شاهد بالفيديو.. والي نهر النيل: (سنهتم بالسياحة ونجعل الولاية مثل جزر المالديف)    عدد من الوزراء يؤدون القسم أمام رئيس مجلس السيادة    قرعة الكونفدرالية الأفريقية تكشف مواجهات صعبة للأندية السودانية..الزمالة السوداني يواجه نظيره ديكيداها الصومالي، بينما يخوض الأهلي مدني اختبارًا صعبًا أمام النجم الساحلي التونسي    ثنائي ريال مدريد مطلوب في الدوري السعودي    يعني شنو البروف المنصوري في طريقه الى السودان، عبر السعودية، وياخد أيام    مجلس الإتحاد المحلي الدمازين الرصيرص يجتمع ويصدر عددا من القرارات    موسى حسين (السودان): "المشاركة في بطولة "شان" توتال إنيرجيز حُلم طفولتي وسأسعى للتتويج بلقب فردي بقوة"    شاهد بالفيديو.. في تصرف غريب.. فتاة سودانية تقتحم حفل رجالي وتجلد نفسها ب"السوط" بعد أن رفض الحاضرون الإستجابة لطلبها بجلدها أسوة بالرجال    شاهد بالصور والفيديو.. وسط حضور جماهيري مقدر العافية تعود لشيخ الإستادات السودانية.. إستاد الخرطوم يشهد مباراة كرة قدم لأول مرة منذ إنلاع الحرب    شاهد بالفيديو.. ردد: "شكراً مصر".. طفل سوداني يودع القاهرة بالدموع ويثير تعاطف الجمهور المصري: (ما تعيطش يا حبيبي مصر بلدك وتجي في أي وقت)    شاهد بالفيديو.. ردد: "شكراً مصر".. طفل سوداني يودع القاهرة بالدموع ويثير تعاطف الجمهور المصري: (ما تعيطش يا حبيبي مصر بلدك وتجي في أي وقت)    شاهد بالفيديو.. القيادي بالدعم السريع إبراهيم بقال يهرب إلى تشاد ويظهر وهو يتجول في شوارعها والجمهور يسخر: (مرق لا زوجة لا أطفال حليلي أنا المآساتي ما بتتقال)    شاهد بالصور والفيديو.. وسط حضور جماهيري مقدر العافية تعود لشيخ الإستادات السودانية.. إستاد الخرطوم يشهد مباراة كرة قدم لأول مرة منذ إنلاع الحرب    وزير الثقافة والإعلام والسياحة السوداني: بحثنا مع الحكومة المصرية سبل دعم الجالية السودانية في مصر في مجالات التعليم والإقامة    النيابة المصرية تصدر قرارات جديدة بشأن 8 من مشاهير «تيك توك»    "الكتائب الثورية" .. إقامة أول مباراة كرة قدم في استاد الخرطوم الدولي منذ اندلاع الحرب    كارثة تحت الرماد    تقرير أممي: «داعش» يُدرب «مسلحين» في السودان لنشرهم بأفريقيا    رئيس المخابرات حمل رسالة ساخنة.. أديس أبابا تهدد بورتسودان    رافق عادل إمام في التجربة الدنماركية .. وفاة الفنان سيد صادق عن عمر يناهز 80 عامًا    وسط غياب السودانيين عنه.. فشل اجتماع الرباعية في واشنطن ل "فرض حل خارجي" للأزمة السودانية    ضبط عدد 12 سبيكة ذهبية وأربعة كيلو من الذهب المشغول وتوقف متهم يستغل عربة دفار محملة بمنهوبات المواطنين بجسر عطبرة    الكشف عن المرشحين للفوز بجائزة الكرة الذهبية 2025    والي النيل الأبيض يزور نادي الرابطة كوستي ويتبرع لتشييّد مباني النادي    حميدان التركي يعود إلى أرض الوطن بعد سنوات من الاحتجاز في الولايات المتحدة    لجنة أمن ولاية الخرطوم تشيد باستجابة قادة التشكيلات العسكرية لإخلائها من المظاهر العسكرية    بالصور.. تعرف على معلومات هامة عن مدرب الهلال السوداني الجديد.. مسيرة متقلبة وامرأة مثيرة للجدل وفيروس أنهى مسيرته كلاعب.. خسر نهائي أبطال آسيا مع الهلال السعودي والترجي التونسي آخر محطاته التدريبية    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    حادث مرورى بص سفرى وشاحنة يؤدى الى وفاة وإصابة عدد(36) مواطن    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    الشهر الماضي ثالث أكثر شهور يوليو حرارة على الأرض    يؤدي إلى أزمة نفسية.. إليك ما يجب معرفته عن "ذهان الذكاء الاصطناعي"    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (روحوا عن القلوب)    الجمارك تُبيد (77) طنا من السلع المحظورة والمنتهية الصلاحية ببورتسودان    الطوف المشترك لمحلية أمدرمان يقوم بحملة إزالة واسعة للمخالفات    السودان يتصدر العالم في البطالة: 62% من شعبنا بلا عمل!    نجوم الدوري الإنجليزي في "سباق عاطفي" للفوز بقلب نجمة هوليوود    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودانوية : المفهوم والأساس العلمي 4 – 6
نشر في حريات يوم 06 - 07 - 2017

في الحلقة السابقة تناولنا المدرسة التاريخية "التقليدية" ونظرية الهجرات العربية إلى جانب مقاربة نقدية للعامل اللغوي كعنصر ثقافي، وأشرنا في نهاية المقال إلى أن تفنيد هذه النظريةوناتجها مقولة"التعريب"، سواءً في مضمونها العرقي أو الثقافي، وما تأسس على ذلك من تعتيم وتزييف للتاريخ الثقافي، قد جاء من جبهتين: أولهما الموقف العلمي متمثلاً في المدارس الجديدة في البحوث الآثارية والتاريخية واللغوية السودانية، وثانيهما جدلية الوعي والتجربة لدى الإنسان السوداني في مواجهته للمتغيرات السياسية والإجتماعية وفي مساءلته لقناعات مترسخة وفولكلور عتيق لم يعد حصيناً أمام هذه المساءلة. في هذا المقال نبدأ بالمدرسة الآثارية ودورها.
المدرسة الآثارية "الجديدة"
أسهم البحث الآثاري في السودان بقدر رئيسي وحاسم في الكشف عن طبيعة ومراحل التطور التاريخي للثقافات السودانية.في ورقة هامة يرى ويليام آدمز، وهو من أميز الآثاريين المعاصرين، أن العمل في الآثار السودانية كان محكوماً منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن بأربع نماذج متعاقبة ومتباينة في رؤيتها وأسلوب تناولها وتفسيرها للمادة الآثارية السودانية. وقد عكست هذه النماذج ما جرى من تحولات سياسية أثناء وبعد الحقبة الإستعمارية، كما تأثرت بالتطورات المنهجية في علم الآثار وبالرؤية الفلسفية الغربية تجاه أفريقية وسكانها. يصف آدمز النموذج الأول في القرن التاسع عشر بأنه نموذج "النهب والإستحواذ الإستعماري"، واصفاً ممثليه، جيوفاني بلزوني وجوزيف فيرليني ووالس بدج، بعدم المسؤولية وفقدان المهنية الأكاديمية.ويرى النموذج الثاني، أثناء الحكم الثنائي،بأنه"النموذج الإستعماري المستنير". وأهم ممثليه جورج ريزنر، والذى يعتبر رائد الآركيولوجيا السودانية، وقريفث وكراوفوت. والأخير وضع اللبنات الأولى لما أصبح فيما بعد مصلحة الآثار، وبسبب نفوذه وإهتمامه سعى الحكم الثنائي إلى تشجيع العمل الآثاري وحماية الآثار السودانية الأمر الذي إنعكس في إنجازات هذا النموذج. من ناحية أخرى، يرى آدمز أن التوجه الأساسي لأفراد هذا النموذج لم يكن إعادة تركيب وصياغة التاريخ القديم بقدر ما كان هدفهم الكشف عن الآثار وإعداد سجلها. لكن أهم قصور صاحب هذا النموذج كان مرتبطاً بالجانب الفلسفي، على حد قول آدمز. إذ يرى أن عنصرية القرن التاسع عشر ما زالت واضحة في آراء أفراد هذا النموذج وتفسيراتهم بما فيهم ريزنر نفسه. أما النموذج الرابع فهو "نموذج ما بعد الإستعمار"ويضم عدداً من الآثاريين البارزين أهمهم آركل وشيني وبروس تريقر وفرد وندورف وآدمز. أدخل هذا النموذج مناهج متطورة وتقنيات تحليلية متنوعة إلى جانب التركيز على إعادة تركيب البنية الثقافية التاريخية. لكن الإنجاز الأكثر أهمية يتضح في المجال الآيديولوجي. فهذا الجيل من الآركيولوجيين، يستطرد آدمز، متحرر تماماً من عنصرية القرن التاسع عشر وكذلك، إلى حد ما، من تأثير الدراسات الآركيولجية المصرية. هذا إلى جانب تقديرهم للثقافة السودانية في ذاتها ورؤيتهم لتاريخ السودان ككل متصل وليس سلسلة من الأحداث مصدرها مهاجرين أجانب.(آدمز 1981)كذلك تحدث شيني عن ما أسماه"النموذج الوطني الإستقلالي"، مؤكداً إهتمام السودانيين عموماً والمتعلمين خاصةً بتاريخهم كأهم ملامح هذا النموذج، وهذا ناتج، كما يقول، عن الوعي بالهوية والحصول على الإستقلال والتحول في مفهوم هذه الهوية وإدراك البعد السوداني والأفريقي فيها.هذا إلى جانب إنضمام كثرة من الآثاريين السودانيين إلى العمل الميداني وإتساع نطاق العمل في أجزاء السودان الأخرى غير وادي النيل. (شيني 1981)
بدأ البحث العلمي الآثاري بأعمال ريزنر بين عامي 1907م و1920م وطبّق النظرية الثقافية/التاريخية حول الهجرات، وكانت سائدة في الفكر الآثاري وقتها، على إكتشافاته في شمال السودان. من أهم إنجازات ريزنر وضعه الإطار العام لكرونولوجيا مرحلتيْ نبته ومروي في الحضارة الكوشية وتحديده للأحداث الرئيسية وتاريخها. لكنه من واقع تأثره بنظريات القرن التاسع عشر أرجع أصل مملكة نبته ومؤسسيها من الأسرة الخامسة والعشرين إلى أصول ليبية، وهو إفتراض ثبت بطلانه في أعمال الآثاريين اللاحقة وتأكد جذور هذه المملكة في حضارة كرمة وفي ذلك تأكيد للأصول السودانية المحلية للمملكة.هذا ومن واقع إكتشافاتهم وبحوثهم تصدى بروس تريقر وآدمزبالنقد للنظريات الآثارية التي طبقت على تاريخ السودان. يلخص لنا تريقر ما توصل إليه ريزنر وتفسيره لهذا التاريخ في ضوء نظرية الهجرات كالآتى: "فسّر ريزنر السّجل الآثاري للنوبة السفلى كسلسلة من المجموعات البشرية أو الثقافات والتي نسبها إلى سكان مختلفين، وإفترض على الأقل ستة هجرات كبرى إلى النوبة حلّت كل واحدة منها بشكل كامل أو جزئى محل المجموعة الساكنة من قبلها." (تريقر 1994) في ضوء هذا التفسير إفترض الباحثون الغربيون عدم وجود تحولات ثقافية أساسية بادر بها السكان المحليين. وفي المقابل، كما يقول آدمز، نسبوا التحولات الثقافية والإجتماعية الكبرى، سواءً كانت متطورة أو متدهورة إلى مهاجرين جدد. (آدمز 1977) إضافة لذلك، كان الدارسون الغربيون أكثر حرصاً على التمييز بين أولئك الذين أدخلوا تحولات ثقافية "متطورة" والذين تسببوا في تحولات "متدهورة". فقد نسبوا التدهور الثقافي المرتبط بالمجموعة "B" والمجموعة "X" إلى تدفق المجموعات الزنجية المتدنية ثقافياً وعرقياً في نظرهم من جهة الجنوب. (تريقر 1994) كذلك يؤكد آدمز بأن نظرية الهجرات تنسجم تماماً مع الرؤية العنصرية التي سادت في أواخر القرن التاسع عشر إذ أصبحت هذه النظرية واحدة من مبادئ الآثاريين الأوائل وعلماء ما قبل التاريخ غير الملتفت لها والتي ما زال إرثها باقياً معنا إلى اليوم. (آدمز 1977)يشرح ذلك بقوله:
"أدت العنصرية بريزنر وكثير من زملائه لأن ينسبوا المراحل المتطورة في التاريخ الثقافي السوداني ليس فقط إلى التأثير المصري بل إلى الهجرة المصرية (أو الليبية) الفعلية، بينما يفسروا فترات التدهور الثقافي إما بمغادرة المصريين أو بقدوم مهاجرين من الجنوب. بذلك يتجزأ تاريخ السودان إلى سلسلة من الأحداث غير المتصلة تنسب إلى ممثلين مختلفين. هذا رأي قصير النظر يكشف بوضوح عن إنعدام المنظور الثقافي الأشمل والذي كان من الممكن إكتسابه من دراسة التاريخ الثقافي والعرقي في أجزاء أخرى من العالم." (آدمز 1981)
كذلك تبدو هذه الآراء العنصرية أكثر وضوحاً عندما يُنظر إليها في السياق الأفريقي الأوسع. ومرة أخرى يكشف تريقر بوضوح طبيعة هذه الآراء بقوله:
"يُنسب النوبيون "المتطورون"، مثل المجموعة "A" والمجموعة "c" إلى أصل ليبي أو بجاوي، أي ضمن المجموعة الحاميّة العامة والتي يعتقد بقدرتها على الإستفادة من المزايا الثقافية المنتشرة إلى الجنوب من مصر. ويُعتقد كذلك أن النوبيين كانوا متفوقين بما يكفي على الأقوام الزنجية إلى الجنوب والغرب لنقل عناصر الثقافة المتقدمة إليهم … هذه التفاسير العنصرية للتاريخ النوبي تجلت أيضاً بشكل مائع وغامض في نواحي أخرى. فملوك كوش الذين حكموا غالبية السودان بين القرن التاسع قبل الميلاد والرابع الميلادي يوصفوا بأنهم حاميون عندما توصف المملكة بأنها كانت مصدراً للتأثير الحضاري في بقية أفريقية، ويوصفوا بأنهم سود عندما ينظر لإنجازات السودان مقارنة مع الإنجازات المصرية." (تريقر 1994)
عموماً، يمكن تحديد إسهامين على الأقل بعيدي الأثر أنجزتهما البحوث الآثارية في تاريخ الثقافة السودانية وأصبحا يشكلان أساساً علمياً لا غنى عنه في أي محاولة لإستجلاء وصياغة الهوية السودانية. أولهما، تفنيد نظرية الهجرات إعتماداً على البراهين المثبتة في أعمال الآثاريين المعاصرين(مثل شارل بونيه في أيامنا هذه) ومن سبقوهم في نموذج ما قبل الإستقلال المشار إليه حول الإستمرارية التاريخية للسلالات والثقافات في وادي النيل الأوسط. فتريقر يؤكد في دراسته في النوبة السفلى أن أنماط المستوطنات منذ الألفية الرابعة قبل الميلاد وحتى القرن الثاني عشر الميلادي بينت إستمرارية في الوجود السكاني أكثر مما أفاد به المنهج الثقافي التاريخي، وأظهرت كذلك أن التحول الثقافي كثيراً ما حدث دون تحولات كبيرة في الأعراق. (تريقر) أما آدمز فيؤكد بدوره من خلال بحوثه المكثفة في تاريخ الحضارة السودانية على حقيقة الإستمرارية الإثنية والثقافية لسكان وادي النيل الأوسط. كتب ما يلي:
"هنا وكما هو مؤكد في أجزاء أخرى من العالم، أدى تدريجياً تراكم الأدلة الملموسة إلى سد الفجوات في السجل التاريخي، وأعطاني إنطباع شامل عن إستمرارية ثقافية من عصر إلى عصر والتي فاقت كثيراً إنقطاعها من وقت لآخر. فالتحولات التي كان يعتقد أنها مفاجئة أو حتى جذرية في طبيعتها يمكن الآن النظر إليها كتطورات طبيعية، ناتجة في الغالب عن إنتشار ثقافي أو تطورات محلية لا عن حركة شعوب. إضافة لذلك فقد بين إعادة فحص حصيلة الهياكل النوبية المبكرة، إلى جانب الكم الهائل من المادة الآثارية الجديدة، أن الإختلافات العرقية المفترضة بين الشعوب النوبية المتعاقبة كانت مجرد خرافة. لا يوجد اليوم أي سبب كافي للإعتقاد بأن النوبيين المعاصرين هم شعوب مختلفة عن النوبيين في العصور القديمة أو التالية. على عكس ذلك، أعتقد أن كل شيء يشير إلى أنهم نفس الشعوب. كون أعدادهم نمت بسبب الهجرات، حربية أو سلمية، من الشمال والجنوب هو أمر بديهي، كذلك كون الدخلاء من آن لآخر يعرقلون- وأحياناً بدرجة كبيرة- عمليات التطور الإجتماعي والثقافي أمر واضح أيضاً. كذلك خيوط الإستمرارية الثقافية من عصر إلى عصر واضحة للجميع، وتوفر السداة الرئيسية لنسيج التاريخ النوبي في إمتداده منذ ما قبل التاريخ و حتى الآن." (آدمز 1977)
كان إنجاز هذه المدرسة الآثارية المعاصرة إستكمالاً لنقلة هائلة في الفكر الآثاري السوداني وتصحيحاً حاسماً لمنهج تأريخ الثقافة السودانية، كما أصبح معطى علمياً إلتقى حوله علماؤها. ففي ورقة حول التطور المنهجي في التفسير الآثاري ونماذجه يؤكد تريقر إسهام آدمز في توطيد نظرية الإستمرارية الإثنية في وادي النيل الأوسط من خلال سلسلة من البراهين، مثل تأكيده على أن التحولات الكبرى في أساليب إنتاج الخزف راجعة إلى عوامل إقتصادية وتغيرات في أساليب الدفن لأسباب آيديولوجية لا نتيجة لتغيرات إثنية، كذلك تأكيده على أن اللغات المكتوبة لم تكن تعكس وجود اللغات المتحدث بها والمشتركة في المنطقة، أضف إلى ذلك ما جرى من تحولات منهجية في الآنثروبولوجيا الطبيعية وتفسيرها للمادة الآثارية منذ عام 1945 والتي أزالت كثيراً من الإعتراضات على إستمرارية الوجود السكانى. (تريقر 1982)
في سياق هذه القاعدة من الإستمرارية الإثنية والثقافية لسكان وادي النيل الأوسط يمكن القول، إذن، بإستمرارية الدولة السودانية منذ نشأتها وإلى الآن، وذلك بإعتبار وجودها، بداهةً، ضمن جسم سكاني عريض ومتنوع، قائم ومستمر في المكان. وهذا يعني أن هذه الدولة، ومنذ قيامها، قد تمددت جغرافياً وسياسياً وتطورت موحدة حيناً ومفككة إلى دويلات حيناً آخر، ومتخذة أسماءً مختلفة أطلقها عليها المؤرخون، لكنها لم تتلاشى منذ بزوغها وحتى الآن.
أما الإسهام الآثاري الثانى فيتمثل في تطوير مناهج أكثر علمية ومؤسسة على قاعدة عريضة من المعطيات بفضل إتساع مجال البحث ليشمل مجموع الثقافات حول وادي النيل الأوسط، على حد قول تريقر، وقد نتج عن هذه التطورات المنهجية توجه جديد في تفسير تاريخ السودان. يكتب تريقر في هذا الصدد:
"بسبب الفهم المتكامل للسجل الآثاري تم التخلي عن تبسيطات نظرية الإنتشار الثقافية/ التاريخية بمركزيتها المصرية، والتي كانت سائدة من قبل. يتم التركيز الآن على الإستمرارية الإثنية والثقافية التي إتسمت بها الثقافات السودانية عبر آلاف السنين، والنظر إلى هذه الثقافات في إطار بيئاتها الخاصة ومتغيراتها. كذلك تم الإقرار بأنه لا يمكن فهم تاريخ السودان والمجتمعات الزراعية في حوض النيل بمعزل عن المناطق الواقعة خارج حوض النيل والعلاقات مع المجتمعات الرعوية في السهول المجاورة." (تريقر)
وهناك جيل جديد من الآثاريين السودانيين، يقول تريقر، يركز الآن على الآليات الداخلية والقوى المسببة للتحول، ويتبنى المنهج السياقي في البحث الآثاري الذي ينظر في مجال واسع من المعطيات الثقافية مثل الأساليب الفنية والمعتقدات والديانات، ويؤكد على أهمية التقاليد الثقافية كعوامل تلعب دوراً هاماً في إحداث التغيير وتدل على أنواع المعارف والقيم التي يشارك فيها أفراد المجتمع في أي وقت.ضمن هذا الجيل الجديد من الآثاريين السودانيين يبرز أسامة عبدالرحمن النور كإمتداد للنهج الفكري الآثاري الذى رسمه هؤلاء الآثاريون المعاصرون حول تفسير تاريخ الحضارة السودانية إذ يكتب:
"لن يكون التقدم المستقبلي ممكناً بدون إضافة المزيد من المعطيات الجديدة عن طريق توسيع دائرة الأعمال الميدانية لتشمل جنوب السودان وجبال النوبة وأعماق دارفور وجنوب النيل الأزرق وتلال البحر الأحمر. فكما يقول كاتسنلسون "ستة عشر قرناً إنقضت منذ إنهيار مملكة مروي، إلا أنها لا زالت تعيش ليس فقط في الذاكرة والتحدرات والأساطير والأحاجي، بل يظل تراثها باقياً في معتقدات وعادات وتقاليد شعوب السودان وثقافتهم المادية."(أسامة 2006)
والآن، في ضوء ما سقناه أعلاه يمكننا مقاربة مقولة الهجرات العربية وأثرها في التطور التاريخي للحضارةالسودانية من عدة زوايا نوجزها في النقاط التالية
أولاً، تأكيد البعض على الدلالة الثقافية وليس العرقية لمفهوم التعريب ما هو إلا الوجه الآخر لنفس العملة. فبدلاً من أن يكون هذا التأكيد إستبدالاً مريحاً لخرافة الأصول العربية، إلا أنه جاء تدعيماً للجوانب الثقافية الأساسية المضمرة في نظرية الهجرات كما طبقتها المدرسة الآثارية القديمة أعلاه. بكلمة أخرى، على المرء أن يفترض، بناءً على هذه النظرية، أن عملية "تعريب" السودانيين التي بدأتمع "الهجرات العربية" قبل عدة قرون، نتج عنها عملية "تطور" تستدعي القبول كتحول ثقافي تاريخي. مثل هذا التفسير لتاريخ السودان الثقافي يقود منطقياً إلى إفتراض "تخلف وعجز" المجتمعات السودانية وفي إنتظار "مهاجرين جدد". أي فقدانها القدرة على التطور الذاتيوإمتلاك المبادرة والإبداع في مواجهة التحديات والمتغيرات والقدرة على الإنتقاء وإستيعاب العناصر الوافدة ضمن ركائزها الثقافية المحلية.
ثانياً، مقولة الهجرة العربية وتفريعاتها تعني التجاهل التام، من ناحية، للتمازج التاريخي الإثنوثقافي الجاري بين الكيانات الثقافية والسياسية في المنطقة بسبب الجهل التام بمسار التطور التاريخي للثقافة السودانية، وإختزال أنماط المثاقفة بين هذه الكيانات وبين عناصر الثقافة العربية الإسلامية الوافدة في مسار ذو اتجاه واحد الغلبة فيه لعمليات التعريب والأسلمة من ناحية أخرى. وهذا بالضبط ما أشار إليه سبولدنق في نقده لما أسماه بالنموذج الإستشراقي الجاري تطبيقه على تاريخ الثقافة السودانية، والذي سنتطرق إليه لاحقاً.
ثالثاً، ضرورة الُنظر إلى تبني اللغة العربية والإسلام من قبل العديد من المجتمعات السودانية وإستيعاب ثقافاتها لعناصر الثقافة العربية والإسلامية الوافدة كإستجابة لآليات التلاقح الثقافي المعتادة بين الحضارات والثقافات من ناحية، وكإستجابة أيضاً لعوامل التطور الداخلي في البنيات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية لتلك المجتمعات.
رابعاً،تعميق الوعي الزائف بالإنتماء العروبي لدى الجماعات السودانية المستعربة والإعتقادبالتفوق العرقي والثقافي للعنصر العربييوفر الأساس لآيديولوجية عرقية/ دينية/ لغوية يتم الإفصاح عنها كمشروعية للحكم، أي أصبح مدلول الثقافة العربية معادلاً لمشروعية الهيمنة في جميع أبعادها. ترتب على ذلك أن إستراتيجية الهيمنة وسياسة النخبة الحاكمة القائمة في آن واحد على مبدأيْ الإنصهار والإلغاءأصبحت في تناقض حاد مع الواقع التاريخي للبلاد مما أدى إلى الرفض السياسي ثم المقاومة المسلحة من قبل المجموعات الإثنية الأخرى وتحوُّل مشكلة الهوية السياسية والثقافية إلى أزمة وطنية عميقة.
خامساً، ثقافات السهول إلى الشرق والغرب والجنوب مكون عضوي في البنية التاريخية للحضارة السودانية وتطورهاوتشملها، بداهةً، مقولة الإستمرارية الإثنوثقافية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.