* الطاغية يطهر الدولة من العناصر الحميدة ويبقي الخبيثة. لأنه اذا اراد ان يحكم، فليس له من خيار آخر. * لا يزجره زاجر من سفك دماء اهل البلد بالذرائع المفضلة من تلفيق التهم ضدهم وجرهم للمحاكم ثم قتلهم. * يفتعل الحروب لافقار الناس بالجبايات وبذلك يكون الناس مضطرين لتوجيه طاقاتهم لاحتياجاتهم اليومية بما يقلل من احتمال خطر التآمر عليه. * اذا استشعر ان اي واحد منهم تساوره نزعات الحرية والانعتاق من سلطته الغاشمة، فسوف يفتعل اي شئ لتحطيمه. مقدمة هذا المقال عبارة عن ترجمة (بتصرف) لمقتطفات في الفصل الثامن والتاسع من كتاب "الجمهورية" لأفلاطون، حيث يعطينا الفيلسوف اليوناني وصفا دقيقا لحكم الطاغية ونزعات نفسه المريضة التي يصيب شرها وأذاها كل الناس في البلد التي ترزأ به. يجعل افلاطون العدل اساس الحكم. والعدل يكون في الدولة ومع الآخرين ومع النفس كما يحثنا الاسلام. يقول افلاطون ان أفضل أنماط الحكم هو الملكي، وأسوأها حكم الطغيان. لكنه يذكرنا ايضا ان الطاغية هو في الأساس يصنعه الناس يسبغون عليه من صفات الجلال والعظمة حتى يتوهّم انه يمكن ان يسود العالم أجمع، تماما كما فعل الفرعون بل ويتطلع لملكوت السماوات العلى، ليكتشف الناس في نهاية المطاف انهم انما كانوا يرعون عدوهم اللدود الذي – حين يتمكن من ناصية القوة – سوف يذيقهم مر العذاب ويذلهم ويستعبدهم ويفقرهم وينتزع ممتلكاتهم ويضربهم ويقتلهم اذا ما حاولوا التمرد علي تجبره، فيندمون على تنصيبه فرعونا عليهم حيث لا ينفع الندم. هذه دعوة لنا جميعا للتفكر والتدبر في حالنا لتبرئتها وفي حال البلد لانتشالها من براثن الشر والظلم والفساد والطغيان وذل المسغبة ومضاضة الحاجة. أولا نورد نبذة عن افلاطون وموقعه عند فلاسفة ومتصوفة المسلمين. نبذة عن افلاطون وموقعه عند المتصوفة المسلمين عاش افلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد بين 424 – 348 في مدينة اثينا حيث أنشأ "الاكاديمية" كأول مؤسسة للتعليم العالي في العالم الغربي القديم. وهو من اسس للمذهب الجدلي في المنطق القائم على اثبات الحجة بالحوار والسؤال والجواب للوصول الى الحقيقة. وهو المنهج المستخدم حتى اليوم في المحاكم لإثبات الحجة على الجاني أو تبرئة ساحته. يحتل افلاطون مقاما متقدما في سلم المراتب الصوفية عند الفلاسفة المتصوفة المسلمين كابن عربي والحلاج والجيلي وجشتي الهندي، وابن الخطيب. يعتبر الشيخ عبد الكريم الجيلي أحد كبار الصوفية ان افلاطون هو قطب الزمان، ويقول في كتابه "الانسان الكامل ص:2 / 5352": "لقد اجتمعت بأفلاطون الذي يعدونه أهل الظاهر كافرا، فرأيته قد ملأ العالم الغيبي نورا وبهجة، ورأيت له مكانة لم أرها الا لآحاد من الاولياء، فقلت له: من انت؟ قال: قطب الزمان وواحد الأوان". كما يقول البروفسور جشتي الصوفي الكبير في الهند: "ان التصوف لم يقتبس ولم يؤخذ الا من المنابع الصافية والمصادر الطاهرة، وعلى رأسها الافلاطونية المحدثة". ونجد محيي الدين بن عربي يسير على ذات نهج افلاطون في فلسفته حول الإلهيات التي "تدور على وحدة الوجود، وهذا ايضا هو المنهج الصوفي للشيخ الاكبر ابن عربي وغيره كما اؤمن به انا ايضا" (جستي، تاريخ التصوف 63). أما الشيخ لسان الدين ابن الخطيب الصوفي الكبير فقد لقب افلاطون "بمعلم الخير". ومن اهل فارس المتصوفين من امثال د. كوب .أ. بور، د. قاسم غني الذي يقول: "هذه نماذج من آراء الفلسفة الافلاطونية الحديثة التي وفق المسلمون بينها وبين الشرع الاسلامي.. وسموها حكمة الاشراق". (التصوف الاسلامي ص ص:142 – 143). (من ورقة عدنان عبد القادر). افلاطون وآراؤه في حكم الطاغية حكم الطغيان والذي هو اخذ ممتلكات الناس بالتزوير وبالقوة الجبرية، يشمل ممتلكات الناس افرادا والممتلكات العامة اخذها جملة وليس مجزأة. مثل هذه الافعال الخاطئة اذا ارتكبها شخص منفردا فسوف يعاقب وتشوه سمعته، وتلحق به سبة السرقة والنهب والسطو واللصوصية. لكن حينما يكون مرتكب سرقة اموال المواطنين هو نفسه الذي جعل منهم عبيدا ففي هذه الحالة فبدلا من الصاق هذه الصفات به، يوصف بانه سعيد ومبارك ليس فقط ممن سرقهم، بل من كل من سمع بما حققه عن طريق اللصوصية والظلم. هناك طبقة ثانية دائما ما تكون منفصلة عن المجتمع، وهي الطبقة المنظمة والتي يمثلها طبقة الاثرياء، تكون هي الاكثر استحلابا وتدر أكبر كمية من العسل لذكور النحل (شبه الحكام الذين يكثرون من الضجيج بلا انتاج ويعيشون على ابتزاز الاغنياء كذكور النحل التي تأكل اكبر كمية من العسل دون ان تنتجه أو تلد كالملكة). اما الطبقة الثالثة فهي طبقة عامة الشعب الذين ليسوا بسياسيين وليس لديهم الكثير، لكنهم يشكلون – اذا اتحدوا – أكبر واقوى طبقة في الدولة. لكنهم قلما يتحدون ما لم يجدوا بعض العسل الذي يحفزهم للتعاضد. الا ان زعماءهم عادة ما يبتزون الاغنياء ويستحوزون على املاكهم واموالهم ثم يوزعونها على العامة، بينما يحتفظون لأنفسهم بالقسط الأكبر من الغنائم. وبهذا يكونون قد أوغروا نفوس الفريقين وخلقوا العداوة بين الاغنياء والفقراء. فيخوفون الاغنياء الذين انتزعت ممتلكاتهم من غضبة الدهماء ويضطرونهم للدفاع عن أنفسهم بأقصى ما يستطيعون. ثم يكيدون لهم انهم يتآمرون على الدولة وانهم خونة وأعداء للشعب. ثم يتبع ذلك الاتهامات والتخوين والمحاكمات الجزافية. الناس عادة ما تصنع لنفسها بطلا تنصبه قيّما عليها، ثم ترعاه وتتعهده وتسبغ عليه من مظاهر العظمة. هذا هو الاساس الذي ينبع منه الطغيان. فعند ظهوره الأول يكون هو "حامي الحمى". فكيف يتحول "حامي الديار" الى طاغية؟ يحصل ذلك كما حصل لصاحب قصة المعبد الاركيدي. إذ تحكي الاسطورة ان من تذوق احشاء ضحية بشرية واحدة مفروما ومعطونا مع أحشاء ضحايا اخرى فمصيره ان يصير ذئبا. فالذي كان في البداية انه حامي الحمى سرعان ما يتحول الى ذئب بما تجمع عنده من الغوغاء والرعاع يوجههم طوع بنانه مستعدون لفعل اي شيء يأمر به. فلا يزجره زاجر من سفك دماء اهل البلد بالذرائع المفضلة من تلفيق التهم ضدهم وجرهم للمحاكم ثم قتلهم. وبلسان فاجر وفم تذوق دم بني جلدته، يقتل البعض ويرسل البعض الى المنافي، في ذات الوقت يعد انه سوف يلغي الديون ويعد بتوزيع الاراضي للمستحقين. فماذا يكون مصيره بعد كل هذا؟ ليس امامه الا خياران: اما ان يلقى مصرعه على ايدي غرمائه، واما ان يتحول من انسان الى ذئب: بمعنى ان يصير طاغية. هذا هو مصير من يقف ضد الاغنياء. فسوف يتم ابعاده، لكنه يعود مرة أخرى على الرغم من اعدائه، يعود طاغية عنيدا متجبرا مكتمل الاركان. فاذا لم يتمكنوا من القضاء عليه او يحكموا عليه بالإعدام بتهم خيانة الامانة العامة، فسوف يتآمرون لاغتياله. وحين يشعر بالخطر يحيط به من كل جانب، هنا يأتي الطلب المعروف بتكوين فرق الحراسة الشخصية bodyguard هي الوسيلة التي يلجأ اليها كل من وصل الى هذه الدرجة المتقدمة من الطغيان. ويتم تبرير الحوجة الى الحرس الشخصي بالقول ب"عدم ترك صديق الشعب يسقط في يد الأعداء". ويوافق الشعب على ذلك، حين تتجه كل مخاوفهم نحوه، ولا يخافون على أنفسهم. وحين يرى الغني وهو ايضا متهم بانه عدو الشعب، حين يرى كل ذلك، فليس امامه الا ان يهرب ولا يهدأ روعه ولا يخجل ان يقال له جبانا، لأنه اذا وقع في ايديهم فمصيره الموت. حامي الحمى الذي كنا نتحدث عنه هو الذي نشاهده يصرع الكثيرين، يقف على مركبة الدولة ممسكا الزمام في يده لكنه لم يعد "الحامي" كما كان في السابق، لكنه الطاغية الاوحد مطلق الطغيان. شقاء الطاغية وتعاسة حال الدولة التي يحكمها دعنا نتفكر في حال سعادة الرجل وايضا حال الدولة التي يتخلق فيها مثل هذا المخلوق. ففي الايام الاولى لسلطته، يكثر الرجل من الابتسامات يوزعها على كل من يقابل ويحيي الجميع. يسمى طاغية كل من يطلق الوعود للعامة والخاصة بانه سوف يلغي الديون ويوزع الاراضي للناس وللاتباع يريد ان يكون طيبا ورحيما بالكل. لكنه حالما قضى على الاعداء الخارجيين اما بالانتصار عليهم او بابرام المعاهدات معهم، وليس ثمة ما يخشاه من ناحيتهم، يتفرع بعد ذلك لحياكة المؤامرات فهو دائما يفتعل الحروب من اي نوع حتى يجعل الناس محتاجين دائما الى قائد في الحروب التي يفتعلها. لكن ثمة سبب آخر لهذه الحروب المفتعلة وهو افقار الناس بالجبايات وبذلك يكون الناس مضطرين لتوجيه طاقاتهم لاحتياجاتهم اليومية بما يقلل من احتمال خطر التآمر عليه. واذا ما استشعر ان اي واحد منهم تساوره نزعات الحرية والانعتاق من سلطته الغاشمة، فسوف يفتعل اي شئ لتحطيمه بوضعه تحت رحمة الاعداء. ولهذه الاسباب فالطاغية لابد ان يكون في حالة مستمرة من افتعال الحروب. والنتيجة لكل ذلك انه يصيح مكروه بين الناس. فينتفض ممن نصبوه فرعونا ممن هم في السلطة ليعبروا عن سخطهم على الاوضاع يتكلمون معه ومع بعضهم البعض. وقد تبلغ الجرأة بالشجعان منهم برميه بكل اسباب الفشل. والطاغية اذا اراد ان يستمر في الحكم، فلا بد ان يتخلص منهم جميعا. فلا يمكن ان يتوقف طالما ان هناك اناس اكفاء اصدقاء كانوا ام اعداء، لابد من التخلص منهم جميعا. لذلك يتوجب عليه ان ينظر من حوله ليرى من هو الشجاع، ومن هو النابه، من هو الحكيم، ومن هو الثري، هو عدوهم جميعا ولا بد من تحين السانحات للايقاع بهم والاجهاز عليهم حتى يكون هناك تطهيرا شاملا في الدولة. لكنه ليس ذلك النوع من التطهير الذي يقوم به الطبيب لتطهير الجسم من الاشياء الضارة ويبقي الحميدة، لكنه يفعل العكس، فالطاغية يطهر الدولة من العناصر الحميدة ويبقي الخبيثة. لأنه اذا اراد ان يحكم، فليس له من خيار آخر. وياله من خيار تعيس: ان يجبر على ان يبقى دوما في صحبة الاشرار الكارهين له، أو يفقد حياته. وكلما ازدادت افعاله شناعة كلما ازداد شخط الناس عليه، وازداد تبعا لذلك حوجته لخلق المزيد من الجماعات المرتزقة الدائرة في فلكه يطلب منها المزيد من الاخلاص له والحماية. لكن من هم هؤلاء العصابة المخلصة للطاغية ؟ ومن اين يصرف عليهم؟ هم يهرعون اليه بمحض ارادتهم طالما هو يغدق عليهم. هؤلاء مثل ذكور النحل التي تأكل جل العسل ولا تنتج لكنها تكثر الضجيج. يأتي هؤلاء من كل نوع ومن كل حدب وصوب. لتجنبد هؤلاء، فسينتزع العبيد من اسيادهم ثم يطلقهم احرارا، ثم يعيد تجنيدهم في صفوف حرسه الشخصي. اذ يمكنه ان يأمنهم ويثق بهم اكثر من اي فئة أخرى. ياله من طاغية ذلك الذي يقتل الاخرين ويستبقى هؤلاء الاشقياء كاوثق اصدقائه. نعم فهم على شاكلته. نعم، هؤلاء هم المواطنون الذين خلقهم، المعجبون به واصحابه وجلساؤه، بينما يكرهه ويتحاشاه الاخيار. كيف يستطيع الطاغية الصرف على وتجهيز ذلك الجيش الجرار والمتباين والمتغير دوما من المرتزقين والمنتفعين؟ اذا وجدت هناك كنوز مقدسة في المدينة، فسيلجأ الى مصادرتها وصرفها على جيوشه من المنتفعين. واذا لم تكف هذه، فيلجأ هو واتباعه الى اقطاعية ابوه "الدولة ومن فيها". وماذا سيكون الحال اذا انتفض الناس وثاروا واحتجوا ان الابن حين يكبر يجب الا يعتمد على والده، بل يجب ان يعتمد الاب حين يكبر على ابنه. فالاب لم يلد ابنه واتى به الى الحياة حتى اذا كبر وصار رجلا وجب على الوالد الصرف عليه وخدمته هو وشرزمته من العبيد والأصحاب، بل يجب على الابن خدمة والده عند الكبر. ولذلك يطلب الاب من ابنه ورفاقه المتبطلين المغادرة تماما كما يطرد اي اب ابنه العاصي واتباعه غير المرغوب فيهم من البيت. (التشبيه هنا الاب والبيت هي الدولة التي رعت الطاغية صغيرا، والابن العاق هو الحاكم الطاغية وشرزمته من الأشرار). يا للهول، فسيكتشف الاب اي مسخ كان يربيه في حكره، وحين يريد طرده فسيجد انه ضعيف وابنه قوي. فالطاغية سيستخدم العنف مع والده ويضربه اذا ما وقف في طريقه. لأنه اضعف والده وجرده من اسلحته، فهو قاتل الاب أو الام ورفيق قاسي على اب مسن..هذا هو الطاغية الحقيقي الذي لا جدال فيه. فكما يقول المثل: الناس حين يفرون من الدخان االذي هو عبودية الحرية ، سيقعون في النار التي هي طغيان العبيد. وبذا، فالحرية حين تخرج عن كل معقول، تتحول الى اقسى وأمر انواع العبودية "حكم الطاغية". قي الأخير يأتي الرجل الطاغية. فلننظر كيف يتشكل الطاغية من الانسان الديمقراطي، وكيف يعيش، في سعادة أم في شقاء. فلتعرف ان رجلا معتوها ليس في كامل قواه العقلية سيتوهم انه باستطاعته ان يحكم ليس فقط الناس، بل ايضا الآلهة. والرجل الطاغية بالمعنى الحقيقي للكلمة يأتي الى الوجود اما من أثر الطبيعة أو العادة او الاثنين معا، فهو انسان سكير، عربيد، شهواني وعاطفي. فكيف يعيش هذا الانسان؟ [email protected]