لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن الهُوية الآفروعربية للسودانيين مرةً أخرى
نشر في حريات يوم 22 - 08 - 2017


د. خالد محمد فرح
قلتُ في كلمةٍ لي سابقة ، إنَّ البروفيسور عبد الله علي إبراهيم ، قد تميَّزَ باجتراح الأطروحات الجريئة والمُثيرة للجدل ، وخصوصاً في كتاباته وأفكاره مؤخراً حول الثقافة السودانية وإشكالات الهوية ، وبعض ما يمُّت إليها من موضوعات مثل تعريف الهوية الوطنية لسكان شمال السودان بالتحديد ، وأبنتُ في ذات السياق أن البروفيسور عبد الله ، كأنه يجزم بصدق الاعتقاد في الهوية العربية الإسلامية الخالصة والصمدية لأهل شمال السودان ، وأنه يسلِّم بصحة ما يعتقده معظم الناس في سائر المجموعات العرقية المكونة لهذا الكيان في ذلك الشأن ، وأنّه قد سفَّه رأي منتسبي مدرسة الغابة والصحراء الذين قالوا بإنَّ سكان شمال السودان ، أو جلّهم ، إنما هم هجين عربي – إفريقي ، أو إفريقي – عربي ، وقال ببطلانه قولاً واحدا.
وقد حاولتُ المجادلة باحتمال أن يكون البروف عبد الله قد أُتي في موقفه ذاك ، من باب التأثُّر المعرفي والإيديولوجي ، وخصوصاً التدريبي ، لدراسته وتخصصه الأكاديمي في مجالات الأنثربولوجيا ، و الفولكلور ، والثقافة ، وعدم ميل مناهج هذه العلوم الاجتماعية المتسامحة و الرحبة الملحوظ ، إلى " ملاواة " الناس و " حكَّها معهم" كثيراً في مرئياتهم لهوياتهم وتواريخهم وأنسابهم الخ.
لقد برزَتْ في الواقع ، بضع تيارات أو مدارس في مقاربة هوية شمال السودان عبر العقود الماضية ، استعرَضَهَا الدكتور محمد جلال هاشم استعراضاً وافياً ، ولَخَّصها تلخيصاً جيداً ، في دراسته المطولة بعنوان: " السودانو عروبية أو تحالف الهاربين " المبذولة لحسن الحظ بالشبكة العنكبوتية ، والتي يتعقَّب فيها بالرد ، ورقة عبد الله علي إبراهيم التي أشرنا إليها من قبل ، والموسومة ب " الآفرو عروبية وتحالف الهاربين ".
وقد سَمَّى محمد جلال من بين تلك التيارات ما دعاها بمدرسة العروبيين الذي يعتقدون في الهوية العربية الإسلامية الصرفة لأهل السودان ، وذكر من رموز تلك المدرسة: الشيخ عبد الله عبد الرحمن الضرير ، صاحب كتاب " العربية في السودان " ، ومن الأجانب المصري البروفيسور عبد المجيد عابدين ، مؤلف كتاب: " تاريخ الثقافة العربية في السودان " ، ثمَّ الأفريقانيين الخُلَّص الذين يقولون بخلوص السودانيين جميعهم لهوية آحادية هي الهوية الزنجية الإفريقية المحضة ، إما كحقيقة موضوعية ثابتة كما يرونها ، أو تعبيراً عن تفكير رغائبي بصورة ما من الصور ، كما قد يتراءى للبعض ، ومَثّل لهؤلاء بالشاعر محمد الفيتوري ، خصوصاً في مرحلته الأولى من مراحل تكوينه الشعري في بواكيره. ثم الآفروعروبيين ، وهم القائلون بأن هوية السواد الأعظم من سكان شمال السودان خاصة ، هي أنهم هجين خلاسي عربي إفريقي ، أو إفريقي عربي. ومن بين هؤلاء رواد مدرسة الغابة والصحراء الشعرية ، الذين هم في الواقع حُداة هذه الفئة ومنشدوها المقوالون.
واستعرض الدكتور هاشم طيفاً واسعاً من أسماء نفرٍ من الأكاديميين ، والمثقفين ، والمبدعين ، والسياسيين السودانيين الذين قاربوا ، أو ظلوا يقاربون موضوع هوية السودان الوطنية بصفة عامة خلال العقود الماضية ، كل من خلال نظرته إليها ، وما ينبغي أن تكون عليه بحسب وجهة نظره بطبيعة الحال.
وهكذا يعرض الكاتب لأسماء ومواقف ورؤى شخصيات مثل: عبد الله عبد الرحمن الضرير ، وحمزة الملك طمبل ، ومحمد أحمد محجوب ، وعبد الله عشري صديق ، ومحمد المهدي المجذوب ، وعبد الله الطيب ، وعون الشريف قاسم ، ومحمد مفتاح الفيتوري ، ومحمد عبد الحي ، والنور عثمان أبكر ، وصلاح أحمد إبراهيم ، وسيد حامد حريز ، وأحمد عبد الرحيم نصر ، وفرانسيس دينج وغيرهم.
يقول عبد الله علي إبراهيم إن جماعة الغابة والصحراء قد تأثروا بكتابات وأفكار الإداري البريطاني السير هارولد مكمايكل في كتابه: تاريخ العرب في السودان الصادر في عام 1922م ، والعالم والمؤرخ السوداني البروفيسور يوسف فضل حسن في كتابه: العرب والسودان الذي صدر في عام 1967م ، واللذيْن كرَّسا كلاهما مقولةً ظل يلهج بها الكثيرون ، مفادها أنَّ جُل قاطني شمال السودان المعاصرين ، وخصوصا ما يسمى بالمجموعة " الجعلية العباسية " إنما هم: " نوبة مستعربين " ، مما أغرى رواد مدرسة الغابة والصحراء جزئياً ، بالتشبُّث بفكرة الأفرو عربية ، وزودهم بعتاد علمي ومعرفي ، سوَّغ لهم القول بالهُجنة أو الهوية المزدوجة لأهل السودان.
على أننا نلاحظ في الواقع ، أنه لا مكمايكل ولا يوسف فضل ، لم يَعمَد أي منهما إلى بسط شرحٍ وافٍ لمضمون عبارة " نوبة مستعربين " هذه بالتفصيل ، هذا مع تسليمنا بأن المنطق وطبيعة الأشياء تتظاهر على جواز صحة هذه المقولة ولو جزئياً على كل حال. فما هو المقصود باستعراب أولئك النوبة المفترضين ، وهل هو استعراب سُلالي أم ثقافي ولغوي ، أم الاثنين معا ؟. أما الاستعراب اللغوي والثقافي ، فإنه أمر مؤكد لا تنتطح فيه عنزان ، إذ أن نتيجته هاهي ماثلة للعيان ، وهي وجود مجموعة بشرية ضخمة للغاية في وسط السودان ، ظلت لا تعرف لها لغة أخرى غير العربية منذ قرون ، لا كما يعرف الأنقولويون والموزمبيقيون اللغة والثقافة البرتغالية مثلاً ، على طول مُكْثهما بين ظهرانيهم ، ولكن ربما كما يعرفهما البرازيليون نوعا ما. وأما الاستعراب السلالي عن طريق التزاوج بين حَمَلة هذه اللغة التي سادت حتى كُتبت لها الغلبة أخيراً ، والسكان المحليين ، فيغدو هو الآخر ، أمراً منطقياً بل راجحاً. بمعنى أن من الجائز عقلاً ، أن يتم التزاوج بين أفراد القبائل والمجموعات العربية التي ثبتت هجرتها إلى السودان ، على الأقل ابتدءاً من القرن التاسع الميلادي فما بعده ، بحسب ما جاء عند مكمايكل نفسه ويوسف فضل ، فضلاً عمن سبقهما من المؤرخين والجغرافيين العرب القدامى مثل: اليعقوبي ، وابن حوقل ، والمسعودي ، وابن سليم الأسواني ، والمقريزي ، وابن بطوطة ، وابن خلدون وغيرهم ، وطوائف المجموعات السودانية القديمة من أهل البلاد ، من نوبة ، وبجاة ، وعنج ، ونيليين ، وغيرهم من شعوب غرب السودان ووسطه وشرقه وجنوبه الأصليين ، والذين لم يكونوا نوبة فحسب بكل تأكيد ، كما أن المنطق وطبيعة الاجتماع البشري تقتضي بأن يكون ذلك التزاوج والاختلاط قد تم في الاتجاهين. بمعنى أنه إن كان هنالك نوبة " تجوزاً بالطبع " قد استعربوا ، فلا بد انه كان هنالك عرب قد تنوَّبوا ، وآخرين " تبجّجوا ؟ أي اختلطوا بالبجة " حتى اندغموا فيهم ، وهكذا. والنتيجة هي أن ظهر هذا الخليط الهجين البائن الهُجنة فعلا ، والذي آثر – فيما يبدو – تبني موقف إيديولوجي جمعي ، ينحو إلى ترجيح كفَّة الانتماء العروبي القائم على انتساب أبوي صادق كثيراً أو قليلا ، جرياً على مثلهم: " الجمل يُقاد من رسنه " ، أي أن هوية المرء إنما هي هوية آبائه ، ولا عبرة للنساء ، فإنهن مجرد " آنية " لحفظ النسب لا لمنحهِ ، بحسب الثقافة والعقلية السائدة ، وليس في اعتقادنا نحن.
أما لماذا آثر أولئك النوبة المستعربون أو العرب المستنوبون " تجوزا أيضا " ، أن يُغلِّبوا جميعاً انتماءهم العروبي فقط ، على الرغم من الوجود المؤكد لطوائف كبيرة منهم لا تنتمي سلالياً للآصل العربي ، فيعُزى ببساطة إلى رغبتهم أجمعين في الانتماء إلى أصل مُعرق في الإسلام دينهم الجديد الذي جاءهم به العرب فارتضوه ، وأحبوا أن ينتموا لدعاته أيضا حقاً أو زورا. هذا ، والقول بالأصل المشرقي أو العروبي ليس قاصراً على سكان شمال السودان وحدهم ، وإنما هي دعوى منتشرة باستفاضة في سائر بلاد السودان الكبير ، الممتدة بين البحر الأحمر والمحيط الأطلسي ، وربما وُجدت بين جماعات إفريقية غير مسلمة أيضا.
وخلاصة القول في هذه النقطة ، أن الجزم الصارم بصحة مقولة " النوبة المستعربين " هذه هكذا على الإطلاق ، جزم تعوزه الدقة والموضوعية ، وينبغي أن يكون موضع نظر شديد ، بل يوشك أن يكون من وحي ضرب ما من الإيديولوجيا ، أو الدوغمائية الجامدة على أقل تقدير.
فحقيقة أن سكان شمال السودان الذين ظلوا يتحدثون اللغة العربية لغة أم منذ قرون ، مع احتفاظهم بألوان بشرة ، وخصائص جسمانية وملامح تختلف كثيراً أو قليلاً عن تلك المعروفة والملاحظة عند العرب بصفة عامة ، لهي من أوضح دلائل هذه الهجنة التي تميز هؤلاء الناس.
وكنماذج حية على هجنة السودانيين ، وجدلية استعرابهم وسودنتهم ، أو إن شئت زنوجتهم أو أفرقتهم المستمرة والمتفاعلة ، وهي نماذج مشهودة ومعروفة ، ويمكن التحقق من جل مراحلها وأدواتها وأحداثها وشخوصها تاريخياً ، بما لا يفوت من باب أولى على البروف عبد الله علي إبراهيم. وتلك النماذج تتمثل في مقدم رجال بأعيانهم قبل نحو قرنين من الزمان تقريباً ، معروفين بأسمائهم وصفاتهم ، من بلاد الحجاز أو مصر ، أو المغرب العربي ، وهو يحملون سائر الخصائص الفيزيقية الخاصة بأهل تلك البلدان ، ومكثوا في أرض السودان وأقاموا بها ، وتزوجوا نساءً من أهلها ، وخلفوا أولاداً وأحفاداً ، كان لبعضهم فيما بعد ، إسهام مقدر في الحياة الروحية والثقافية والاجتماعية والسياسية في السودان.
وقد انخرطت تلك الأسر المختلطة فيما بعد ، في سلسلة من عمليات التصاهر والتزاوج مع عناصر سودانية محلية ، حتى نتج عن ذلك نتاج هجين فعلاً ، لا يختلف في مظهره على الأقل ، عن سائر النسيج الاجتماعي الذي نشأوا فيه في السودان.
إنَّ تلك النماذج هي لعمري ، نماذج قابلة نظرياً وعقلياً للاستنساخ الاسترجاعي لآلاف المرات على الأقل ، عبر القرون السابقة لها ، فضلاً عن أنه يمكن أن يُستنبط منها ، ويُقاس عليها ما غاب عنا من ديناميات عملية " استعراب " مؤكد ولدرجة ما تقل أو تكثر ، لأجزاء واسعة من شمال السودان في الزمان السابق. أن بعضاً من أولئك القادمين ، هم بالفعل ممن يمكن أن يُطلق على الواحد منهم وصف " الغريب الحكيم " ، الذي شاع في أدبيات كتابة تاريخ افريقيا بصفة عامة، سوى أن هؤلاء وإن كانوا غرباء وحكيمين ، إلا أنهم لم يكونوا أساطير ، بل شخصيات حقيقية ، ما تزال آثارها ماثلة بين الناس.
فهذا مثالٌ صارخٌ على الهُجنة والاستعراب مؤكَّدٌ وموثق ، نقدمه إلى كل من يشك في حقيقة وقوع تلك الهجنة ، وبصفة خاصة إلى رواد مدرسة جديدة برزت مؤخراً ، في مقاربة إشكالية هوية سكان شمال السودان ، تميل حتى إلى إنكار حدوث هجرات قبائل عربية بأعداد كبيرة إلى السودان في أي وقت مطلقا ، على النحو الذي يقول به مكمايكل ، ويوسف فضل ، ومحمد عوض محمد ، ومصطفى مسعد وغيرهم. تلك هي المدرسة التي يجئ على رأسها الأمركي جى اسبولدينق ، وبعض من يرى رأيه من السودانيين ، الذين يعتقدون في نوعٍ ما من الاستمرار التاريخي المطلق للكيان السوداني ومؤسساته ، وخصوصاً على المستوى السُلالي والعرقي ، مع تسليمهم بانتقالات ذلك الكيان وتحولاته على مستوى الهوية الدينية ، من الديانات القديمة ، إلى المسيحية ، ثم الإسلام.
ومن أعاجيب هذه المدرسة الجديدة ، زعمُ أستاذٍ لنا نُجلِّهُ ونُقدِّرُه ، يرى رأي هذه المجموعة ، أن معلمين ( فُقرا ) مسلمين قليلي العدد كما قال ( ولم يشأ أن يقول عربا ) ، هم الذين جاءوا إلى أرض السودان ، وعلَّموا أهله اللغة العربية التي يتكلمونها الآن ، على الرغم من الثراء الملحوظ لعربية أهل السودان، وتفرُّدها ، وأصالتها ، وتنوعها ، واختلاف لهجاتها الخ ، بينما زعم اسبولدينق في كتابه بعنوان: " عصر البطولة في سنار " الذي عرَّبه صديقنا و زميلنا الدكتور أحمد المعتصم الشيخ ، أن الفونج كانوا وثنيين سوداً ، غير ناطقين بالعربية ، فاضطُّر عمارة دونقس إلى التحول إلى الإسلام ، واعتماد اللغة العربية لغةً لبلاط سلطنته ، لكي يتسنَّى له إقامة علاقات دبلوماسية ، وخصوصاً تجارية مع مصر !!.
وما الذي يمنع العرب أو أي أناس آخرين مجاورين لأرض السودان من الانتقال إليه والعيش فيه ، وخصوصا أنَّ ظروفه البيئية والطبيعية والمناخية تشبه بلادهم كثيرا ، بل تفوقها في وفرة المراعي والمياه ، ولا يفصلها عن جزيرتهم ، إلا عرض البحر الأحمر ، فضلاً عن أن الانتقال اليه عبر شبه جزيرة سيناء قد كان متاحا وميسوراً أيضا ؟. ونحن نعلم – على سبيل المثال – أن أناساً جاءوا من اندونيسيا والملايو ، وغيرهما من بلاد جنوب شرقي آسيا ، وقطعوا آلاف الأميال بحراً منذ آلاف السنين ، لكي يعمروا جزيرة مدغشقر في جنوب شرق القارة الإفريقية على سبيل المثال.
أما عن الهُجنة الثقافية واللغوية لأهل شمال السودان ، فحدِّثْ ولا حرج. فقد كشف العلامة عون الشريف قاسم وغيره من العلماء والباحثين المهتين بالدراسات اللغوية ، عن القدر الهائل من الألفاظ وحتى التراكيب التي استعارتها عربية أهل السودان من اللغات السودانية القديمة التي احتكت بها ، وإن ظلت لهجة عربية صميمة في بنائها ونحوها وصرفها وأصواتها ، ومعظم عناصرها المعجمية.
بل لعلَّ الهُجنة اللغوية في العامية السودانية ، تتجلى أحياناً على مستوى المفردة الواحدة في كلام أهل السودان. ذلك بأنهم عندما يقولون – على سبيل المثال – " قُرْبَاب " هذا الكساء الذي كانت تأتزر به نساء السودان في الأرياف والبوادي ، فإنهم ينطقون لفظاً هجيناً بالفعل. ذلك بأن " قرب " كلمة عربية فصيحة معناها " خصر " وجمعها " أقراب " ، بينما " آب " هو مقطع من اللغة التبداوية أي لغة البجة ، يفيد النسبة. فكأن " القرباب " هو الكساء أو الثوب الذي يلف حول " القرب " الذي هو الخصر ، فتأمَّل !!. وشبيه بذلك قولهم في النسبة إلى الكلمتين العربيتين " هلال " و " مريخ ": ( هلالاب ومريخاب ) ، يعنون المنسوبين إلى الهلال والمريخ على التوالي ، وهما أشهر فريقي كرة قدم في السودان. وإلآَّ أن لم يتهجنوا لقالوا: " هلاليون ومريخيون " ، جرياً على صيغة النسب العربية الفصيحة.
وعندي أن أسطع مثال على الهُجنة الثقافية لأهل شمال السودان ( بالمعنى الواسع ) ، هو فنهم الغنائي والموسيقي ، الذي رغم أن لغته ، هي لغة عربية عامية وكذلك فصيحة ، يعز نظيرها من حيث الرفعة والمستوى ، عند مقارنتها مع نظيراتها ، إلا أن الأنغام والألحان ، والطابع الأدائي العام ، يظل مختلفاً بصورة واضحة عن مجمل الموسيقى العربية ، لأن هذه الأخيرة تقوم على المقام والسلم السباعي ، بينما تعتمد الموسيقى السودانية على السلم الخماسي ، المنتشر في سائر بلدان افريقيا جنوب الصحراء. فكأن السودانيين قد قبلوا لغة العرب وردُّوا موسيقاهم ، فهم على عكس الزنزباريين بشرق إفريقيا ، الذين قبلوا الموسيقى العربية وتمثلوها ، وردوا اللغة العربية ، إلا من ألفاظ منها أدخلوها إلى لغتهم السواحيلية ، التي ظلت رغم ذلك ، لغةً إفريقيةً بنتويةً صميمة.
وكأنَّ هذا هو المعنى ذاته ،الذي هدف إليه الشاعر محمد عبد الحي عندما قال:
أنا مثلكمْ .. شاعرٌ عاد يُغنِّي بلسان ، ويُصلِّي بلسان !!
وصفوة القول في الختام ، أن الهُجنة ، والإٌقراف ، وخطف اللونين ، بل خطف الألوان المتعددة عبر القرون ، لدى الجم الغفير من أهل شمال السودان ، في إطار الهوية الإفريقية العربية ، أو العربية الإفريقية ، هي أمر ثابت بكل الأدلة والبراهين ، ولا يحتاج لدرس عصر كما يُقال في التعبير الشعبي الدارج ، حتى أن الاعتقاد في صدقها ، تغدو من المسلمات والبديهيات التي كان أستاذ الأجيال: جمال محمد أحمد ، يستسخف مجرد التساؤل حولها ، ويستهجنه.
بيد أن هذا لا يمنع بالطبع ، بعض المجموعات أو الأفراد ، من الحق في الاعتقاد بأنهم هم وحدهم زنوج أفارقة خلّص ، أو عرب عاربة أقحاح إن شاءوا ، من دون جنوح لأي استعلاء أو إقصاء أو وصاية من أي نوع ، أو فرضٍ أو إسقاط لهويتهم الخاصة تلك كما يعتقدون فيها ، على مجمل سكان البلاد. ولحسن الحظ أن كلا الفريقين داخلٌ في بحبوحة هذه الهوية العربية الإفريقية ، أو الأفريقية العربية السودانوية الجامعة. ولله در الشاعر إسماعيل حسن ود حدَّ الزين إذ يقول:
عرب بدم الزنوج الحارة ديل أهلي … !!
والتحية كذلك للمطرب الشعبي الراحل: عثمان اليمني إذ يغني:
أنا الافريقي ، أنا العربي !!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.