السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    الديوان الملكي السعودي: خادم الحرمين الشريفين يغادر المستشفى بعد استكمال الفحوصات الروتينية    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواندا: لماذا تنجح بعضُ الأنظمةِ الشمولية اقتصادياً واجتماعياً وتفشل الغالبية؟
نشر في حريات يوم 26 - 12 - 2017


1
زار السودان يومي 20 و21 ديسمبر عام 2017 السيد بول كاغامي رئيس جمهورية دولة رواندا. بدأت الزيارة وانتهت في هدوءٍ تام يبدو أن سببه عدم وجود قضايا خلافية بين البلدين.
وتختلف دولة رواندا عن غيرها من الدول الأفريقية، أو حتى دول العالم الثالث، في مسألة أساسية وهي خروجها من نفق الحروب الأهلية والإبادة الجماعية على نحوٍ متكامل، والشروع في وقتٍ قصير في برنامج تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة، تحت ظل نظامٍ شمولي لا يختلف كثيراً عن الأنظمة الأفريقية والعربية الأخرى الحاكمة حالياً.
سوف نتطرّق في هذا المقال بإيجاز إلى تاريخ رواندا الحديث ومأساة الإبادة الجماعية، ونناقش كيف استطاعت الجبهة الوطنية الرواندية بقيادة الرئيس بول كاغامي الخروج بدولة رواندا من نفق الحروب والموت والدمار والتخلّف إلى رحاب التنمية والتطوّر. وسوف نثير ونحاول الإجابة على السؤال: لماذا تنجح بعضُ الأنظمةِ الشمولية اقتصادياً واجتماعياً وتفشل الغالبية الأخرى؟
2
رواندا دولةٌ صغيرة تقع في منطقة البحيرات العظمى في أواسط أفريقيا جنوب خط الاستواء. وتجاور رواندا، التي لا منفذ لها للبحر، أربع دولٍ هي بوروندي ويوغندا وتنزانيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية. لا تزيد مساحة دولة رواندا البالغة حوالي 26,000 كيلومتر مربع كثيراً عن ولاية الخرطوم، بينما يبلغ عدد سكانها حوالي 11 مليون نسمة. ينتمي معظم سكان رواندا إلى مجموعتي الهوتو والتوتسي، وتحتل مجموعة قبليّة صغيرة تُسمّى ال "تُوا" المرتبة الثالثة من حيث عدد السكان. ويعتقد الكثير من خبراء علم الاجتماع أن مجموعتي الهوتو والتوتسي تنتميان إلى نفس الأصول القبليّة.
نالت رواندا استقلالها من دولة بلجيكا في الفاتح من يوليو عام 1962 بعد سنواتٍ من الصراعات الداخلية بين مجموعتي الهوتو والتوتسي. وقد تواصلت تلك الصراعات بعد الاستقلال وأدّت عام 1994 إلى الإبادة الجماعية التي قامت بها مجموعة الهوتو ضد التوتسي، وقُتِل فيها قرابة المليون شخص معظمهم من التوتسي، بينما فرّ أكثر من مليوني شخص إلى دول الجوار.
كيغالي هي عاصمة دولة رواندا، ويقطن المدينة قرابة المليون نسمة. وقد ظلّ اقتصاد رواندا يعتمد اعتماداً تاماً حتى وقتٍ قريب على زراعة وتصدير الشاي والبن.
ودولة رواندا هي إحدى دول نهر النيل. فنهر كاغيرا الذي يمثّل المصدر الأساسي الذي يُغذّي بحيرة فكتوريا (بعد الأمطار) تنبع روافده من تلال دولتي رواندا وبوروندي حيث يبدأ النيل في الانسياب. وتستضيف مدينة كيغالي مكتب حوض النيل الجنوبي. وتعقد مبادرة حوض النيل معظم مؤتمراتها في كيغالي تحت ضيافة مكتب حوض النيل الجنوبي. ودولة رواندا هي إحدى الدول الثلاثة التي وقّعتْ وصادقتْ (مع إثيوبيا وتنزانيا) على اتفاقية الأطار التعاوني لحوض النيل (اتفاقية عنتبي).
3
زُرتُ دولةَ رواندا لأول مرة في عام 1993 في مهمةٍ رسمية. كانت مدينة كيغالي لا تختلف كثيراً عن مدينة الخرطوم اليوم. فأكياس البلاستيك والورق منتشرةٌ في كل الشوارع، والنفايات قابعةٌ في كل مكان، تفوح منها روائح لا يريد أحدٌ أن يتنفسها. والشوارع مكتظةٌ بالناس يتجادلون بصوت عالٍ قي كل شيء وفي الا شيء. كانت المواصلات العامة مكاناً للاشتباك بالأيدي للوصول إلى مكانٍ داخل البص او الحافلة. كان كل مكانٍ تجاري أو بائع يحدد سعره بنفسه دون رقابة أو قانون. باختصارٍ شديد كانت الفوضى تسود كل مكانٍ وكل شيء، وأصبح واضحاً للعيان غياب السلطة والمؤسسات والقانون واللوائح. إضافةً إلى هذا كان الجو مشحوناً بخلافات الهوتو والتوتسي، وبات واضحاً للمراقبين أن الأمور كلها تشير إلى أن كارثةً بحجمٍ كبير في طريقها إلى رواندا.
4
بدأت نذرُ الكارثة في البروز في عام 1990 عندما قامت مجموعةٌ مسلحة من التوتسي كانت تتمركز في دولة يوغندا، وتسمّي نفسها "الجبهة الوطنية الرواندية" بغزو شمال رواندا متحدّيةً الحكومة التي كان تسيطر عليها مجموعة الهوتو. لم يستطع أيٌّ من الطرفين إحراز نصرٍ على الآخر، لكن سلطة الحكومة في كيغالي بدأت في التآكل واضطرت إلى توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار مع الجبهة الوطنية الرواندية في مدينة أروشا التنزانية في ديسمبر عام 1993.
غير أن إسقاط طائرة الرئيس الرواندي "هابيارميانا" ومقتله في ذلك الحاث في السادس من أبريل عام 1994 أنهى اتفاقية أروشا لوقف إطلاق النار. بعد ساعاتٍ من مقتل الرئيس وقعت الكارثة واندلعت الإبادة الجماعية لمجموعة التوتسي. وقد استمرت عمليات الإبادة التي نظمتها الحكومة وقادتها مجموعة الهوتو لمائة يوم وقُتِل خلالها حوالي المليون من مجموعة التوتسي وبعض المعتدلين من مجموعة الهوتو. وفرّ أكثر من مليوني شخص من رواندا إلى دول الجوار، معظمهم من الهوتو خوف الانتقام من التوتسي.
5
كانت ردّة الفعل الدولية لعمليات الإبادة في رواندا محدودة وسلبية. فقد أعلن رئيس بعثة قوات الأمم المتحدة في رواندا أن قواته قليلة العدد والعتاد، وأن مهمتها هي حفظ السلام وليس فرض السلام. وصدرت تصريحاتٌ من بعض القادة الغربيين تقول أن رواندا قد رفعت شعار حق تقرير المصير وقررت، مثلها مثل الصومال، أنها لا تريد أن تكون دولةً عصريةً مسئولة، فلماذا يتدخّل الآخرون لمساعدتها؟
وقد أغلقت المنظمات الدولية ومعظم الدول سفارتها في رواندا بسبب الفوضى التي عمت البلاد إبان حرب الإبادة. وتوقفت الحياة الطبيعية من مدارس ومكاتب حكومية ومستشفيات وشركات عن العمل.
غير أن اتضاح حجم الكارثة الحقيقي أيقظ الضمير الإنساني العالمي الذي أعترف بعد فوات الأوان أنه لم يقم بما كان يجب أن يقوم به، وأن العالم يجب ألا يسمح بتكرار تلك المأساة مرةً ثانية.
6
بعد ثلاثة أشهرٍ من انطلاق حملة الإبادة الجماعية بدأت الجبهة الوطنية الرواندية في تنظيم صفوفها، واستطاعت ببداية شهر أغسطس عام 1994 في فرض سيادتها على معظم البلاد. شرعت الجبهة في نهاية العام في بدء مرحلةٍ جديدة من التصالح والتعايش السلمي. تمثّلت تلك المرحلة في محاكم الصلح القبلية، إضافةً إلى محكمة الجنايات الدولية لرواندا التي انعقدت في مدينة أروشا في دولة تنزانيا بموجب قرار مجلس الأمن رقم 977 لعام 1995. شملت الجرائم التي غطّتها المحكمة جرائم الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، وكذلك جرائم الحرب. وقد أنهت المحكمة مهامها في عام 2012، وحكمت بالسجن لمددٍ متفاوتة على أكثر من ثلاثين مسئولٍ روانديٍ سابق من بينهم السيد حون كامباندا، رئيس الوزراء المكلّف وقت وقوع الإبادة الجماعية.
7
زرتُ رواندا في شهر ديسمبر عام 2016 بدعوةٍ من مبادرة حوض النيل للتدريس في ورشة عمل نظّمتها المبادرة في مدينة كيغالي. كانت تلك الزيارة هي الأولى منذ زيارتي السابقة لرواندا عام 1993.
لم أصدّق عيني وأنا أشاهد تلك النظافة المنقطعة النظير لمدينة كيغالي. كانت شوارع المدينة خاليةً من النفايات وأكياس وأكواب البلاستيك والورق. بل لن أكون مبالغاً إن قلت أن الشوارع، كل الشوارع، خاليةٌ حتى من أعقاب السجائر وأعواد الكبريت. عرفت أن كل السكان، بما في ذلك الوزراء ورئيس الجمهوريبة بنفسه، يقومون في السبت الأول من كل شهر بحملة نظافة تشمل كل دولة رواندا وتستمر كل اليوم. علمت فيما بعد أن المدينة تحتل مرتبة أنظف مدينة في أفريقيا، وأن القانون يحظر حظراً تاماً استخدام أكياس وأكواب البلاستيك والورق في كل دولة رواندا.
لم اصدّق الهدوء والنظام اللذين يسودان كل أطراف المدينة. يقف الناس في صفوفٍ، ينتظر كلٌ منهم دوره، في صمتٍ وصبرٍ وأدب، في أماكن الخدمات، في محلات التسويق، وفي المواصلات العامة.
لم أصدّق الكياسة والأدب العام والاحترام الذي يقدّمه كل فردٍ للآخر ويقدّمه الجميع للأجانب الذين أتوا إلى رواندا. ولم أصدق التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي تبدو معالمه في كل جوانب الحياة في كيغالي والمدن التي زرتها حول كيغالي.
8
وذهلتُ عندما اتضح لي أن الكثيرين من الشعب الرواندي يتحدثون وبطلاقةٍ أربع لغات – الفرنسية والإنجليزية والسواحيلية واللغة الوطنية المسماة كيني رواندا. وضحت لي هذه الحقيقة من تعاملي مع الموظفين والعمال بالمطار، سائقي سيارات الأجرة، موظفي وعمال الفندق، موظفي مكتب النيل الجنوبي من الروانديين، وبائع الصحف الذي نشأت بيني وبينه علاقة ودٍّ منذ دخولي مكان عمله يوم وصولي كيغالي، ولقائه صباح كل يوم.
وقد تم إضافة اللغة السواحيلية إلى اللغات الرسمية في رواندا إثر انضمام دولة رواندا إلى المجموعة الاقتصادية لشرق أفريقيا (كينيا وتنزانيا ويوغندا) حيث تحتل اللغة السواحيلية موقع اللعة الرسمية لدول تلك المجموعة.
9
منذ وصول الجبهة الوطنية الرواندية للسلطة ونجاحها في استتباب الأمن والنظام وبدء عملية المصالحة الوطنية تغيرّت كل أوجه الحياة في رواندا. منعت الحكومة الجديدة منعاً باتاً استخدام كلمتي توتسي وهوتو في أية وثائق أو أوراق أو معاملات رسمية أو غير رسمية. أصبحت "المواطنة" الرواندية هي كلمة التعامل. منعت الحكومة كذلك الإشارة إلى الدين في أيٍ من وثائقها وأوراقها الرسمية (حوالي 80% من السكان مسيحيون، و15% يتبعون دياناتٍ محلية، بينما يبلغ عدد المسلمين 5%). وذهبتْ الحكومة أكثر من هذا عندما منعت أيضاً الإشارة إلى المحافظة أو الولاية التي ينتمي إليها الشخص. أصبحت المواطنة الرواندية هي القاسم المشترك الأعظم لكل سكان البلاد.
وتم تشييد أكبر متحفٍ في أفريقيا ليحكي قصة الإبادة الجماعية في رواندا على حقيقتها وبأمانةٍ تامة، وبكل تفاصيلها لكل زواره. وتشمل دار المتحف مقابر ضخمة لعددٍ من الذين لقوا حتفهم في حرب الإبادة. وقد زرتُ ذلك المتحف الذي لا يختلف عن أيِّ متحفٍ في أية مدينةٍ أوروبية أو أمريكية.
10
بعد استتباب الأمن والنظام عام 2001 بدأ الاقتصاد في رواندا في النمو المطرد، وظل معدل النمو في حدود 8% سنوياً منذ عام 2006، متفوّقاً بذلك على كل الدول الأفريقية. بدأت السياحة في احتلال المرتبة الأولى للاقتصاد عام 2013، ووصل دخل رواندا عام 2016 من السياحة وحدها إلى حوالي نصف مليار دولار، ويتوقع أن يرتفع الرقم إلى مليار دولار في العام 2020، خصوصاً مع بدء وصول السياح اليابانيين.
ثم تمّ اكتشاف كمياتٍ ضخمة من الغاز الطبيعي في بحيرة كيفو التي تتشاركها دولتا بوروندي ورواندا، وبدأت الدولتان في العمل معاً للاستفادة من هذه الثروة الضخمة. وتزايد إنتاج الشاي والبن وتصديره للدول الأفريقية والأسيوية والأوروبية، رغم انحسار المساحات المزروعة بسبب تزايد السكان والحاجة لتحويل أراضي زراعية إلى سكنية.
11
كيف استطاعت رواندا التي قرّر العالم نسيانها عام 1994 الخروج من نفق الحرب الأهلية والإبادة الجماعية والفوضى والفقر والتخلف إلى عالمٍ متحضرٍ متطورٍ متفوّقٍ على معظم الدول الأفريقية ودول العالم الثالث؟ وكيف نجح نظامها الذي وصل إلى السلطة عبر فوهة البندقية في ذلك التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والذي فشلت أنظمة أفريقيا الأخرى الشمولية والديمقراطية في الوصول إليه؟ ظلّ ذلك السؤال يؤرقني منذ أن وطأت قدماي مطار كيغالي في شهر ديسمبر عام 2016.
نجحتُ في اليوم الثاني لوصولي كيغالي في معرفة مكان عمل زميل دراسة من رواندا التقيته في الولايات المتحدة الأمريكية. لم أكن أتوقع لقاءه إطلاقاً. حسبته في عداد الموتى في كارثة الإبادة، أو في عداد الروانديين في المنفى معارضين للنظام. وقد كان لقاؤه مفاجأةً سعيدةً لي. بعد ساعات من التعارف ومعرفة أخباره وأخباري طلبت منه أن يحدثني عن نجاح رواندا الكبير والمفاجئ.
12
قال لي إن كارثة الإبادة الجماعية هي التي أيقظتنا على خياري الفناء أو البقاء. أصبح واضحاً لنا بعد الكارثة أن البقاء يتطلب تغييراً جذرياً في تفكيرنا ومعتقداتنا وسلوكنا. وما تراه اليوم في رواندا هو نتاج تلك الكارثة.
سألته: وماذا عن دور الجبهة الوطنية الرواندية؟
أشاد صديقي بالجبهة الوطنية الرواندية، ولكنه أضاف أن نجاح رواندا الاقتصادي والاجتماعي تمّ على حساب الحريات الأساسية والديمقراطية التعددية، وقام على أكتاف شمولية الدولة والحزب.
سألته عن أسباب نجاح الجبهة الوطنية الرواندية، فأجاب أن سر النجاح الاقتصادي والاجتماعي يتمركز في سبعة محاور.
أولاً: انبنت رؤية الجبهة الوطنية على إعادة تأسيس رواندا كدولةٍ عصريةٍ متقدّمة خلال عشرة أعوام، والخروج بها من نفق الحروب والموت والدمار والفقر إلى ساحة التقدّم والتنمية والرخاء.
ثانياً: أعدّت الجبهة برنامجاً متكاملاً لتنفيذ هذه الرؤية ووضعت جدولاً زمنياً لتنفيذ مكوناتها.
ثالثاً: أعدّت الجبهة برنامج مصالحة وطنية متكامل وقامت بتنفيذه بدقّة. لم يدخل أحدٌ السجن إلا بعد إدانته في المشاركة في الإبادة الجماعية بواسطة محكمة مختصة، ولم يفقد أحدٌ وظيفته إلا بعد إدانته.
رابعاً: أصبحت المواطنة المصدر الوحيد للواجبات والحقوق، وتمّ الإلغاء التام والحاسم للهوية القبلية والدينية والجهوية.
خامساً: وضعت الجبهة برنامجاً متكاملاً وقانوناً قاسياً لمحاربة الفساد. ألزم القانون كل الوزراء والمسئولين توضيح ممتلكاتهم العينية والنقدية منذ اليوم الأول لوصول الجبهة للحكم. رواندا الآن من أقل الدول فساداً في العالم.
سادساً: وضعت الجبهة كل جهدها ومالها والعون الخارجي الذي وصلها في التعليم. وقرّرت مجانية التعليم وإلزاميته حتى نهاية المرحلة الثانوية، مع تواصل مجانيته في الجامعات. أصبحت اللغات الأربعة لغاتٍ رسمية لا يستطيع أحد دخول الجامعة دون إتقانها.
سابعاً: التعليم والعلاج والماء هي حقوقٌ أساسية لكل مواطن تلتزم الدولة بتأمينها.
لكن صديقي الأكاديمي ظل يكرر أن هذا النجاح تم على حساب الحريات الأساسية وفي غيابٍ تام للديمقراطية التعددية.
13
تواصل النقاش مع صديقي وسألته عن المدى الذي نفّذت حكومة الجبهة الوطنية هذا البرنامج الطموح؟ قال لي إنه يعطي الحكومة درجة متقدّمة تساوي "ب" في تنفيذ برنامجها.
قلت له لماذا مع كل هذا الاعتراف بجدّية الحكومة ومع كل هذا الإطراء والثناء على الحكومة تقف معارضاً لها؟
صمت صديقي لبعض الوقت، ثم قال لي: أنا وعددٌ كبير من المتعلمين الروانديين نريد دولة المؤسسات والقانون، وليس الدولة التي تقوم على حكم الفرد والحزب الواحد. الرئيس بول كاغامي حكمنا لمدة سبعة عشر عام وأنجز الكثير. نريده أن يتنحّى ليبقى احترامنا له مثل الاحترام للرئيس نيلسون مانديلا والرئيس جوليوس نايريري.
واصل صديقي: تعديل الدستور ليعطي الرئيس كاغامي الحق في الترشيح لدورة ثالثة ورابعة خطأ كبير، وسوف يقود إلى مزيدٍ من ديكتاتورية الفرد والحزب. نريد دستوراً يحترمه الجميع ولا يتم تعديله لإرضاء فرد، ونريد دولة المؤسسات والقانون. ونريد أن تكون هناك ديمقراطية تعددية وحريات أساسية ليعود كل الروانديين من المنفى، ويتم إطلاق سراح المعتقلين، ويساهم الجميع في بناء دولة رواندا الحديثة، ونضمن للصحافة حريتها الكاملة.
ظل صديقي الأكاديمي يكرّر "إن الديمقراطية والحريات الأساسية هي الضمانة الحقيقية لاستمرارية التقدم الاقتصادي والاجتماعي لأيّةِ دولة، خصوصاً رواندا ذات التاريخ الدموي."
14
في طريقي للمطار مغادراً كيغالي إلى الخرطوم تحدّثتُ مع السائق وسألته عن رأيه في تعديل الدستور للسماح للرئيس كاغامي بخوض الانتخابات لدورةٍ ثالثة وأخرى رابعة. قال لي بهدوء ودون تردّد: لقد انقذتنا الجبهة الوطنية من الحرب والموت والدمار وقادتنا في طريق الاستقرار والتنمية. يجب أن يبقى الرئيس كاغامي في قيادة البلاد ليكمل المشوار الذي بدأه. أنا مع تعديل الدستور وسوف أصوّت للرئيس كاغامي. في حقيقة الأمر فالشعب كله مع تعديل الدستور ليبقى الرئيس كاغامي في مقعد القيادة. لا أحد يريد أن تعود رواندا مرةً ثانية إلى الحروب والموت والدمار والفقر والجوع والانقسامات القبلية.
15
أجاز الشعب الرواندي بأغلبية كبيرة تعديل الدستور ليسمح للرئيس بول كاغامي بخوض انتخابات الرئاسة لدورة ثالثة وأخرى رابعة. وجرت الانتخابات في شهر أغسطس عام 2017 وفاز السيد كاغامي بنسبة 99% من أصوات الناخبين. عليه سيبقى الرئيس كاغامي الذي وصل إلى السلطة عام 2000 رئيساً لسبعة أعوامٍ قادمة حتى عام 2024، وسيكون من حقه الترشح لدورةٍ رابعة بعد ذلك.
16
قفزتْ إلى ذهني صورٌ متعددة من زيارتي لدولة رواندا في شهر ديسمبر عام 2016 وأنا أتابع نبأ زيارة الرئيس الرواندي السيد بول كاغامي للخرطوم الأسبوع الماضي (20– 21 ديسمبر عام 2017).
كانت الصور الأولى لدولة رواندا ونموها الاقتصادي والاجتماعي، ونظافة مدنها وقراها، وانتظام شعبها. وأكمل تلك الصور صوت سائق السيارة الذي أخذني إلى المطار وهو يحدثني كيف انقذتهم الجبهة الوطنية من الحرب والموت والدمار والفقر، وقادتهم في طريق الاستقرار والتنمية، ولماذا يجب أن يبقى الرئيس كاغامي في قيادة البلاد.
قاطع تلك الصور صوتُ صديقي الأكاديمي الرواندي وهو يتحدث عن ضرورة أن تسود دولة المؤسسات والقانون كضمانة لاستمرارية النمو والتطور الاقتصادي والاجتماعي، ولدحر الدكتاتورية وحكم الفرد والحزب الواحد، ولضرورة إرساء قواعد الديمقراطية التعددية والحريات الأساسية. وظلّ يرن بذهني صدى كلمات صديقي "إن الديمقراطية والحريات الأساسية هي الضمانة الحقيقية لاستمرارية التقدم الاقتصادي والاجتماعي لأيّةِ دولة، خصوصاً رواندا ذات التاريخ الدموي."
16
احتلّ التفكير والتأمل في هاتين الأطروحتين – أطروحة صديقي الأكاديمي وأطروحة السائق الذي أوصلني المطار – حيزاً كبيراً من زمن رحلة العودة من كيغالي إلى الخرطوم، عبر مطار أديس أبابا، عاصمة البلاد التي تشهد وضعاً اقتصادياً واجتماعياً وجدلاً مماثلاً للوضع والجدل الرواندي.
غير أن سؤالاً آخر بنفس الأهمية ظلّ يفرض نفسه على هذه الصور والتساؤلات والتفكير والتأمل:
لماذا تنجح بعض الأنظمة الشمولية في الخروج بشعوبها من نفق الحروب والموت والدمار والجوع، والنهوض ببلادها اقتصادياً واجتماعياً، وتفشل الغالبية العظمى من تلك الأنظمة الشمولية حتى في إطعام شعبها وتعليمه وخلق فرص العمل له وعلاجه، والحفاظ على حدود بلادها؟
[email protected]
www.salmanmasalman.org


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.