما أكثره، في وعي الجَّماهير بطبيعة مهام المرحلة، وبمستوى التَّجانس المفترض بين قواها الوطنيَّة والدِّيموقراطيَّة، بحيث تتحرَّك، على (تعدُّدِها)، عبر مساحة متَّسعة، نسبيَّاً، من اتِّفاق الحدِّ الأدنى حول تلك القضايا الأساسيَّة، وعلى رأسها بناء الدَّولة الدِّيموقراطيَّة الحديثة.
(وحدة) الارادة الشَّعبية التي تجلت في أبهى حُللها لحظة إعلان الاستقلال من داخل البرلمان عام 1955م، والتي ما انفكَّ الوجدان الجَّمعي يستحلبها كأنضر اللحظات في تاريخه المعاصِر، إن لم تكن أنضرها طرَّاً، هي، إذن، جوهرة التَّاج في تكوين (مزاج) الجَّماهير التي احتقبت المطالبة ب (وحدة) الحركة الوطنيَّة والدِّيموقراطيَّة خلال تلك الفترات الثَّلاث. غير أن استدارة القوى التَّقليديَّة، مجدَّداً، عقب ثورة أكتوبر 1964م، إلى ذات الممارسة الشَّكلانيَّة للدِّيموقراطيَّة، والتي سبق أن وفَّرت المقدِّمات اللازمة لانقلاب أرستقراطيَّة الجَّيش بقيادة كبار الجَّنرالات فى نوفمبر 1958م، من حيث مفارقتها ل (شروط) الرؤية الشَّعبيَّة ل (الوحدة)، هو الذى قعد بقدراتها السِّياسيَّة عن بلوغ أيِّ أفق أبعد من مصادمة (جبهة الهيئات)، وتصفية حكومة أكتوبر الأولى، ومعاداة القوى الصَّاعدة من الأحزاب والنقابات والاتحادات المهنيَّة والمنظمات الجَّماهيريَّة في المدن الكبيرة ومناطق الانتاج الحديث، وتدبير حلِّ الحزب الشِّيوعي، وطرد نوابه من البرلمان، والاستهانة باستقلال القضاء، والانشغال، عموماً، بالتأسيس لدكتاتوريَّة مدنيَّة من فوق ما أسمته (الدُّستور الإسلامي)، مثلما أعجزها الأثر الضَّاغط لذهنيَّة القطاع التَّقليدي على هشاشة التَّجربة الدِّيموقراطيَّة عن أن تتجاوز، قيد أنملة، ضيق تشرذمها الحزبي، وصراعاتها الدَّاخليَّة، وانشقاقات أجنحتها، ومكائدها في الاستقطاب والاستقطاب المضاد، بكلِّ ما يلزم من عدائيَّات ومجابهات ومصادمات فتَّت فى عضد التَّكاتف المرغوب فيه، وأضعفت التَّجربة الدِّيموقراطيَّة، وسمَّمت مناخ الفعل السِّياسى، وأسلمت الجَّماهير، بما في ذلك قطاعات واسعة من جماهير تلك القوى التَّقليديَّة نفسها، إلى (مشاعر) اليأس المُمِضِّ، و(مزاج) الاحباط الثَّقيل، باسم نفس الدِّيموقراطيَّة البرلمانيَّة التى "هبَّت الخرطوم فى جُنح الدُّجى" لاستعادتها بالمُهَج والأرواح في أكتوبر، مِمَّا فتح الأبواب على مصاريعها، مرَّة أخرى، لشيوع (المزاج) المعاكس الذى استقبلت به الجَّماهير (انقلاب البكباشى جعفر نميرى) فى مايو 1969م، أملاً في طريق آخر ل (الخلاص)، أو كما أنشد محجوب شريف: "بعد يا مايو ما يئسنا"! ومعلوم أن المبدعين يعبِّرون عن (مزاج) الشَّعب عفو الخاطر، لا عن البرامج السِّياسيَّة تمكُّثاً!
ونستطيع أن نقرِّر، باطمئنان تام، للأسف الشَّديد، أن المشهد نفسه عاد ليتكرَّر، للمرَّة الثَّالثة، مع فارق التَّفاصيل هنا أو هناك، منذ تلك الأمسية التي وقف فيها د. عمر نور الدائم متحدِّثاً، ضمن كوكبة من قادة الأحزاب والنقابات، على منبر أوَّل مهرجان نصبته الجَّماهير بالميدان الشَّرقى لجامعة الخرطوم احتفالاً ب (عُرس) الدِّيموقراطيَّة المستعادة في أبريل 1985م، لتقاطعه الحشود، باستهجان ساخط، وإرزام عنيف، كونه حاول نسبة ذلك الانجاز إلى حزبه (حزب الأمَّة)، غير آبهٍ، ولا منتبهٍ حتى، ل (المزاج) العام المنفعل من حوله، أوان ذاك، ببشارات (التجمُّع الوطني الدِّيموقراطي) الذي عدَّته الجَّماهير، بحق، أحد أهمِّ عوامل نصرها الغالي. ومن ثمَّ تداعت الانهيارات، وتواتر نفض الأيدي عن (التجمُّع)، باعتباره قد استنفد أغراضه، ولمَّا يكن قد استنفدها، بعدُ، حقيقة، في وعي الجَّماهير و(مزاجها) العام، فتراكمت عوامل الفرقة والشَّتات ذاتها لتسلم تلك الجَّماهير إلى حالة مريعة أخرى من اليأس والاحباط، مِمَّا لم تكن (حكومة الوحدة الوطنيَّة) التي تشكَّلت فى الأسابيع الأخيرة من عمر (الدِّيموقراطيَّة الثَّالثة) مؤهلة بما يكفى لتبديده، كون تشكيلها نفسه وقع فى سياق تداعيات (مذكرة الجَّيش)، لا بقناعة تلك القوى، الأمر الذى مهَّد لانقلاب الجَّبهة الإسلاميَّة القوميَّة في الثَّلاثين من يونيو 1989م.
(3)
مع ذلك، وبرغم كل تلك النَّازلات، تكفَّلت الأيَّام بإثبات أن الاستمساك بالدِّيموقراطيَّة، والذَّود عن الحريَّات العامَّة والحقوق الأساسيَّة قد تكرَّس، نهائيَّاً، كقانون ثابت لتطوُّر الثَّورة والحراك الجَّماهيري في بلادنا. ولهذا فإنه لمن فساد النَّظر، وسوء التَّدبير، عدم إيلاء الحركة السِّياسيَّة الوطنيَّة الاعتبار اللازم لأخطائها في تفسير (مزاج) الجَّماهير الذي قد يبدو متناقضاً، للوهلة الأولى، من حيث انفعاله، للتوِّ، بنصره المؤزَّر على الدِّكتاتوريَّة، واستعادة النِّظام الدِّيموقراطي البرلماني، ثمَّ (تعاطفه) الذي ما يلبث أن يتراءى للنَّظر المتعجِّل مع فعل الانقلاب التَّالي على هذا النِّظام الدِّيموقراطي نفسه، إما بالتَّرحيب الفصيح، ولو إلى حين، كما حدث تجاه انقلاب مايو 1969م، أو باللامبالاة السَّالبة، ولو إلى حين أيضاً، كما حدث بإزاء انقلاب يونيو 1989م، أو بخليط متفاوت من هذين الإيجاب والسَّلب، كما حدث، قبل ذلك، لدى استقبال القطاعات الشَّعبية لانقلاب نوفمبر 1958م.
على أن ذلك (التَّعاطف) لا يعدو أن يكون، في حقيقته، محض تمظهر خادع ل (المزاج) العام المُحبَط واليائس جراء التَّشقُّقات والانقسامات والصِّراعات في صفِّ العمل الوطني والديموقراطي المفترض، الأمر الذى ظلَّ يورث الجَّماهير، في كلِِّّ مرَّة، حالة (مزاجيَّة) من الإحباط والملل والسَّأم والعزوف واللامبالاة، مِمَّا لا يلبث أن ينفجر سخطاً عامَّاً على الأوضاع في ظلِّ النُّظم الدِّيموقراطيَّة نفسها، فلكأنَّها ليست هي ذات الجَّماهير التي خرجت البارحة لاستعادتها. وبالنتيجة يذوي الحماس، وتتبدَّد الحيويَّة، ويروح يستغرق الجَّماهير، المرَّة تلو المرَّة، ركام متكاثف من الكلس السِّياسي، بينما انتظارها لا ينفكُّ يتطاول، دون جدوى، لمعجزة تعيد الرُّشد، قبل أن تدُقَّ السَّاعة الرابعة والعشرون، إلى هذا الصَّفِّ الوطني والدِّيموقراطي المتشاكس، كيما يتوحَّد على إنجاز ما لا يزال عالقاً في فضاء قضاياها المُلحَّة، ولو كمردود مستحقٍّ، على الأقل، لتضحياتها الجِّسام في استعادة الدِّيموقراطيَّة.
وليس ببعيد عن الصَّواب، أيضاً، ما سبق أن ألمحنا إليه من أن هذا الحكم لا يقتصر على أداء القوى السِّياسيَّة تحت ظلال الأنظمة الدِّيموقراطيَّة، فحسب، بل ويشمل أداءها، أيضاً، في أزمنة المعارضات. لقد ظل (المزاج) الشَّعبى يستمسك ب (وحدة) القوى الوطنيَّة والدِّيموقراطيَّة، سواء في إطار التَّصدي لمهام البناء الدِّيموقراطي الكبرى، أو في مستوى التَّصدِّي لمقاومة الشُّموليَّة.
ولئن كان ذلك كذلك، فلربَّما كان من المدهش، بل من المُحَيِّر حقاً، تعويل الشُّموليين، بالمقابل، على بعض أشكال (التَّمظهر الخادع) فى تبرير شرعيَّتهم، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، مما يُعَدُّ قراءة خاطئة أخرى ل (مزاج) الجَّماهير. ولعلنا نجد التَّعبير الأوفى عن هذه القراءة الحولاء ل (شرعيَّة) انقلاب مايو 1969م، مثلاً، فى قول النِّميري عن مواكب التَّرحيب التي استقبلته، بعد أسبوع واحد من وقوعه: ".. إن إجراءات عنيفة قد تمَّ اتخاذها، إعتقلنا العشرات من القيادات الحزبيَّة والطائفيَّة، ألغينا الأحزاب وواجهاتها المختلفة، وكان من الواضح أن هناك شعوراً بين الناس (بالرضى)، أو على الأقلِّ، ليس منهم من (أعلن) احتجاجاً على أىٍّ من هذه الاجراءات. ولكن هل يكفي ذلك لكي يكون دليلاً على (مناصرة) الزَّحف؟! .. تسربت أيام شهر مايو .. وتباطأت ساعات يونيو .. مرَّ اليوم الأول ، وفى صبيحة اليوم الثاني .. كان (الهدير). عشرات الآلاف (تهدر) ، مئات الآلاف (تهتف)، جموع العاملين (تزحف) ، من حيث تعمل ومن حيث تقيم. ولقد كان ذلك اليوم (المجيد) يوم (النصر) فى يقينى" (أقواس التَّشديد من عندنا جعفر نميرى؛ النَّهج الإسلامي لماذا، ص 85 86).
(4)
ليس (رضا) الجَّماهير، إذن، أو سخطها، بشاشتها أو غضبها، أملها أو يأسها، استبشارها أو إحباطها، إقبالها أو إدبارها، هو محض انعكاس (فوقي)، فحسب، لعلاقات الاقتصاد والاجتماع في قاع البنية (التَّحتيَّة)، بل إن جزءاً كبيراً منه ليشكِّل بعض وضعيَّة (مزاجيَّة) تندرج ضمن مباحث (السايكولوجيا الاجتماعيَّة).
والأمر كذلك فإن المرء ليحارُ كيف لم تتشكَّل، بعد كلِّ هذه الخبرات، كتلة ذات ثقل مرموق بين الحركيين الإسلاميين، تحسن النَّظر في تضاريس هذه الوضعيَّة، وتجيد الإصغاء إلى وجيب جلجلتها، ولو فعلت لوضعت أقدام الحركة بأسرها على أوَّل الطريق المفضي إلى الاصلاح. بل لو كانوا فعلوا، منذ البداية، لما كانوا ركلوا كلَّ ما وقع لهم من كسب فى ظلِّ الدِّيموقراطيَّة الثَّالثة، فباتوا على ساعة من فعل عسكري خاطف، ليصبحوا على (مزاج) شعبى مُعَكَّر يصُمُّ آذانه، بعناد، عن أطنان من الشُّروحات، بينما يفتحها، عن آخرها، لسؤال واحدٍ فاره البساطة، بليغ العفويَّة، ألقى به الطيِّب صالح ذات خريف بعيد: "من أين جاء هؤلاء النَّاس"؟! وليت لكثير من السِّياسيين بعض فراسة المبدعين، فالأخيرون هم، من قبل ومن بعد، أدرى النَّاس ب (أمزجة) النَّاس!
(من أرشيف الكاتب 2003م)
***


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.