السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحزب الشيوعي السوداني واتفاقية مياه النيل لعام 1959 .. تعقيب على د. عبد الله علي إبراهيم
نشر في حريات يوم 24 - 09 - 2017


1
نشر الدكتور عبد الله علي إبراهيم يوم 18 سبتمبر عام 2017 مقالاً في عددٍ من المواقع الالكترونية بعنوان "نتقطع نحن الشيوعيين با دكتور سلمان نتقطع." وقد انتقد الكاتب ما ضمنّاه في مقالاتٍ سابقة ذكرنا فيها أن الحزب الشيوعي السوداني قد أيّد اتفاقية مياه النيل لعام 1959 بالصمت الذي تمثّل في الفشل في إصدار بيانٍ يوضّح فيه الحزب موقفه من الاتفاقية.
ادّعى الكاتب في مقاله أننا لم نطّلع على الكتاب الأسود الموجود في مستودعات الحزب في أمستردام والذي انتقد فيه الحزب اتفاقية مياه النيل لعام 1959. وقد أورد الكاتب ما ادّعى أنه فقرات من فصلٍ من الكتاب تهاجم نظامَ جمال عبد الناصر، وتتعرّض بعمومية للاتفاقية. وأضاف الكاتب للفقرات تلك تفسيراته الخاصة فتداخلت كلمات الكتاب مع إضافاته، ولم يعد في مقدرة القارئ معرفة ما ورد في الكتاب وما أضافه الكاتب.
كما أن الكاتب لم يُلحِق بمقاله صفحات ذلك الفصل مصورةً كما هي، ومعها عنوان الكتاب وتاربخ ومكان صدوره، ليتسنّى للقارئ التأكّد مما ادعاه الكاتب، ويعرف القارئ المضمون العام والسياق لذلك الكتاب، كما تتطلب مصداقية مثل هذه الردود.
2
لكن المدهش حقّاً أن د. عبد الله علي إبراهيم نسي بسرعةٍ فائقة ما ذكره هو بنفسه في مقالٍ سابقٍ له بعنوان "سلمان محمد سلمان وقلنا حنبني السد العالي" نشره في عددٍ من المواقع الالكترونية بتاريخ 17 سبتمبر عام 2013.
وقد ذكر د. عبد الله في ذلك المقال بالحرف الواحد: "وبدا لي مما أعرف كفاحاً أن الحزب الشيوعي لم يكن ضد الاتفاقية. فلم يكن السد العالي في نظرهم مصرياً. كان في سياقه المعروف اختراقاً تحررياً معادياً للامبريالية تهون لأجله كل تضحية." (انتهى اقتباسنا من مقال د. عبد الله).
من أجل مقال الدكتور عبد الله علي إبراهيم هذا، انظر الربط:
http://www.salmanmasalman.org/wp-content/uploads/2013/10/%D8%AA%D8%B9%D9%82%D9%8A%D8%A8-%D8%AF.-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%B9%D9%84%D9%8A-%D8%A5%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D9%85.pdf
3
سوف نتناول في هذ المقال الكارثة التي حلّت بالسودان وشعبه وبأهالي وادي حلفا نتيجة اتفاقية مياه النيل لعام 1959، ونوضّح الصمت المطبق الذي التزمه الحزب الشيوعي السوداني تجاهها. كما سنوضح، كما ذكر د. عبد الله نفسه في مقاله الأول، أنه لم يكن أمام الحزب سوى تأييد الاتفاقية، وذلك في رأينا بسبب دخول الاتحاد السوفيتي حلبة نهر النيل وتمويله وبنائه للسد العالي بديلاً للبنك الدولي والدول الغربية. وهذا ما جعل السد العالي، في نظر د. عبد الله والحزب الشيوعي السوداني، اختراقاً تحررياً معادياً للامبريالية يجب تأييده باسم التوجّهات الأممية. فمواقف موسكو وقتها هي مواقفٌ لا تقبل الجدل ويجب قبولها وإلباسها ثوب التحررية ومحاربة الامبريالية والاستعمار الحديث، مهما كان ثمنها الوطني غالياً، كما هو الحال في اتفاقية مياه النيل.
4
تمّ التوقيع على اتفاقية مياه النيل بين مصر والسودان في منتصف نهار يوم الأحد الثامن من نوفمبر عام 1959 في قاعة الاحتفالات بوزارة الخارجية المصرية بالقاهرة. قام السيد زكريا محي الدين رئيس الوفد المصري والسيد اللواء محمد طلعت فريد رئيس الوفد السوداني بالتوقيع على ثلاث اتفاقياتٍ هي: اتفاقية مياه النيل؛ الاتفاق المالي والتجاري؛ واتفاقية المسائل الجمركية. وقد شهد حفلَ التوقيع عددٌ كبيرٌ من ممثلي السلك الدبلوماسي وكبار رجالات الدولة في مصر. وتمّت تغطيةٌ إعلامية محلية وإقليمية ودولية ضخمة لذلك الحدث التاريخي.
في عصر الثلاثاء العاشر من نوفمبر عام 1959 غادر الوفد السوداني القاهرة مُتجهاً إلى الخرطوم. وقد كان في وداع الوفد السوداني في مطار القاهرة كبار رجالات الدولة في مصر يتقدمهم السيد زكريا محي الدين.
5
كان في استقبال الوفد العائد في مطار الخرطوم السادة أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومجلس الوزراء وكبار رجالات الدولة وأعداد غفيرة من الشعب السوداني. وكانت مجالس بلديات العاصمة المثلثة قد أصدرت بياناً للمواطنين تحثّهم فيه بالإسراع لاستقبال الوفد العائد، ووفّرت لهم المواصلات المجانية للمطار بعد أن أعلنت الحكومة ذلك اليوم عطلةً رسمية للاحتفال بذلك الإنجاز التاريخي الهام. وأصدر السيد رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة بياناً أعلن فيه عن سروره البالغ للنتائج التي توصّل إليها الجانبان، وأكّد أن تلك الاتفاقية العادلة قد أزالت كل جفوةٍ مفتعلة بين البلدين الشقيقين، وستقود الشعبين من نصرٍ إلى نصر.
وقد احتلّت الاتفاقية حيّزاً كبيراً في خطاب الفريق ابراهيم عبود في 17 نوفمبر 1959، بعد أسبوعٍ من عودة الوفد إلى الخرطوم، بمناسبة الذكرى الأولى لاستيلاء القوات المسلحة على السلطة. وأبرز الخطابُ اتفاقيةَ مياه النيل كإنجازٍ كبيرٍ وتاريخيٍ لحكومة "الثورة" الجديدة، وكمعلمٍ أساسيٍ لمسيرة التنمية في السودان. وقد تواصلت الاحتفالات بذلك الإنجاز الكبير طوال شهر نوفمبر.
6
كانت اتفاقية مياه النيل كارثيةً على السودان بمعنى الكلمة.
فقد وافق السودان على قيام السد العالي الذي سوف يتنج عنه إغراق مدينة وادي حلفا وسبعٍ وعشرين من القرى شمال وجنوب المدينة، والترحيل القسري لأكثر من خمسين ألف نوبيٍ سوداني. كما أن بحيرة السد العالي، والتي سوف تمتد إلى مسافة أكثر من مائةٍ وخمسين كيلومتر داخل الأراضي السودانية، سوف تُغرق أيضاً قرابة المائتين ألف فدان من الأراضي الزراعية الخصبة، وحوالي نفس المساحة من أراضي كان يمكن استصلاحها. كما ستغرق البحيرة قرابة مليون شجرة نخيل وحوامض، وكذلك الشلال الثاني الذي كان سيولّد أكثر من ستمائة ميقاواط من الكهرباء. وسوف تندثر إلى الأبد آثارٌ تاريخية لا يمكن أن تقدّر قيمتها بثمن، وتغرق معها تحت البحيرة معادن بكمياتٍ ضخمة لم يتم حتى معرفة كميتها.
ووافق السودان على قبول 18,5 مليار متر مكعب من المياه مقابل 55,5 مليار لمصر، بدلاً من ال 23 مليار التي ظلّ يطالب بها منذ عام 1954. كما وافق السودان على خصم التبخّر من مياه بحيرة السد العالي والبالغ عشر مليارات سنوياً مناصفةً مع مصر، ودون منافشة التبخّر من الخزانات السودانية، وفقد السودان بذلك خمس مليارات متر مكعب من مياه النيل. ثم أضاف السودان على كرمه ذاك موافقته على إعطاء سلفة مائية لمصر تبلغ مليار ونصف المليار متر مكعب سنوياً حتى عام 1977 ليصبح نصيب السودان من مياه النيل 17 مليار متر مكعب فقط، مقابل 57 مليار متر مكعب لمصر.
ثم تنازل السودان عن مطالبته بمبلغ 35 مليون جنيه لتغطية تكلفة ترحيل أهالي وادي حلفا وقبل ميلغ 15 مليون جنيه. وكانت مصر قد عرضت 10 مليون جنيه فقط بعد أن خفّض السودان مطلبه إلى 20 مليون جنيه. ثم تمّ عرض الخلاف على الرئيس عبد الناصر الذي قضى بأن يكون مبلغ التعويض في منتصف الطريق بين العرضين، أي 15 مليون جنيه، كما يفعل كل المحكمين.
ثم وافق السودان أن يتم خصم نصيب أية دولة من دول النيل مستقبلاً مناصفةً بين السودان ومصر، وليس بنسبة أنصبتهما البالغة 18,5 مليار و55,5 مليار كما تقضي بذلك المعايير الدولية في مثل هذه الحالات.
لكن كل هذه الكوارث يجب أن تهون في نظر د. عبد الله والحزب الشيوعي السوداني لأن السد العالي هو اختراقٌ تحرريٌ معادٍ للامبريالية تهون لأجله كل تضحية. لهذا السبب فإن الحزب، كما ذكر د. عبد الله نفسه، لم يكن ضد اتفاقية مياه النيل.
7
على الرغم من أن الأحزاب السياسية كانت قانونياً محلولةً في عهد الفريق عبود فإن القيادات الدينية والسياسية للأحزاب الثلاثة الكبرى (الأمة والوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي) لم تتأخر البتّة في تأييد الاتفاقية، وفي ضمِّ صوتها إلى صوت الحكومة في هذه المسألة. بالطبع فقد ابتهجت الحكومة بذلك التأييد وأبرزته الصحف السودانية في صفحاتها الأولى.
كان الوفد السوداني بالقاهرة على اتصالٍ بالسيد علي الميرغني والذي كان متواجداً بمصر وقتها. وقد زاره السيد محمد طلعت فريد رئيس الوفد وأطلعه على سير المفاوضات. حال توقيع اتفاقية مياه النيل أرسل السيد علي الميرغني يوم 8 نوفمبر عام 1959 برقية تهنئة بنجاح المفاوضات إلى السيد رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة متمنياً أن يكون الاتفاق فاتحة عهدٍ جديد لخير البلدين. وفي يوم 9 نوفمبر عام 1959، أي بعد يومٍ من توقيع الاتفاقية، وقبل وصول الوفد المفاوض للخرطوم، أصدر السيد علي الميرغني بياناً بارك فيه الاتفاقية ووصفها بأنها "جميلة الأثر وكثيرة النفع" وأنها جاءت "نتيجة للروح الطيبة التي سادت مفاوضات الوفدين والتوجيه الحكيم الذي بذله رئيسا القطرين" وتمنى أن تكون الاتفاقية "بداية عهد لتنمية الروابط الأخوية القوية ولتدعيم أسباب الود بين الشعبين."
وفي 10 نوفمبر 1959 تلقّى السيد رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة برقيةً من السيد عبد الله خليل رئيس الوزراء السابق والذي كان وقتها يتلقّى العلاج في لندن جاء فيها "أهنئكم قلبياً بنجاح المفاوضات الذي كان الفضل فيه لحسن نيتكم وحكمتكم مما سيعود على البلدين بالخير والرفاهية وأتمنى لكم التوفيق في كل ما فيه مصلحة السودان ورفعته."
وفي يوم 16 نوفمبر 1959 أصدر السيد الإمام الصديق المهدي بياناً يُرحّب فيه بالاتفاقيات التي عُقِدت بين البلدين الشقيقين، جاء فيه أيضاً "وأننا سبق أن أكدنا رغبتنا الدائمة وحرصنا الأكيد على إقامة أطيب وأقوى العلاقات بين البلدين وعلى توثيق عرى التضامن والتعاون بينهما مما حدا بنا لمباركة مبدأ الاتفاق منذ أن بدأ السعي إليه." وتمنّى البيان التوفيق للمسئولين في البلدين "دائماً لكل ما يحفظ أواصر الأخوة والود، وأن يمكنهم من كل ما يكفل دوام التضامن والتعاون السرمدي." وصدرت تصريحاتٌ من كلٍ من السيد إسماعيل الأزهري والسيد عبد الله الفاضل المهدي يؤيد ويبارك كلٌ منهما الاتفاقية.
في يوم 10 نوفمبر عام 1959 قام وفدٌ من اتحاد مزارعي الجزيرة مكوّنٌ من السيد أحمد بابكر الإزيرق رئيس الاتحاد وعضوية السادة أحمد علي الحاج سكرتير الاتحاد ومحمد عبد الله الوالي نائب سكرتير الاتحاد بزيارة السيد رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلّحة للتهنئة بالاتفاقية، ونقل الوفد شكر المزارعين للحكومة على اهتمامها الكبير بالمشروع.
8
رغم كل تلك الاحتفالات الرسمية والشعبية باتفاقية مياه النيل، والبيانات التي صدرت من قادة كل الأحزاب تؤيّد الاتفاقية، ورغم الاهتمام الإقليمي والعالمي بالاتفاقية، فقد لزم الحزب الشيوعي السوداني الصمت الكامل. لم يصدر منه بيان حول الاتفاقية، ولم تتضمّن صحيفة الميدان التي واصلت الصدور من وقتٍ لآخر، أي خبرٍ عن الاتفاقية.
وكما ذكر د. عبد الله نفسه فلم يكن ممكناً للحزب أن يعترض على الاتفاقية بسبب أن الاتحاد السوفيتي كان قد حلً مكان البنك الدولي والدول الغربية في تمويل وبناء السد العالي. وتحوّل السد العالي بذلك إلى "اختراقٍ تحرري معادٍ للامبريالية " تهون من أجله كل تضحيات السودان وأهالي وادي حلفا.
وقد كان السد العالي قبل دخول الاتحاد السوفيتي أداةً إمبرياليةً ومخلب قطٍ لمشروع إيزنهاور والاستعمار الحديث والمطامع الغربية في المنطقة. ولكن تحوّل الأسمنت والحديد والصخور التي كان سيتم بناء السد العالي بها من أدوات قمعٍ إلى يدٍ للتحرر الوطني ومحاربة الاستعمار الحديث بسبب دخول الاتحاد السوفيتي "العظيم" حلبة مياه النيل.
9
ألم يتحوّل "ربيع براغ" عام 1968 وثورة شعب تشيكوسلوفاكيا السلمية المطالبة بالحرية والديمقراطية والكرامة، والتي حيّاها وأيدها كل العالم، إلى ثورةٍ مضادة في نظر الحزب الشيوعي السوداني، غذّتها وأشعلتها الإمبريالية العالمية؟
ألم يؤيد الحزب الشيوعي السوداني الغزو السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا لإخماد تلك الثورة المجيدة بدعوى أنها ثورةٌ مضادة؟
ألم يحدث نفس الشيء من الحزب الشيوعي السوداني تجاه ثورة المجر السلمية على الهيمنة السوفيتية عام 1956 ووقف الحزب مع دبابات الجيش الأحمر وهي تدهس بفظاعة اقشعرّ لها ضمير العالم المتظاهرين السلميين؟
ألم يقف الحزب نفس الموقف تجاه حركة التضامن السلمية التي قادها العمال والطلاب في بولندا والتي حاولت الدبابات السوفيتية دهسها عام 1981؟
ألم يقف الحزب الشيوعي السوداني مع غزو السوفيت لأفغانستان عام 1978؟
كيف يمكن إذن للحزب الشيوعي السوداني، مع كل هذه المواقف المؤيدة لموسكو، أن يقف ضد السد العالي، أو أن يعارض أو ينتقد دخول موسكو حلبة وادي النيل، والذي كان حلم قيادات الاتحاد السوفيتي منذ عام 1917، وأن يعارض بذلك اتفاقية مياه النيل لعام 1959؟
لقد أعلن الرفيق نيكيتا خروتشوف بنفسه قرار تمويل وبناء السد العالي، وأرسل عشرات الآلاف من الرفاق من مهندسين وفنيين وعمال إلى مصر، ثم سافر إلى القاهرة ليقف جنباً إلى جنب الرئيس عبد الناصر أمام بوابات السد العالي. فهل كان بمقدور الحزب الشيوعي السوداني انتقاد الرفيق خروتشوف وسياسته ومواقفه تلك؟
10
عندما قرّر أهالي وادي حلفا رفضهم الترحيل إلى منطقة خشم القربة التي فرضتها عليهم حكومة عبود (بديلاً للمناطق التي اختاروها) انفجرت المظاهرات في حلفا والخرطوم وعددٍ آخر من مدن السودان ضد الترحيل. وقد شمل كتاب "ثورة شعب" الذي أصدره الحزب الشيوعي بعد ثورة أكتوبر فصلاً كاملاً بعنوان "النوبيون يقاومون الديكتاتورية." سرد ذلك الفصل من الكتاب التفاصيل الكاملة للمظاهرات والاحتجاجات ضد تهجير النوبيين. غير أن الكتاب وذلك الفصل منه فشلا فشلاً تاماً في التعرّض ومناقشة ونقد اتفاقية مياه النيل التي أدّت إلى كارثة النوبيين.
11
إذا كان الكتاب الذي تحدث عنه د. عبد الله قد تناول حقيقةً رفضَ ونقدَ الحزب الشيوعي السوداني لاتفاقية مياه النيل، فلماذا لم يصدر بيانٌ مماثل أثناء الاحتفالات بالاتفاقية ومتابعة العالم لها، ومباركة الأحزاب السودانية لها في شهر نوفمبر عام 1959؟
لماذا لم يشمل أيٌ من أعداد صحيفة الميدان في تلك الفترة، أو حتى بعدها، عرضاً أو نقداً للاتفاقية؟
لماذا لم يتضمّن كتاب ثورة شعب فقرةً واحدة عن رفض الحزب الشيوعي السوداني للاتفاقية؟
ولماذا لم يصدر الحزبُ دراسةً يشرح وينتقد فيها الاتفاقية، وهو الحزب الذي آل على نفسه نشر الوعي في القضايا الوطنية؟
ولماذا لم يعرف د. عبد الله عن هذا الكتاب كل هذه السنوات، واكتشفه فجأةً الآن (بعد قرابة الستين عاماً) بعد أن أخبر العالم قبل أربعة أعوام أن الحزب الشيوعي السوداني لم يكن "كفاحاً" ضد الاتفاقية، وأن السد العالي اختراقٌ تحرريٌ معادٍ للامبريالية تهون من أجله كل التضحيات.
12
إن اكتشاف د. عبد الله (والذي أتى متأخراً قرابة الستين عاماً) بلا قيمة أكاديمية أو سياسية أو تاريخية، لأن موقف الحزب من اتفاقية مياه النيل كان يتطلب بياناً منفرداً ومفصّلاً وممهوراً بإمضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، وفي الأسابيع الأولى للاتفاقية، عندما كانت أنظار العالم والشعب السوداني وأحزابه وتنظيماته كلها متجهةً نحو الاتفاقية. بل كان يتطلّب دراسةً كاملة عن الاتفاقية في كتابٍ منفصل، وليس فقراتٍ مبهمة في فصلٍ يهاجم عبد الناصر، في كتابٍ لم يعرف عنه أحدٌ، بما في ذلك أعضاء الحزب الشيوعي أنفسهم، شيئاً خلال الستين عاماً الماضية.
لقد كان للحزب الشيوعي السوداني خياران تجاه اتفاقية مياه النيل:
الأول: أن يعلن صراحةً وبوضوحٍ وبشجاعةٍ أن السد العالي الذي أرست قواعده اتفاقية مياه النيل هو اختراقٌ تحرري معادٍ للامبريالية تهون من أجله كل التضحيات، كما أخبرنا د. عبد الله علي إبراهيم بنفسه قبل أربع سنوات.
والثاني: أن يصدر الحزب بياناً يرفض فيه الاتفاقية، إن كان ممكناً للحزب وقتها الخروج من توجيهات وهيمنة موسكو.
الصمتُ في قضيةٍ وطنيةٍ بهذه الأهمية والخطورة لم يكن خياراً لحزبٍ أعلن أنه في حربٍ شعواء ضد حكومة عبود. ولا يمكن تفسير ذلك الصمت غير أنه قبولٌ ومباركةٌ من الحزب الشيوعي السوداني لاتفاقية مياه النيل الكارثية، لأسباب فرضتها عليه علاقته بالاتحاد السوفيتي وهيمنة موسكو ومتطلّبات وضرورات التوجّه الأممي.
[email protected]
www.salmanmasalman.org


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.