مخابئ الفساد والحوكمة الضعيفة كريستين لاجارد (1) أقر المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي أخيرا إطارا جديدا لتعزيز مشاركة الصندوق بشأن قضايا الحوكمة والفساد في البلدان الأعضاء. وأود التطرق قليلا إلى سبب أهمية ذلك وما يعنيه بالنسبة لعملنا. تكاليف الفساد كلنا يعلم أن للفساد عميق الجذور عواقب وخيمة على الاقتصاد، حيث يقوض قدرة البلدان على تحقيق نمو اقتصادي احتوائي ومستدام. وقد أصدرنا أخيرا دراسة تجريبية تخلص إلى أن ارتفاع مستوى الفساد يرتبط بانخفاض ملحوظ في النمو والاستثمارات والاستثمار الأجنبي المباشر والإيرادات الضريبية. فنجد أن تراجع مراتب البلدان من المئين الخمسين إلى المئين الخامس والعشرين على أحد مؤشرات الفساد أو الحوكمة يرتبط بهبوط قدره نصف نقطة مئوية أو أكثر في نمو إجمالي الناتج المحلي السنوي للفرد، وانخفاض يراوح بين 1.5 و2 في المائة في نسبة الاستثمار إلى إجمالي الناتج المحلي. وتشير نتائجنا أيضا إلى أن الفساد والحوكمة الضعيفة يرتبطان بارتفاع عدم المساواة وانخفاض النمو الاحتوائي. وليس من الصعب أن نفهم هذه النتائج. فنحن نعلم أن الفساد يضعف قدرة الحكومة على تحصيل الضرائب، ويشوه الإنفاق بإبعاده عن الاستثمارات ذات القيمة في مجالات مثل الصحة والتعليم والطاقة المتجددة وتوجيهه نحو المشروعات المهدرة للموارد التي تحقق مكاسب قصيرة الأجل. ونعلم أن الفساد بمنزلة ضريبة على الاستثمار أو أسوأ من ذلك، نظرا لعدم اليقين بشأن ما يطلب من رشا في المستقبل. ونعلم أيضا أن الفساد يؤدي بالشباب إلى عدم الاستثمار في مهاراتهم وتعليمهم لأن التقدم يعتمد على من يعرفون وليس ما يعرفون. ونعلم أن الفساد يضر بالفقراء، ويعوق الفرصة الاقتصادية والتحركية الاجتماعية، ويقوض الثقة بالمؤسسات، ويتسبب في تفكيك النسيج الاجتماعي. والفساد عقبة كؤود أمام تحقيق "أهداف التنمية المستدامة". تعزيز المشاركة ونظرا لكل هذا، يعد تعزيز مشاركة الصندوق في جهود محاربة الفساد أمرا مبررا في حينه. وتجدر الإشارة إلى أن العمل المعني بالفساد سيتم تضمينه في عملنا العام الذي يشجع الحوكمة الرشيدة في مجالات أساسية مثل الإدارة المالية العامة، والرقابة على القطاع المالي، ومكافحة غسل الأموال. ومن الضروري توسيع نطاق التركيز ليشمل كل هذه المجالات. فأوجه الضعف في الحوكمة مضرة في حد ذاتها، لكنها تفتح الباب أيضا لاستشراء الفساد. وحتى تصبح استراتيجيات مكافحة الفساد فعالة، يتعين أن تتجاوز مجرد إلقاء الفاسدين في السجون، إذ إنها تتطلب إصلاحات تنظيمية ومؤسسية أوسع نطاقا. فالمؤسسات القوية والشفافة والمسؤولة هي، في نهاية المطاف، "العلاج" الأكثر استمرارية للفساد. وبكلمات لوي برانديس الشهيرة، "يقال إن ضوء الشمس أفضل مطهر؛ ونور الكهرباء أكفأ شرطي". ومن المزايا الأخرى لهذا المنهج الأوسع نطاقا أن بإمكاننا استخدام أوجه الضعف في الحوكمة للمساعدة في تعزيز تقييمات الفساد، لأن الفساد غالبا ما يرتبط بسقطات في الحوكمة بوجه عام وكثيرا ما يصعب تقييمه. وأود الإشارة إلى أن هذا الموضوع ليس جديدا بالنسبة لنا. فلدينا سياسة للحوكمة منذ عام 1997، وهي سياسة جيدة حيث خلصت المراجعة التي أجريناها بشأنها إلى صحة المبادئ التي تقوم عليها. وتدعونا هذه السياسة إلى معالجة قضايا الحوكمة والفساد حين تكون بالغة التأثير في الاقتصاد الكلي، كما تدعونا إلى العمل مع المؤسسات الشريكة (خاصة البنك الدولي) في مجالات خبرتها وألا نتدخل في الشؤون السياسية أو في الإنفاذ المتعلق بحالات منفردة. ولكن رغم الاتزان الذي تتسم به هذه المبادئ، فقد خلصت مراجعتنا إلى أن تنفيذها غير متوازن. ذلك أننا لم نكن في كل الأحوال متسقين في معاملة البلدان الأعضاء من حيث تطبيق المعيار نفسه على الأفعال نفسها. كذلك افتقرت تحليلاتنا إلى الوضوح في كثير من الأحيان. «2 من 2» لتعزيز المشاركة في الحوكمة ومكافحة الفساد، اعتمدنا إطارا يهدف إلى معاونة البلدان الأعضاء في جهودها ذات الصلة على نحو أكثر منهجية وتجردا وفعالية وصراحة. وكخطوة أولى، نعمل حاليا على وضع منهجية واضحة وشفافة لتقييم طبيعة أوجه الضعف في الحوكمة ودرجة حدتها. وسننظر في مجموعة واسعة من المؤشرات، جودة مؤسسات الميزانية التي تستخدم في فرض الضرائب والإنفاق، وسلامة الرقابة على القطاع المالي، ونزاهة البنوك المركزية، وشفافية تنظيم السوق وحياديته، والوضوح المسبق للجوانب التي تنطوي عليها سيادة القانون وتتطلبها سلامة الاقتصاد، خاصة إنفاذ العقود، وملاءمة الأطر الموضوعة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وبالطبع، سنجري تقييما مباشرا لمدى حدة الفساد أيضا. وستكون الخطوة التالية هي تقييم الأثر الاقتصادي لأوجه الضعف المحددة في مجالي الحوكمة والفساد، وتقديم توصيات بشأنها على صعيد السياسات حسب احتياجات كل بلد. ومن المهم أننا سننظر في هذه الجوانب ضمن أفق زمني أطول، نظرا لأن الحوكمة الضعيفة والفساد يضران بالاقتصاد، ليس فقط بإحداث اضطرابات على المدى القصير، وإنما أيضا عن طريق الاضمحلال المؤسسي البطيء. وبالنسبة لبرامجنا الإقراضية، سننظر فيما إذا كانت هناك مشكلات تعوق قدرة البلدان على تنفيذ إصلاحاتها الاقتصادية. جانب العرض في الفساد هناك عنصر آخر في هذا الصدد. فمن أبسط البدهيات، أن الفساد في كل زمان ومكان ظاهرة تفعلها "يدان"، وهي عبارة مأخوذة بتصرف من كلمات قالها ميلتون فريدمان. فأمام كل رشوة تؤخذ، هناك رشوة تعطى. وكثيرا ما تكون الأموال التي يتم الحصول عليها عن طريق الفساد أموالا مخبأة خارج البلاد، غالبا في القطاعات المالية للعواصم الكبرى. ومن الممكن جدا أن يكون لدى البلدان "أيد نظيفة" في الداخل و"أيد ملوثة" في الخارج. وبالتالي، كي نكافح الفساد بحق، علينا التصدي لتيسير ممارسات الفساد في القطاع الخاص. ولتحقيق ذلك، سنشجع البلدان الأعضاء على التطوع بطلب تقييم أطرها القانونية والمؤسسية من جانب الصندوق، لمعرفة ما إذا كانت تجرم الرشوة الأجنبية وتلاحقها قضائيا، وما إذا كانت لديها الآليات اللازمة لإيقاف ممارسات غسل الأموال الملوثة وإخفائها. وما يثلج صدري أن تسعة بلدان مجموعة السبعة مجتمعة إضافة إلى النمسا والجمهورية التشيكية قد تطوعت بالفعل لإجراء هذا التقييم. ويعد هذا تصويتا مهما بالثقة في الإطار الجديد. والآن، بعد أن حصلنا على الدعم الكامل من البلدان الأعضاء، يجب أن ننتقل إلى التنفيذ. ففي سياق عملنا الرقابي وفي برامجنا الإقراضية، نتوقع رؤية مزيد من التقييم والنقاش لقضايا الحوكمة والفساد. وسنعمل أيضا على تنمية قدراتنا بدرجة أكبر في هذه المجالات حتى نساعد البلدان الأعضاء على تقوية ما لديها من أطر تنظيمية ومؤسسات. وهدفنا هنا هو أن نتوخى الصراحة والدقة والشفافية والتجرد. وهذا بدوره يمنحنا مصداقية أكبر، ويتيح لنا أداء مهمتنا بشكل أفضل. وبالعودة إلى كلمات برانديس، أجدني على ثقة بأن تعزيز مشاركة الصندوق سيحقق للحوكمة والفساد ما يحققه الاستثمار في تكنولوجيا الطاقة الشمسية للبيئة، وهو تسخير قوة ضوء الشمس الهائلة لوضع الاقتصاد العالمي على مسار أصح وأكثر استدامة. وإذا جرت الأمور كما هو مخطط لها، لا بد أن تتلاشى تدريجيا تلك الأركان المظلمة التي لا يزال بإمكان الفساد أن يختبئ فيها. وإنني أتطلع إلى العمل من كثب مع البلدان الأعضاء كي نجعل ذلك حقيقة واقعة. (مترجم ومنقول).