على كثرة ما نشهد من مُؤتمراتٍ في مُختلف القضايا محلياً وإقليميّاً ودوليّاً، إلا أنّ الاجتماعات السّنويّة لمجموعة بنك التنمية الإفريقيّ باتت تأخذ طابعاً خاصّاً منذ أن تسنمّ رئيس جديد هرم مُؤسّسة التّمويل الرائدة في القارة الإفريقيّة، فقد ضخّ الدكتور أكينومي أديسينا دماءً حارّة في شرايين المؤسّسة العتيقة منذ أن تسلّم قيادتها في النصف الثاني من العام 2015. أديسينا، وهو في مُنتصف الخمسينيات من العمر، جاء لرئاسة بنك التنمية الإفريقي من منصب وزير الزراعة الذي كان يشغله في موطنه نيجيريا بعد تجارب حافلة في منظمات دولية ذات صلة بالمجال. حمل أديسينا هموم وأجندة أجيال المستقبل للقارة المنهكة بالصراعات السلطوية والتخلف والجهل والمرض، ليطلق آفاقاً جديدة لبنك التنمية الإفريقي من مجرد مؤسسة تمويلية تقليدية مرتبطة بالحكومات، إلى مؤسسة تأخذ على عاتقها مهمة إطلاق إستراتيجية عشرية طموحة لتحقيق التنمية المستدامة في القارة الغنية بالموارد البشرية والطبيعية، التي تكابد وتعاني من سوء الإدارة وشحّ القيادات الملتزمة بهموم مواطنيها. ففي العاصمة الزامبية لوساكا جرى العام الماضي إطلاق إستراتيجية البنك العشرية والتي تهدف بصفة أساسية إلى إحداث تحول مفصلي من أجل إنهاض إفريقيا بحلول العام 2025، عبر إطلاق خمسة أهداف كبرى يعمل البنك على تحقيقها مع الشركاء، الأول إضاءة إفريقيا وتوفير الطاقة وخدمات الكهرباء لأكثر من ستمائة مليون مواطن في القارة، والهدف الثاني إطعام إفريقيا عبر تحول زراعي يتجاوز تحقيق الكفاية الذاتية إلى التصدير، والثالث تصنيع إفريقيا، والرابع تحسين مستوى الحياة لمواطني القارة، والخامس تحقيق التكامل في إفريقيا. وفي حين خصصت اجتماعات العام الماضي لقضية الطاقة وإنارة القارة، فقد جاءت اجتماعات هذا العام التي استضافتها الحكومة الهندية في أحمد أباد لتبحث في سبل تحقيق الهدف الثاني من أولويات إستراتيجية إنهاض إفريقيا الخمس، وهي إطعام إفريقيا، وهنا تكمن مأساة إفريقيا، وكذلك يكمن أملها في التغيير من أجل مستقبل أفضل. من بين 795 مليون نسمة في العالم لا يجدون الحد الأدنى من كفاية الطعام، يوجد 300 مليون منهم في إفريقيا، أي نحو ثلث السكان، أما الأكثر فظاعة فهو أن 58 مليون طفل إفريقي يعانون من التقزم جراء سوء التغذية. وصف د. أديسينا هذا الوضع المأساوي بأنه أمر يحير العقل قبل أن يتوجّه إلى القادة الأفارقة بقوله إنه على «الزعماء الأفارقة أن يدركوا أنه إذا استمرّ أطفال القارة يصابون بالتقزم اليوم، فسيكون اقتصادها متقزماً في الغد». ومن هنا تحديداً برزت أهمية إحداث تغيير جذري في النهج المتعلق بكيفية التعامل مع تحديات التغذية في القارة، ليست فقط بوصفها مسألة إنسانية تجلل بعارها الجميع في قارة لا تنقصها الموارد، بل كذلك على المخاطر التي تنطوي على عواقب اقتصادية ضخمة في المستقبل. ولذلك كان تركيز الاجتماع لهذا العام ينصبّ على إنجاز الأولوية الثانية من الأولويات الخمس للبنك وهي: «إطعام إفريقيا»، واعتبر رئيس البنك أنه لا يوجد مكان في العالم لمناقشة هذه المسألة أفضل من الهند التي نجحت في تحقيق نموذج تحول زراعي باهر عبر «الثورة الخضراء» التي حولتها من دولة معتمدة على سخاء الآخرين إلى دولة مكتفية ذاتياً من الطعام، بل أصبحت الآن مستودعاً غذائياً للعالم واستغرقت ثلاث سنوات فقط لتحقيق هذا الهدف، وقال: «إن ذلك لم يكن معجزة، بل كان بمثابة إرادة سياسية امتزجت بالتصميم على التنمية بكرامة». وأضاف: «يتعين على إفريقيا أن تطعم نفسها ومن داخلها لكي تحقق تنمية بكرامة». مع كل مواردها الكامنة فإن فاتورة استيراد إفريقيا من الأغذية تبلغ حالياً 35 مليار دولار سنوياً، ويُتوقع أن تنمو إلى 110 ملايين دولار سنوياً بحلول 2025، وهذا بالطبع يمثل عائقاً سلبياً على الاقتصاد الكلي والاستقرار المالي بالقارة، وهو ما يتطلب أن تنهض القارة سريعاً وتطلق إمكانياتها الزراعية بشكل كامل، ولذلك خصّص البنك 24 مليار دولار للبدء في تنفيذ المشروع الطموح. تملك إفريقيا 65% من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم، ولكنها غير مستغلة، وهي تكفي لإطعام 9 مليارات شخص بحلول عام 2050، ولذلك فإنّ ما تفعله إفريقيا مع الزراعة اليوم يقول أديسينا سيحدد مستقبل الغذاء في العالم، ويتعين بشكل أساسي الآن استغلال الميزة التنافسية الطبيعية لإفريقيا في الزراعة وتسريع الحصول على البذور عالية الجودة والأسمدة والري والخدمات الميكانيكية والتمويل، والهدف ليس فقط الخروج من ربقة الجوع وسوء التغذية في الوضع المزري الراهن، بل تمتد الرؤية الجديدة للبنك إلى نقل الزراعة من نشاط في القطاع الاجتماعي هدفه مكافحة الفقر، إلى الانطلاق إلى عوالم أرحب يكون مجالاً حيوياً لتوليد الثروة في القارّة، ولذلك ارتفع سقف الطموحات لإحداث تحوّل نوعي يتطلب أن تُؤخذ الزراعة بوصفها نشاطاً تجارياً في جميع أنحاء إفريقيا هدفه توليد الثروة، وليس لمجرد إسكات أصوات الجوعى.