عزَّزت وسائل الإعلام الحديثة ارتباك الواقع وهو يعيش فوضى الأحداث وتفلُّت الحقائق، وسط زخم المعلومات الهائل المبثوث بصريا وسمعياً ونصَّياً وافتراضياً، بعزمٍ يكاد يطوِّق الإنسان من كل جانب. لكل صورة أكثر من زاوية للالتقاط، وفي كل لقطة جزء من الحقيقة، في حين تظل هي متوارية خلف الرسائل المراد إيصالها، وفي سيطرة المرسل المتحكم في الوسيلة الإعلامية وغاياته الأيدولوجية، العقائدية، السِّياسيَّة أو التِّجارية وغيرها. شبكات التَّواصل الاجتماعي فضاءٌ مفتوح وحرٌّ. ساهمت في ظهور ما يعرف بصحافة المواطن وساندت الإعلام الإلكتروني على الإنترنت، وليس من اليسير إنكار الدور العظيم للشبكات الاجتماعية في إشعال ثورات الربيع العربي التي قادت إلى انهيار أنظمة عتيدة وخلخلة أخرى، الشيء الذي لفت انتباه ما أسميه بالوحش الخفي بأنظمته المختلفة وأذرعه الألف، والمتعطش للهيمنة إلى هذه القوة الحديثة المؤثرة ومن ثمَّ محاولة السيطرة عليها بقطع خدمة الإنترنت أوقات ارتفاع صوت الشعوب الرافضة، أو زرع أذنابه فيها أو استغلالها لتنفيذ أجندته وهو ما يحدث الآن. في سعيه لتضليل العقول وتغبيش الرؤية يستغل النظام المسيطر حاجة الجموع المستهلِكة للدفق المعلوماتي ويصنع مشاهير من بعض الشخصيات المنتقاة، أو يقوم بتلميع من لمع اسمُه في شبكات التواصل الاجتماعي عن طريق إغرائه بالمال أو مغازلة توقه إلى الشهرة. مشاهير هزيمة المعنى فيما يقدمونه من محتوى خاوٍ يفشل متابعه في القبض على فكرة فيه أو مغزى. يقدِّمون اللاشيء، والمزيد من اللاشيء! ويحوزون اهتمام الناس وكذا الأموال الوفيرة التي تتراكم وفقاً لوتيرة زيادة متابعيهم؛ فقد أضحت هذه الصناعة رابحة ومهنة لمن لا مهنة له. سهلة ومريحة. متابعو هؤلاء المشاهير أو المؤثرين تصل أعدادهم إلى الملايين ويساهمون في تحقيق غايات الوحش الكبرى في التضليل والإيهام بأن هذه هي رغبة الجموع أو قمة مبتغاهم. يستغل المسيطِر التِّجاري هذه الجموع للمزيد من الأرباح من الإعلانات على صفحات مشاهير الإنترنت، في حين يحصل الآخر على إلهاء الجموع لفرض المزيد من سيطرته عليهم وتوجيه وعيهم أو تشويهه. في المشهد السُّوداني لم تنل هذه الظاهرة اهتمام الشركات بعد، لذا تتقدم المطامح السِّياسيَّة على التِّجارية في صناعة فئة من المشاهير الافتراضيين، الموالين أو المنتسبين للنِّظام الحاكم، الذين يخدمون مصالحه، ويوصلون رسالته إلى الجمهور، وذلك بنشر مقالات أو مقاطع صوتية أو فيديوهات لهم بكثافة عبر شبكات التواصل الاجتماعي كأسرع وسيلة لانتشار الأخبار والمعلومات، كذا الأكاذيب والشائعات. هذه المواد المبثوثة هبطت بمستوى الخطاب السياسي إلى أدنى درجاته، وصار الخطاب السياسي عبارة عن شتم، تهديد، سباب، اتهامات شخصية وأخلاقية ونشر للكراهيَّة والعنصريَّة، والاغتيال المعنوي لبعض الشخصيات المعارِضة، وكلام سوقي واستفزازي لا يرقى أن يصدر من أناسٍ لهم أطروحات سياسيَّة يرغبون في التعبير عنها. تُنشر هذه المواد عبر تطبيقات الهواتف المحمولة، تحديداً الواتساب والفيسبوك واليوتيوب التي تُستخدم بكثافة من قبل شريحة عريضة من السودانيين بالداخل والخارج، ويتم تداولها بسرعةٍ وعلى نطاقٍ واسع فيما بينهم. يقومون بوعي أو بدون وعي منهم بالمساعدة في صناعة الشهرة لهذه الشخصيات والترويج لها. تقوم الجماهير المستهلِكة بإرسال ونشر هذه المقاطع لأصدقائهم ومعارفهم وفي مجموعات التواصل على اختلافها، تصل المادة الواحدة من هذه المواد للإنسان من مصادر متعددة ومختلفة أفراد أو مجموعات لدرجة الملل. وأيَّاً كان مصدر النَّشر من معجبين بهذه الشخصيات، أو إذا كان سبب النشر من قبل المعارضين هو الاستغراب من فراغ مضمون هذه المواد وهزال فكرها، أو الاستنكار، أو حتى رفضها فإن هذا النشر يخدم أهداف المرسِل الأساسي في صرف النَّاس وإشغالهم وإفراغ طاقاتهم. إن التوقيت أحد عوامل نجاح وصول الرسالة الإعلامية للجمهور المستهدف بها، وهذه المواد تصدر عادةً في أوقات أزمات أو احتقان سياسي أو حراك شعبي كما حدث مؤخراً أيام العصيان المدني السوداني في ديسمبر الماضي، تُنشر المواد بنوايا غير مبرأة إطلاقاً من السُّوء والقصدية في إفشال الحراك وتحيَّيد القضايا وجرّ الناس إلى التفاعل مع هذه المقاطع ومحتواها الفارغ، وإلهائهم بها عما يجري من حراك على الساحة. تعمد الشخصيات التي يتم اختيارها بعناية إلى خشونة اللفظ والاستفزاز ومعاداة الآخر. وقد يتصدى لها المتلقي الذي يقف على الضفة المعاكسة في الموقف والرأي، والذي يدفعه الحماس أو الغضب ليعمل ضدّ نفسه عندما ينبري مدافعاً للرَّد على هذا العبث، سواء كان بذات مستوى الخطاب المتدني أو أرفع منه، وتكون النتيجة أن الغرض المراد الوصول إليه يتحقق من خلال رَّده هذا، فعندما تقرأ الجموع الرَّد تبحث عن المردود عليه، وبالتالي يزيد انتشاره وتداوله ويحقق الشهرة لصاحبه. والفكرة التي لا تدافع عن نفسها بنفسها تحمل بذور فنائها داخلها. تتحول هذه الشخصيات بمقاطعها إلى أن تكون هي الحدث ذاته، تُؤلف نكات عنها ويُرسم كاريكاتير وتُصمم فيديوهات ساخرة مثلاً وتُنشر صور لأصحابها وعليها تعليقات مختلفة، وكلما جنح المقطع المصوَّر أو الصوتي إلى الابتذال والسوقية كلما زاد التفاعل معه وانتشاره حتى من قِبل رافضيه. لا يُقرأ هذا بمعزل عن تصريحات المسؤولين الحكوميين السودانيين العجيبة المخالفة لكل منطق، والتي يتم الإدلاء بها أيضاً في الأوقات الحرجة. وفي أبجديات الإعلام يقال: (ليس الخبر عضَّ الكلبُ الرجلَ، ولكن الخبر عضَّ الرجلُ الكلبَ) الخروج عن المألوف وتعمُّد الإثارة والغرابة هو ما يثير انتباه الناس ويكون محل اهتمامهم. في تصريحٍ شهير قال أحد المسؤولين الكبار تعليقاً على اختراق إسرائيلي للأجواء السودانية وقصفه سيارة في مدينة بورتسودان شرق البلاد، قال: (الطائرة جاءت ليلاً والأضواء كانت مطفأة والوقت كان مع صلاة العشاء)! فتحوّل هذا التصريح إلى حدثٍ بحدِّ ذاته، وتمَّ تداوله بكثافة في أوساط الشبكات الاجتماعية. وشبيه هذه الأقوال الخارجة عن المنطق كثيرٌ جداً ولكن السؤال: أليست مقصودة؟ ألا يتم استغلال شبكات التواصل الاجتماعي بإغراقها بمثل هذه الأقوال والمقاطع بغرض تحقيق الغاية في تشتيت تركيز الأغلبية وتوجيه وعيهم وهدر طاقتهم في هذه المسائل السطحية الانصرافية وتغبيش رؤيتهم للواقع؟ يلجأ النظام لصناعة هؤلاء المشاهير ونشر انتاجهم وسط الأغلبية الصامتة لفرض مزيد من السيطرة والتحكم في عقولهم وتخريب وعيهم، بتكرارٍ لا يفتر وإصرار عنيد على التأثير على العقول وامتصاص طاقتهم الثورية إن بدأت في الاشتعال، وخلق واقع وهمي عبر مقاطعهم وتصريحاتهم وكتاباتهم يناقض الواقع المعاش. يحارب النظام الناشطين بنفس سلاحهم وهو منصات التواصل الاجتماعي، ولتدارك فشله في الهيمنة عليها كما فعل في أجهزة الإعلام الأخرى فإنه يغزوها بكثافة بمشاهير يبرعون في تسويق الفراغ.