لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودانوية : المفهوم والأساس العلمي 4 – 6
نشر في حريات يوم 06 - 07 - 2017

في الحلقة السابقة تناولنا المدرسة التاريخية "التقليدية" ونظرية الهجرات العربية إلى جانب مقاربة نقدية للعامل اللغوي كعنصر ثقافي، وأشرنا في نهاية المقال إلى أن تفنيد هذه النظريةوناتجها مقولة"التعريب"، سواءً في مضمونها العرقي أو الثقافي، وما تأسس على ذلك من تعتيم وتزييف للتاريخ الثقافي، قد جاء من جبهتين: أولهما الموقف العلمي متمثلاً في المدارس الجديدة في البحوث الآثارية والتاريخية واللغوية السودانية، وثانيهما جدلية الوعي والتجربة لدى الإنسان السوداني في مواجهته للمتغيرات السياسية والإجتماعية وفي مساءلته لقناعات مترسخة وفولكلور عتيق لم يعد حصيناً أمام هذه المساءلة. في هذا المقال نبدأ بالمدرسة الآثارية ودورها.
المدرسة الآثارية "الجديدة"
أسهم البحث الآثاري في السودان بقدر رئيسي وحاسم في الكشف عن طبيعة ومراحل التطور التاريخي للثقافات السودانية.في ورقة هامة يرى ويليام آدمز، وهو من أميز الآثاريين المعاصرين، أن العمل في الآثار السودانية كان محكوماً منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن بأربع نماذج متعاقبة ومتباينة في رؤيتها وأسلوب تناولها وتفسيرها للمادة الآثارية السودانية. وقد عكست هذه النماذج ما جرى من تحولات سياسية أثناء وبعد الحقبة الإستعمارية، كما تأثرت بالتطورات المنهجية في علم الآثار وبالرؤية الفلسفية الغربية تجاه أفريقية وسكانها. يصف آدمز النموذج الأول في القرن التاسع عشر بأنه نموذج "النهب والإستحواذ الإستعماري"، واصفاً ممثليه، جيوفاني بلزوني وجوزيف فيرليني ووالس بدج، بعدم المسؤولية وفقدان المهنية الأكاديمية.ويرى النموذج الثاني، أثناء الحكم الثنائي،بأنه"النموذج الإستعماري المستنير". وأهم ممثليه جورج ريزنر، والذى يعتبر رائد الآركيولوجيا السودانية، وقريفث وكراوفوت. والأخير وضع اللبنات الأولى لما أصبح فيما بعد مصلحة الآثار، وبسبب نفوذه وإهتمامه سعى الحكم الثنائي إلى تشجيع العمل الآثاري وحماية الآثار السودانية الأمر الذي إنعكس في إنجازات هذا النموذج. من ناحية أخرى، يرى آدمز أن التوجه الأساسي لأفراد هذا النموذج لم يكن إعادة تركيب وصياغة التاريخ القديم بقدر ما كان هدفهم الكشف عن الآثار وإعداد سجلها. لكن أهم قصور صاحب هذا النموذج كان مرتبطاً بالجانب الفلسفي، على حد قول آدمز. إذ يرى أن عنصرية القرن التاسع عشر ما زالت واضحة في آراء أفراد هذا النموذج وتفسيراتهم بما فيهم ريزنر نفسه. أما النموذج الرابع فهو "نموذج ما بعد الإستعمار"ويضم عدداً من الآثاريين البارزين أهمهم آركل وشيني وبروس تريقر وفرد وندورف وآدمز. أدخل هذا النموذج مناهج متطورة وتقنيات تحليلية متنوعة إلى جانب التركيز على إعادة تركيب البنية الثقافية التاريخية. لكن الإنجاز الأكثر أهمية يتضح في المجال الآيديولوجي. فهذا الجيل من الآركيولوجيين، يستطرد آدمز، متحرر تماماً من عنصرية القرن التاسع عشر وكذلك، إلى حد ما، من تأثير الدراسات الآركيولجية المصرية. هذا إلى جانب تقديرهم للثقافة السودانية في ذاتها ورؤيتهم لتاريخ السودان ككل متصل وليس سلسلة من الأحداث مصدرها مهاجرين أجانب.(آدمز 1981)كذلك تحدث شيني عن ما أسماه"النموذج الوطني الإستقلالي"، مؤكداً إهتمام السودانيين عموماً والمتعلمين خاصةً بتاريخهم كأهم ملامح هذا النموذج، وهذا ناتج، كما يقول، عن الوعي بالهوية والحصول على الإستقلال والتحول في مفهوم هذه الهوية وإدراك البعد السوداني والأفريقي فيها.هذا إلى جانب إنضمام كثرة من الآثاريين السودانيين إلى العمل الميداني وإتساع نطاق العمل في أجزاء السودان الأخرى غير وادي النيل. (شيني 1981)
بدأ البحث العلمي الآثاري بأعمال ريزنر بين عامي 1907م و1920م وطبّق النظرية الثقافية/التاريخية حول الهجرات، وكانت سائدة في الفكر الآثاري وقتها، على إكتشافاته في شمال السودان. من أهم إنجازات ريزنر وضعه الإطار العام لكرونولوجيا مرحلتيْ نبته ومروي في الحضارة الكوشية وتحديده للأحداث الرئيسية وتاريخها. لكنه من واقع تأثره بنظريات القرن التاسع عشر أرجع أصل مملكة نبته ومؤسسيها من الأسرة الخامسة والعشرين إلى أصول ليبية، وهو إفتراض ثبت بطلانه في أعمال الآثاريين اللاحقة وتأكد جذور هذه المملكة في حضارة كرمة وفي ذلك تأكيد للأصول السودانية المحلية للمملكة.هذا ومن واقع إكتشافاتهم وبحوثهم تصدى بروس تريقر وآدمزبالنقد للنظريات الآثارية التي طبقت على تاريخ السودان. يلخص لنا تريقر ما توصل إليه ريزنر وتفسيره لهذا التاريخ في ضوء نظرية الهجرات كالآتى: "فسّر ريزنر السّجل الآثاري للنوبة السفلى كسلسلة من المجموعات البشرية أو الثقافات والتي نسبها إلى سكان مختلفين، وإفترض على الأقل ستة هجرات كبرى إلى النوبة حلّت كل واحدة منها بشكل كامل أو جزئى محل المجموعة الساكنة من قبلها." (تريقر 1994) في ضوء هذا التفسير إفترض الباحثون الغربيون عدم وجود تحولات ثقافية أساسية بادر بها السكان المحليين. وفي المقابل، كما يقول آدمز، نسبوا التحولات الثقافية والإجتماعية الكبرى، سواءً كانت متطورة أو متدهورة إلى مهاجرين جدد. (آدمز 1977) إضافة لذلك، كان الدارسون الغربيون أكثر حرصاً على التمييز بين أولئك الذين أدخلوا تحولات ثقافية "متطورة" والذين تسببوا في تحولات "متدهورة". فقد نسبوا التدهور الثقافي المرتبط بالمجموعة "B" والمجموعة "X" إلى تدفق المجموعات الزنجية المتدنية ثقافياً وعرقياً في نظرهم من جهة الجنوب. (تريقر 1994) كذلك يؤكد آدمز بأن نظرية الهجرات تنسجم تماماً مع الرؤية العنصرية التي سادت في أواخر القرن التاسع عشر إذ أصبحت هذه النظرية واحدة من مبادئ الآثاريين الأوائل وعلماء ما قبل التاريخ غير الملتفت لها والتي ما زال إرثها باقياً معنا إلى اليوم. (آدمز 1977)يشرح ذلك بقوله:
"أدت العنصرية بريزنر وكثير من زملائه لأن ينسبوا المراحل المتطورة في التاريخ الثقافي السوداني ليس فقط إلى التأثير المصري بل إلى الهجرة المصرية (أو الليبية) الفعلية، بينما يفسروا فترات التدهور الثقافي إما بمغادرة المصريين أو بقدوم مهاجرين من الجنوب. بذلك يتجزأ تاريخ السودان إلى سلسلة من الأحداث غير المتصلة تنسب إلى ممثلين مختلفين. هذا رأي قصير النظر يكشف بوضوح عن إنعدام المنظور الثقافي الأشمل والذي كان من الممكن إكتسابه من دراسة التاريخ الثقافي والعرقي في أجزاء أخرى من العالم." (آدمز 1981)
كذلك تبدو هذه الآراء العنصرية أكثر وضوحاً عندما يُنظر إليها في السياق الأفريقي الأوسع. ومرة أخرى يكشف تريقر بوضوح طبيعة هذه الآراء بقوله:
"يُنسب النوبيون "المتطورون"، مثل المجموعة "A" والمجموعة "c" إلى أصل ليبي أو بجاوي، أي ضمن المجموعة الحاميّة العامة والتي يعتقد بقدرتها على الإستفادة من المزايا الثقافية المنتشرة إلى الجنوب من مصر. ويُعتقد كذلك أن النوبيين كانوا متفوقين بما يكفي على الأقوام الزنجية إلى الجنوب والغرب لنقل عناصر الثقافة المتقدمة إليهم … هذه التفاسير العنصرية للتاريخ النوبي تجلت أيضاً بشكل مائع وغامض في نواحي أخرى. فملوك كوش الذين حكموا غالبية السودان بين القرن التاسع قبل الميلاد والرابع الميلادي يوصفوا بأنهم حاميون عندما توصف المملكة بأنها كانت مصدراً للتأثير الحضاري في بقية أفريقية، ويوصفوا بأنهم سود عندما ينظر لإنجازات السودان مقارنة مع الإنجازات المصرية." (تريقر 1994)
عموماً، يمكن تحديد إسهامين على الأقل بعيدي الأثر أنجزتهما البحوث الآثارية في تاريخ الثقافة السودانية وأصبحا يشكلان أساساً علمياً لا غنى عنه في أي محاولة لإستجلاء وصياغة الهوية السودانية. أولهما، تفنيد نظرية الهجرات إعتماداً على البراهين المثبتة في أعمال الآثاريين المعاصرين(مثل شارل بونيه في أيامنا هذه) ومن سبقوهم في نموذج ما قبل الإستقلال المشار إليه حول الإستمرارية التاريخية للسلالات والثقافات في وادي النيل الأوسط. فتريقر يؤكد في دراسته في النوبة السفلى أن أنماط المستوطنات منذ الألفية الرابعة قبل الميلاد وحتى القرن الثاني عشر الميلادي بينت إستمرارية في الوجود السكاني أكثر مما أفاد به المنهج الثقافي التاريخي، وأظهرت كذلك أن التحول الثقافي كثيراً ما حدث دون تحولات كبيرة في الأعراق. (تريقر) أما آدمز فيؤكد بدوره من خلال بحوثه المكثفة في تاريخ الحضارة السودانية على حقيقة الإستمرارية الإثنية والثقافية لسكان وادي النيل الأوسط. كتب ما يلي:
"هنا وكما هو مؤكد في أجزاء أخرى من العالم، أدى تدريجياً تراكم الأدلة الملموسة إلى سد الفجوات في السجل التاريخي، وأعطاني إنطباع شامل عن إستمرارية ثقافية من عصر إلى عصر والتي فاقت كثيراً إنقطاعها من وقت لآخر. فالتحولات التي كان يعتقد أنها مفاجئة أو حتى جذرية في طبيعتها يمكن الآن النظر إليها كتطورات طبيعية، ناتجة في الغالب عن إنتشار ثقافي أو تطورات محلية لا عن حركة شعوب. إضافة لذلك فقد بين إعادة فحص حصيلة الهياكل النوبية المبكرة، إلى جانب الكم الهائل من المادة الآثارية الجديدة، أن الإختلافات العرقية المفترضة بين الشعوب النوبية المتعاقبة كانت مجرد خرافة. لا يوجد اليوم أي سبب كافي للإعتقاد بأن النوبيين المعاصرين هم شعوب مختلفة عن النوبيين في العصور القديمة أو التالية. على عكس ذلك، أعتقد أن كل شيء يشير إلى أنهم نفس الشعوب. كون أعدادهم نمت بسبب الهجرات، حربية أو سلمية، من الشمال والجنوب هو أمر بديهي، كذلك كون الدخلاء من آن لآخر يعرقلون- وأحياناً بدرجة كبيرة- عمليات التطور الإجتماعي والثقافي أمر واضح أيضاً. كذلك خيوط الإستمرارية الثقافية من عصر إلى عصر واضحة للجميع، وتوفر السداة الرئيسية لنسيج التاريخ النوبي في إمتداده منذ ما قبل التاريخ و حتى الآن." (آدمز 1977)
كان إنجاز هذه المدرسة الآثارية المعاصرة إستكمالاً لنقلة هائلة في الفكر الآثاري السوداني وتصحيحاً حاسماً لمنهج تأريخ الثقافة السودانية، كما أصبح معطى علمياً إلتقى حوله علماؤها. ففي ورقة حول التطور المنهجي في التفسير الآثاري ونماذجه يؤكد تريقر إسهام آدمز في توطيد نظرية الإستمرارية الإثنية في وادي النيل الأوسط من خلال سلسلة من البراهين، مثل تأكيده على أن التحولات الكبرى في أساليب إنتاج الخزف راجعة إلى عوامل إقتصادية وتغيرات في أساليب الدفن لأسباب آيديولوجية لا نتيجة لتغيرات إثنية، كذلك تأكيده على أن اللغات المكتوبة لم تكن تعكس وجود اللغات المتحدث بها والمشتركة في المنطقة، أضف إلى ذلك ما جرى من تحولات منهجية في الآنثروبولوجيا الطبيعية وتفسيرها للمادة الآثارية منذ عام 1945 والتي أزالت كثيراً من الإعتراضات على إستمرارية الوجود السكانى. (تريقر 1982)
في سياق هذه القاعدة من الإستمرارية الإثنية والثقافية لسكان وادي النيل الأوسط يمكن القول، إذن، بإستمرارية الدولة السودانية منذ نشأتها وإلى الآن، وذلك بإعتبار وجودها، بداهةً، ضمن جسم سكاني عريض ومتنوع، قائم ومستمر في المكان. وهذا يعني أن هذه الدولة، ومنذ قيامها، قد تمددت جغرافياً وسياسياً وتطورت موحدة حيناً ومفككة إلى دويلات حيناً آخر، ومتخذة أسماءً مختلفة أطلقها عليها المؤرخون، لكنها لم تتلاشى منذ بزوغها وحتى الآن.
أما الإسهام الآثاري الثانى فيتمثل في تطوير مناهج أكثر علمية ومؤسسة على قاعدة عريضة من المعطيات بفضل إتساع مجال البحث ليشمل مجموع الثقافات حول وادي النيل الأوسط، على حد قول تريقر، وقد نتج عن هذه التطورات المنهجية توجه جديد في تفسير تاريخ السودان. يكتب تريقر في هذا الصدد:
"بسبب الفهم المتكامل للسجل الآثاري تم التخلي عن تبسيطات نظرية الإنتشار الثقافية/ التاريخية بمركزيتها المصرية، والتي كانت سائدة من قبل. يتم التركيز الآن على الإستمرارية الإثنية والثقافية التي إتسمت بها الثقافات السودانية عبر آلاف السنين، والنظر إلى هذه الثقافات في إطار بيئاتها الخاصة ومتغيراتها. كذلك تم الإقرار بأنه لا يمكن فهم تاريخ السودان والمجتمعات الزراعية في حوض النيل بمعزل عن المناطق الواقعة خارج حوض النيل والعلاقات مع المجتمعات الرعوية في السهول المجاورة." (تريقر)
وهناك جيل جديد من الآثاريين السودانيين، يقول تريقر، يركز الآن على الآليات الداخلية والقوى المسببة للتحول، ويتبنى المنهج السياقي في البحث الآثاري الذي ينظر في مجال واسع من المعطيات الثقافية مثل الأساليب الفنية والمعتقدات والديانات، ويؤكد على أهمية التقاليد الثقافية كعوامل تلعب دوراً هاماً في إحداث التغيير وتدل على أنواع المعارف والقيم التي يشارك فيها أفراد المجتمع في أي وقت.ضمن هذا الجيل الجديد من الآثاريين السودانيين يبرز أسامة عبدالرحمن النور كإمتداد للنهج الفكري الآثاري الذى رسمه هؤلاء الآثاريون المعاصرون حول تفسير تاريخ الحضارة السودانية إذ يكتب:
"لن يكون التقدم المستقبلي ممكناً بدون إضافة المزيد من المعطيات الجديدة عن طريق توسيع دائرة الأعمال الميدانية لتشمل جنوب السودان وجبال النوبة وأعماق دارفور وجنوب النيل الأزرق وتلال البحر الأحمر. فكما يقول كاتسنلسون "ستة عشر قرناً إنقضت منذ إنهيار مملكة مروي، إلا أنها لا زالت تعيش ليس فقط في الذاكرة والتحدرات والأساطير والأحاجي، بل يظل تراثها باقياً في معتقدات وعادات وتقاليد شعوب السودان وثقافتهم المادية."(أسامة 2006)
والآن، في ضوء ما سقناه أعلاه يمكننا مقاربة مقولة الهجرات العربية وأثرها في التطور التاريخي للحضارةالسودانية من عدة زوايا نوجزها في النقاط التالية
أولاً، تأكيد البعض على الدلالة الثقافية وليس العرقية لمفهوم التعريب ما هو إلا الوجه الآخر لنفس العملة. فبدلاً من أن يكون هذا التأكيد إستبدالاً مريحاً لخرافة الأصول العربية، إلا أنه جاء تدعيماً للجوانب الثقافية الأساسية المضمرة في نظرية الهجرات كما طبقتها المدرسة الآثارية القديمة أعلاه. بكلمة أخرى، على المرء أن يفترض، بناءً على هذه النظرية، أن عملية "تعريب" السودانيين التي بدأتمع "الهجرات العربية" قبل عدة قرون، نتج عنها عملية "تطور" تستدعي القبول كتحول ثقافي تاريخي. مثل هذا التفسير لتاريخ السودان الثقافي يقود منطقياً إلى إفتراض "تخلف وعجز" المجتمعات السودانية وفي إنتظار "مهاجرين جدد". أي فقدانها القدرة على التطور الذاتيوإمتلاك المبادرة والإبداع في مواجهة التحديات والمتغيرات والقدرة على الإنتقاء وإستيعاب العناصر الوافدة ضمن ركائزها الثقافية المحلية.
ثانياً، مقولة الهجرة العربية وتفريعاتها تعني التجاهل التام، من ناحية، للتمازج التاريخي الإثنوثقافي الجاري بين الكيانات الثقافية والسياسية في المنطقة بسبب الجهل التام بمسار التطور التاريخي للثقافة السودانية، وإختزال أنماط المثاقفة بين هذه الكيانات وبين عناصر الثقافة العربية الإسلامية الوافدة في مسار ذو اتجاه واحد الغلبة فيه لعمليات التعريب والأسلمة من ناحية أخرى. وهذا بالضبط ما أشار إليه سبولدنق في نقده لما أسماه بالنموذج الإستشراقي الجاري تطبيقه على تاريخ الثقافة السودانية، والذي سنتطرق إليه لاحقاً.
ثالثاً، ضرورة الُنظر إلى تبني اللغة العربية والإسلام من قبل العديد من المجتمعات السودانية وإستيعاب ثقافاتها لعناصر الثقافة العربية والإسلامية الوافدة كإستجابة لآليات التلاقح الثقافي المعتادة بين الحضارات والثقافات من ناحية، وكإستجابة أيضاً لعوامل التطور الداخلي في البنيات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية لتلك المجتمعات.
رابعاً،تعميق الوعي الزائف بالإنتماء العروبي لدى الجماعات السودانية المستعربة والإعتقادبالتفوق العرقي والثقافي للعنصر العربييوفر الأساس لآيديولوجية عرقية/ دينية/ لغوية يتم الإفصاح عنها كمشروعية للحكم، أي أصبح مدلول الثقافة العربية معادلاً لمشروعية الهيمنة في جميع أبعادها. ترتب على ذلك أن إستراتيجية الهيمنة وسياسة النخبة الحاكمة القائمة في آن واحد على مبدأيْ الإنصهار والإلغاءأصبحت في تناقض حاد مع الواقع التاريخي للبلاد مما أدى إلى الرفض السياسي ثم المقاومة المسلحة من قبل المجموعات الإثنية الأخرى وتحوُّل مشكلة الهوية السياسية والثقافية إلى أزمة وطنية عميقة.
خامساً، ثقافات السهول إلى الشرق والغرب والجنوب مكون عضوي في البنية التاريخية للحضارة السودانية وتطورهاوتشملها، بداهةً، مقولة الإستمرارية الإثنوثقافية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.