موازنة 2016م : أداء النصف الأول و توقعات العام د. التجاني الطيب إبراهيم مدخل: حسب تقرير أداء الموازنة العامة للنصف الأول من العام المالي 2016م، لا يزال التقدم بعيداً نحو تحقيق إستقرار الإقتصاد الكلي حيث ما زال النمو الحقيقي (الزيادة في إجمالي الناتج المحلي بأسعار السوق الجارية ناقص التضخم) مهزوزاً يحفه عدم الواقعية والمصداقية بناءً على أداء بقية مؤشرات الإقتصاد الكلي. لهذا، ظل ضعف أداء القطاع الحقيقي، و التوسع في الإنفاق غير التنموي، والصراعات المسلحة المستمرة تشكل عبئاً على نمو الإقتصاد السوداني. فأجواء عدم اليقين الناجمة عن هذا الوضع المعقد تتسبب في ضعف الثقة في السياسات المالية والإقتصادية، بينما يؤثر إرتفاع الأسعار المحموم على الصادرات والنشاط الإقتصادي الكلي والأوضاع المعيشية للمواطنين. مؤشرات الإقتصاد الكلي: تشير الإحصائيات الواردة في التقرير إلى أن الإقتصاد قد حقق في النصف الأول من العام 2016م، نفس معدل النمو (6,4%) المتوقع في الموازنة للعام كله (جدول1) مستمداً قوته من نمو مستويات قطاعات الزراعة، والصناعة، والخدمات حسب مساهماتها في إجمالي الناتج المحلي المقدرة بحوالى 33%، 21% و 46% حسب الترتيب. لكن بسبب القلق الذي طال أمده بشأن عدم الإستقرار الإقتصادي والسياسي، وعدم اليقين بشأن السياسات وإستمرار ضعف الإستثمار العام والخاص في قطاعات الزراعة والصناعة والمعادن – المصادر المهمة لخلق فرص العمل وعائدات النقد الأجنبي – فمن غير المتوقع أن تكون هذه القطاعات قد شهدت إنتعاشاً يذكر في النصف الأول أو الثاني من العام. أيضاً، من غير المتوقع أن يكون القطاع الخارجي قد ساهم بشئ ذي معنى في دعم النمو المذكور نسبة لضعف القدرة التنافسية وسرعة وتيرة إرتفاع فاتورة الواردات مقارنة مع حصيلة الصادرات. كما أن ضعف أداء الإستثمار التنموي المعتمد في موازنة 2016م، (جدول2)، لا يبدو هو الآخر داعماً للنمو. وفوق هذا وذالك، فإزدياد معدلات التضخم غير المتوقعة – كما سنرى – هي أيضاً لها مردود سلبي على النمو إذ أن إرتفاع التضخم يقلل من معدل النمو والعكس هو الصحيح. كل هذه الأسباب مجتمعة تشكك كثيراً في واقعية النمو المحقق وبالتالي المتوقع للعام كله. فيما يتعلق بسعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية قابلة التحويل، فقد أمن مشروع الموازنة في صفحة 31 على: " إتباع سياسة سعر الصرف المرن المدار والعمل على خفض الفجوة بين السوق المنتظم والموازي". وقد صدق وعد صناع القرار الإقتصادي، فقبل شهرين فقط من نهاية العام المالي، تم الإعلان عن رفع السعر الرسمي للدولار الأمريكي مقابل الجنيه السوداني من 6,4 – 15,8 جنيه (زيادة 147%) مع إستمرار إتباع سياسة سعر الصرف المرن المدار، على أن يطبق السعر الجديد على تحويلات المغتربين، حصائل الصادر، المعروض من الدولارات محلياً، وكل الواردات، بإستثناء القمح والدقيق. لكن سلحفائية حركة المرونة الرسمية، أتاحت للسوق الموازي الفرصة للتحرك تدريجياً وترك حيز كافي للمناورة بينه وسعر الصرف الجديد. و للأسف، حتى لو تسارعت وتيرة حركة سعر الصرف الجديد، فلن يوقف ذلك نشاط السوق الموازي مالم توضع سياسة سعر الصرف في إطار حزمة متكاملة من الإجراءات تشمل الضبط التدريجي الجاد لأوضاع المالية العامة (تقليص الإنفاق غير الداعم للنمو)، وتحريك الإقتصاد الحقيقي (الزراعة والصناعة) لفك إختناقات العرض، ونمو الإنتاجية الشامل والمستدام لإستعادة التوازن بين الطلب والعرض في الإقتصاد الكلي. بخصوص التضخم، فقد ظل خاضعاً لضغوط رافعة في النصف الأول من العام بسبب إستمرار إنخفاض قيمة العملة الوطنية تجاه العملات قابلة التحويل، ضعف الإنتاج المحلي، إرتفاع أسعار الغذاء، إتساع العجز الجاري (التشغيلي) للمالية العامة، وعدم المقدرة على تشديد السياسة النقدية. بالإضافة إلى ذلك، فزيادة الأسعار المتوقعة من تنفيذ السياسات الإقتصادية الأخيرة، ستزيد من الضغوط الرافعة لمعدلات التضخم. أما في النصف الأول من العام وحسب أرقام الجهاز المركزي للإحصاء، فقد إرتفع معدل التضخم الشهري من 12.6% في نهاية ديسمبر 2015م، إلى 14.3% بنهاية يونيو 2016م، ليصل متوسطه في الستة الأشهر الأولى من العام إلى 13%، أي ما يساوي المعدل المقدر للعام بأكمله في الموازنة (جدول1). لكن ما يدعو لمزيد من القلق، أن تسارعت وتيرة التضخم خلال الربع الثالث وبداية الربع الأخير للعام حيث قفز معدل التضخم من 14.3% إلى 18,2% في سبتمبر وإلى 19,6% في أكتوبر، ما يعني إرتفاع أسعار المستهلك بنسبة 27% في الربع الثالث، و 37% في الفترة من يوليو إلى أكتوبر. ومن المتوقع أن يقفز معدل التضخم إلى أكثر من 25% بنهاية العام، مدفوعاً إلى حد كبير بآثار الإجراءات الإقتصادية الأخيرة، ما يشير إلى فشل موازنة 2016م، في تحقيق أهم أهدافها المتمثل في إحتواء التضخم. أما النمو السنوي المتوقع لعرض النقود، أو الكتلة النقدية، (13%)، فقد وصل مستواه المقدر في النصف الأول من العام. وبسبب إستمرار السياسات المالية التوسعية وغياب الآلية (سعر الفائدة) للتحكم في عرض النقود، فمن الواضح أنه غير قادر على تحجيم إرتفاع الأسعار وإستعادة الثقة في السياسات النقدية. لذلك من غير المتوقع أن تكون له فاعلية تذكر من الناحية العملية في التأثير على الصدمات التضخمية خلال ما تبقى من العام. على صعيد الحساب الخارجي (ميزان المدفوعات)، إستمرت مواطن الخطر خلال النصف الأول من العام. فقد شهدت الصادرات تراجعاً لضعف الطلب الخارجي، خاصة في دول مجلس التعاون الخليجي والصين، وإنخفاض القدرة التنافسية بسبب إرتفاع قيمة الدولار مقابل العملة الوطنية، بالإضافة إلى إلغاء علاقات المراسلة المصرفية مع معظم البنوك الأجنبية وتقلص حجم أنشطة التمويل التجاري، ما أدى إلى تباطؤ التجارة وتحويلات المغتربين والإستثمار الأجنبي. لكن، وبشكل عام، أدى إنخفاض فاتورة الواردات إلى موازنة جزء كبير من الآثار الناجمة عن ضعف الصادرات، التي إنخفضت إلى 1,5 مليار دولار في النصف الأول عام 2016م، من 1,8 مليار دولار في النصف الأول من العام 2015م، بينما تراجعت الواردات من 4 مليار دولار إلى 3,6 مليار دولار خلال نفس الفترة، ما أدى إلى تراجع طفيف في عجز الميزان التجاري من 2,2 مليار دولار إلى 2,1 مليار دولار حسب الإحصائيات الواردة في تقرير أداء الموازنة (جدول1)، مع توقع أن يظل أداء الحساب الخارجي ضعيفاً إلى نهاية العام. ما تجدر الإشارة إليه، أن هناك إختلاف واضح في أرقام الواردات المضمنة في تقرير أداء الموازنة وتقرير التجارة الخارجية، حيث تفوق أرقام الأخير أرقام الأول بنصف مليار دولار (جدول1)، ما يدعو للتساؤل حول مصداقية مصادر إحصائيات التقريرين. الملاحظ أيضاً، إنخفاض قيمة صادرات الذهب من 465 مليون دولار في النصف الأول من عام 2015م، إلى 419 مليون دولار في النصف الأول لعام 2016م، بسبب تراجع كميات الذهب المصدرة من 12 – 10 طن، بينما كشفت وزارة المعادن عن إنتاج 22,3 طن من الذهب خلال الربع الأول من عام 2016م، تصل قيمته إلى 903 مليون دولار (جريدتي "الرأي العام" و"المجهر السياسي" بتاريخ الأول من يونيو 2016م، الصفحة الأولى في كل من الصحيفتين)! لكن التعجب الأكبر، تصريح أحد النافذين في وزارة المعادن، الذي "فات الكبار والقدره"، بأن إنتاج الذهب سيصل إلى 100 طن بعائد يصل 4 (أربعة) مليار دولار بنهاية العام 2016م، خاصة وأن إنتاج الذهب حسب الإحصائيات الرسمية لوزارة المعادن بلغ 45 طن في الربع الأول من نفس العام، "ونتوقع أكثر من إنتاج الربع الأول في الربع الثاني…" حسب قول المسئول (جريدة الرأي العام، 25 أكتوبر 2016م، صفحة 4). يا ترى هل بقى لهؤلاء القوم غير الشمس من سِتر ؟ بالنسبة لأوضاع المالية العامة، فأداء النصف الأول من العام يشير إلى أها لا تزال تنطوي على مواطن ضعف حادة تشمل الآتي: في الختام، من الواضح أن الأداء الفعلي والمتوقع لموازنة 2016م، يضع موازنة العام المالي 2017م، أمام إمتحان عسير لن يكون من السهل تجاوزه دون اللجوء مرة أخرى إلى جيوب المواطنين أو إصلاح جذري في سياسات المالية العامة، خاصة في مجال الإنفاق الحكومي غير الداعم للنمو. إن تحقيق إستمرارية أوضاع المالية العامة في المدى المتوسط مقروناً بدعم النشاط الإقتصادي في الأجل القريب أمر يتطلب الدقة في تحديد خيارات سياسة المالية العامة. وعلى وجه الخصوص، فإن وجود خطط متوسطة الأجل مصممة بدقة ومعلنة لعامة المواطنين يساعد كثيراً على إعتماد سياسة أيسر للمالية العامة في المدى القريب. وهذاما نأمل أن تُبنى عليه موازنة 2017م. لكن صناع القرار الإقتصادي عودونا دائماً على أن خيالهم لا يعجز عن إرتياد الثريا. وإنا لمن المنتظرين. (1) و(2) تضريبات الكاتب. ( ): تقرير التجارة الخارجية للنصف الأول للعام 2016م. المصدر: " تقديرات مشروع موازنة العام المالي 2016م ، صفحة 33؛ تقرير أداء الموازنة العامة للدولة للنصف الأول من العام 2016م؛ وتضريبات الكاتب. (1) تشمل فوائض الهيئات والشركات، والرسوم الإدارية وعائدات صادر نفط الجنوب وإيرادات متنوعة. المصدر: "تقرير أداء الموازنة العامة للدولة للنصف الأول من العام 2016م؛ و" تقديرات مشروع موازنة العام المالي 2016م صفحات16؛ 49 – 52، وتضريبات الكاتب.