كتب الأستاذ حيدر إبراهيم مقالاً بصحيفة "الراكوبة" بتاريخ 26/5/2017 بعنوان "السودان واقع غير واقعي". والمقال على قصره لخَّص الواقع فى وطننا اليوم بدقَّه وحماس كأناشيد أكتوبر ومارس أبريل. لقد بدأ المقال بوصف حالة الكاتب الصحية والانتقال إلى حالة الوطن. يقول د حيدر إبراهيم فى بداية مقاله: "رغم أني ممنوع من التوتر والغضب والانفعال، لأسبابٍ صحية، لم أستطع صبراً، وتجاهلَ ما يدور هذه الأيام فى البلاد. فقد وصل السودان إلى درك سحيق من الانحطاط الروحي والعقلي ليس بعده قرار، وفى نفس الوقت انسدَّ أفق المستقبل والخروج من الأزمة .. ولكن ما ضيق الحياة، لولا فسحة الأمل." والجملة أعلاه تعبِّر عن الواقع البائس من كل جوانبه: حكومةً ومعارضة. واقع منحط وغير واقعي، ومعارضة لا يُرجى منها، عبَّر عنها د حيدر إبراهيم بانسداد أفق المستقبل، والخروج من الأزمة. ولقد أورد الكاتب عدَّة نماذج من شعوذة البشير وحديثه عن حراسة السودان بالقرآن وتزويد الخلاوي بالآيباد، وعن رؤية كمال عمر للترابي والرسول (ص) معاً، وكيف شفي بعد الرؤية وعاد إليه الكلام. حتى يختتم المقال بجملة أخرى قوية جداً تقدِّم الحل، ولكن فى سياق المجاز: "لقد تحوَّل السودان إلى بلد العجايب والغرائب والخوارق؛ ولن يشفيه حوار الوثبة، ولا التنظيم الخالف، ولا الهبوط الناعم، ولا نداء السودان. الحل فقط فى اقتلاع النظام من جذوره وقلب التربة، ثم تسميدها وزراعة وطن جديد تماماً تزدهر فيه الحرية والتنمية والرخاء والتنوير والعقلانية والعلم". ولأبدأ بالتعبير عن اتفاقي التام مع الدكتور حيدر إبراهيم بأن الواقع بائس، وأن أحزابنا وتجمعاتها الحالية للأسف غير قادرة على تغييره. وهى لن تستطع تغيير هذا الواقع، ليس فقط لأنها جزء من المشكلة، بل لأنها تصرُّ على العمل بذات الطرق القديمة، والتى لم تخضعها للتساؤل، ولم تغيِّرها وتتوقَّع نتائج مختلفة. وعدم قدرتها على التغيير لا يعني التقليل من وطنية مَنْ ينتمون إليها، ولا اتهامهم بسوء النية أو حتى الغباء. فتاريخ معظمهم حافل بالتضحيات، من اعتقال وسجون ومطاردة وملاحقة من النظام فى عيشهم ومعاشهم. أين تكمن المشكلة إذاً، وكيف يمكن تغيير الواقع الحالي الذى وصفه د حيدر إبراهيم بأنه غير واقعي. كيف يمكن اقتلاع النظام من جذوره وقلب التربة ثم تسميدها، وكيف يمكن زراعة وطن جديد تزدهر فيه الحرية والتنمية والرخاء والتنوير والعقلانية والعلم؟ كيف يمكن تحقيق ذلك كله على أرض الواقع، وبذات السودانيين الذين يعيشون فيما يُسمى بالسودان، والذين قاموا بانتفاضة أكتوبر ومارس/أبريل، ليسقطوا طاغية، وليمكنوا من هو أكثر طغياناً وبطشاً ليحكمهم لعشرات السنين، ويذيقهم الويل من جوع وجهل وإفقار ومرض وفساد. إنه سؤال يؤرِّق كلَّ السودانيين. يتساءل الكثير من السودانيين عن أصل المشكلة، ويعبِّر البعض عن حيرته بإيراد أسماء من يبرزون فى مختلف المجالات من طب وهندسة وعلوم خارج بلادنا. وهم يقومون بذلك، يقولون بوعي أو بغير وعي "أها شفتو نحن ما شعب فاشل، وأول ما نطلع من السودان نبدع". وكذلك يعبِّر البعض عن المفارقة بالحنين إلى الماضي، ومقارنة الروَّاد الأوائل وإسهاماتهم فى بلاد الخليج العربي، وكيف كان حالهم فى الماضي وحالنا اليوم. وهذه المقارنة لا تخلو من إيراد أسماء بارزة، والإشادة بكبار الأطباء والإداريين السودانيين، الذين عملوا فى تلك الدول، وتركوا بصماتهم الواضحة وسيرتهم المشرفة. وغض النظر عن عنصر المبالغة فى ترديد مثل هذه الأحاديث، فإن الرسالة واضحة؛ وهي محاولة نفي تهمة فشلنا كشعب، وهو ما يشير إليه واقع بلادنا اليوم، وعلى مرِّ تاريخها القريب والبعيد. وبالطبع، لا أقلِّل من شان هؤلاء الرواد، وليس لدي شك فى مقدرات بنات وأبناء شعبنا، ولكن وكما عبَّر أستاذنا حيدر إبراهيم، وهو يصرخ بأعلى صوته: إن بلادنا قد وصلت إلى درك سحيق، لن يعالجه "حوار الوثبة، ولا التنظيم الخالف، ولا الهبوط الناعم، ولا نداء السودان". إن من يقول بأن اقتلاع نظام الإنقاذ سيحل مشاكل السودان هو واهم، وموغل فى الوهم. هذا لا يعني أننا ندعو إلى الإبقاء على هذا النظام أو أننا نقول بأنه لا داعيَ للعمل الجاد على إزالته. هذا النظام لا بدَّ أن يزول، ولكن ما لم نعمل بجد لإعداد الأرض لنظام جديد وجدير بشعبنا ومعاناته، فسنبدِّل طاغية بطاغية آخر أكثر جبروتاً وتسلُّطاً. إن ما نفتقده هو الهدف الأسمى، الذى هو فوق الشعب كمجموعة أفراد بمختلف سحناتهم، أديانهم وقبائلهم. الهدف الأسمى الذي هو فوق الحزب كحزب، وفوق كل الأحزاب. فوق القبيلة والانتماء الجغرافي. إن هذا أحد مكوِّنات المنظومة الكاملة من أساسيات المواطنة والعمل الجماعى، أحزاب ومنظمات. أقول إن هذا أحد عناصر الإطار الذى أصرُّ على أن العمل خارجه سيكون حرثاً فى البحر. الإطار الذى سأفصِّله هو إطار للعمل التعاوني، العمل الجماعي كفريق، وليس كقطيع يقوده فرد أو مؤسَّسة صغيرة جداً تُؤسِّس وبشكل مستمر لخلق طغاة جدد. إن العمل يجب أن يتمَّ وفق هذا الإطار، ثم إعلاء شأن العمل المؤسَّسي، وذلك بخلق المؤسَّسات التى تقيم حصناً منيعاً ضد أنفسنا، ورغباتها الكامنة فى الطغيان والفساد والكذب، وكل أشكال البلطجة السياسية. إن بذور هذا الشكل من العمل موجودة فى مجتمعنا منذ أيام الجمعية التعاونية فى الحي، والمجموعات التى تتنادى فى معظم أرياف بلادنا لمناقشة أمر القرية وحل مشاكلها، ولعل حملة "نفير" قبل ثلاثة أعوام فى مواجهة الفيضانات قد أذهل نجاحها الحكومة والشباب الذين قاموا بها. وقد أخذ هذا شكلاً أكثر تنظيماً، وأكثر فعاليةً فى الحركة، بفضل وسائل الاتصال الحديثة؛ ولعل شارع الحوادث، ومنظمات العمل الطوعي الأخرى التي أسهمت وتسهم باستمرار فى تخفيف معاناة المواطن اليومية لأفضل مثال. وقبل أن أدلف إلى شرح هذا الإطار أودُّ أن أشير إلى أن أحزابنا جميعها تفتقد هذا الهدف الأسمى: "السودان" أو "السودانية". جميعهم يفتقدونه، ويرون الأشياء من مناظيرهم الضيقة تماماً لفهمه والتبشير به وجعله أمراً أساسياً ومحورياً فى كل نشاطهم. القول بأنهم يفتقدونه لا يعني أنهم لا يتحدثون عنه فى أدبياتهم أو منشوراتهم أو أناشيدهم وكورالاتهم الحزبية. ونظرة سريعة إلى كل ألوان الطيف السياسى، من يمين ويسار، يؤكد ذلك. فكلٌّ فرِحٌ بما لديه، وهو هدفه الأسمى والأعلى الذي يجب أن يتوحَّد الشعب حوله. وحتى يكون هناك الحد الأدنى الذى ننطلق منه لفهم هذا الإطار وقبوله ولماذا هو المخرج الوحيد، أودُّ أن أقدِّم خلفية علمية وعملية مبسَّطة وخالية تماماً من أية مصطلحات، إلا ما تفرضة ضرورة الشرح والإيضاح لمفهوم "التعقيد" وأن الظواهر من طبيعية وسياسية واجتماعية معقَّده بطبيعتها، وماذا يعني هذا التعقيد فى التعامل مع الظواهر الاجتماعية والتغيير الاجتماعي والسياسي. إن عالمنا، سواءً أكان الطبيعي أو الاجتماعي، ليس بسيطاً ترتبط فيه النتيجة بسبب واحد، وبشكل مباشر، وإن المستقبل لا يرقد فى أحضان الحاضر كل الوقت، وما على الخبراء إلا إعمال أدواتهم، والإشارة لنا بالخطوات التى يجب اتباعها لنناله؛ فبعضُ الظواهر قد تكون بسيطة، وبعضها معقَّد، والآخر مركَّب، وأحيانا عبارة عن فوضى ضاربة. إن قبول هذا الإطار المعرفي المبسَّط، والفعَّال جداً فى التعامل مع الواقع، هام جداً. إن قبول الإطار هو خطوة للأمام لقبول العالم الطبيعي والاجتماعي كعالم معقَّد، يحتاج فهمه إلى جهد جماعي، تعمل فيه كل العقول بشكل نشط وفعَّال، مما يساعد على استجلاء جوانب أية أمر أو مشكلة، والنظر فى كل الحلول الممكنة، واختيار الأنسب منها. هذا يستبعد تماماً انفراد زعيم أو شيخ أو حزب أو سكرتير سياسي بالادِّعاء أنه يمتلك الحلول، وأننا يجب أن نسلِّم بمقدراته، وإن جلَّ ما نقوم به هو أن نهلِّل ونصفِّق وننفِّذ بلا تساؤل. ولعل تاريخ بلادنا القريب، وفشل كل أحزابنا يمينها ويسارها، خير شاهد على ما أقول . هناك علاقة مباشرة بين النتيجة والسبب فقط فى عالم البساطة، فهناك إجابة واحدة وطريقة واحدة لحل هذا المشكل أو ذاك. من المهم أن نعرف أين يقع المشكل الذى نحن بصدد التعامل معه. فى عالم البساطة، يمكن أن نستعين على مشاكله بأفضل الممارسات"Best practices" ؛ على عكس العالم المركَّب، حيث أن العلاقة بين النتيجة والسبب ليست مباشرة، وأنه ليس هناك حل واحد أو إجابة واحدة. وهنا نستعين بالممارسات الجيدة"Good Practices" . والعالم الثالث هو عالم التعقيد، والذي لا يرى العالم كماكينة كبيرة، متى ما تمَّ فهم الأجزاء يتمُّ فهم الكل. ومتى ما تمَّت دراسة الحاضر واستيعابه، يمكن التنبوء بالمستقبل. إنه عالم لا يمكن فيه معرفة تشابك وتعقيد قوانينه، إلا بالتجريب والتعديل المستمر لخططنا وإستراتيجياتنا: عالم تصبح فيه الخطط والدراسات عديمة الفايدة وقديمة وبالية، عندما تلامس أرض الواقع. إنه عالم لا يتمُّ فهمه، إلا بالتعاون الحقيقى بين كل فئات المجتمع، لحل مشاكله عبر التعاون والثقة والشفافية والتعلُّم المستمر. وفى ظني أن الانطلاق من هذا الفهم يساعدنا كثيراً على التمسك بالعمل التعاوني فى كل المجالات السياسية والاقتصادية، وحتى الأشكال التنظيمية التي تصلح لواقعنا ولمجتمعنا. الأحزاب الحالية فى وطننا كلها بُنيت بالشكل الهرمي، والذى يؤمن أن هناك قلَّة تعرف وتقود الغالبية، وما على غالبية الحزب أو الشعب إلا التنفيذ. الخروج على هذا الفهم، وتكوين حزب يعيش التعاونية والعمل الجماعى بشكل يومي، هو المخرج الوحيد. لا أقول إنه طريق سهل، ولكنه ممكن. خلاصة هذه المقدِّمة، للإجابة على صرخة الأستاذ حيدر إبراهيم وصرخة أغلب السودانيين، إن تغيير بلادنا ممكن، وان أحزابنا الحالية بطريقة عملها الحالية لن تغيِّر النظام، ولن تغيِّر واقع بلادنا. يجب أن لا ننسى أن التغيير رحلة مستمرة، وليس محطة؛ وإن الهدف لم ولن يكن تغيير هذا الطاغية، ليحلَّ مكانه طاغية آخر. إن الهدف هو خلق نظام ديمقراطي عادل، يحقِّق الحياة الحرَّة الكريمة لبنات وأبناء شعبنا. هذا ممكن تحقيقه ببناء حزب جديد، يعمل بطريقة مختلفة، وفق إطار له فعالياته وقواعده المنظِّمة لعمل الأعضاء، وطريقته التجريبية التي تؤمن بتعقيد الظواهر، ومقدرة بنات وأبناء شعبنا على التعامل معها، متى ما التزموا بالتجريبية والاكتشاف والتعديل المستمر للتعامل معها، ومتى ما عاشوا الديمقراطية بشكل يومي، لا موسمي فى مؤتمراتِ هذا الحزب أو ذاك. إنه إطار، تشكِّل الشفافية والتدقيق والتكيُّف أهم ملامحه. للإطارِ قيمه التي لا بدَّ من الالتزام الصارم بها، وهى قيم الالتزام والشجاعة والتركيز والانفتاح والاحترام. سأقوم بالتفصيل فى الحلقات التالية، وهدفي هو رمي حجر فى بركة وضعِ بلادنا الآسن. أنا واثق بأن للكل ما يمكن أن يسهم به فى هذا الأمر.