جاءت في بعض صحف الخرطوم في الأيام الفائتة، تصريحات شاطحة للفريق عبد العزيز الحلو نائب رئيس الحركة الشعبية ومرشحها لمنصب الوالي في جنوب كردفان، يقول فيها برفض وقف العدائيات لحين التوصل إلى اتفاق سياسي حول القضايا المصيرية المتمثلة في علمنة الدولة والتحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، وزاد على ذلك بأن الجيش الشعبي سيستمر في الدفاع عن نفسه ضد الغدر والعدوان حتى يتم تفكيك النظام الحاكم في الخرطوم والقضاء على الشمولية في البلاد! «التيار 16/6/2011م». ويساءل المرء هل هذه مطالب حقيقية أم أنها ضرب من المزايدة السياسية التي عرف بها ساسة السودان التقليديون؟ وإذا كان القصد هو الوصول إلى اتفاق سياسي حول القضايا المصيرية المذكورة سيكون ذلك بالضرورة مع الحزب الحاكم، فكيف يستقيم ذلك مع «تفكيك النظام الحاكم في الخرطوم»؟ تقديري بأن كلا الطرفين اللذين يقودان النزاع عبد العزيز الحلو وأحمد هارون يقعان تحت ضغوط مكثفة لتصعيد التوتر في الولاية المنكوبة، وتحديداً تجيء الضغوط من الخرطوموجوبا. فكلا العاصمتين لديهما أجندة أخرى تريدان خدمتها عبر تصعيد التوتر في جنوب كردفان، تريد جوبا أن تضغط على الجيش السوداني في الولاية الكردفانية ليخفف انتشاره في منطقة أبيي، وتقبل الحكومة بالرجوع إلى الاتفاق القديم حول أبيي دون تغيير، وتريد الخرطوم إنهاء وجود جانب الجيش الشعبي في القوات المشتركة في الولاية بنهاية مايو حتى لا تطعن من خلفها في صراع أبيي المفتوح على كل الاحتمالات، وهذا ما طلبه رئيس الأركان المشتركة من نظيره في الجيش الشعبي يوم 23/5 الماضي، ربما يكون ذلك لأسباب أمنية ومالية «لا تريد الحكومة تحمل نفقات الوحدات المشتركة لعدة شهور قادمة»، مع أن اتفاقية السلام تنص بوضوح على أن «حل الوحدات المشتركة في حالة الانفصال يكون في الفترة بعد الانتقالية + 90 يوماً» «ملحق 2: جدول ومواقيت الأنشطة الرئيسية لوقف إطلاق النار»، وهذا يعني أن تستمر إلى 9 أكتوبر، وذكر في موقع آخر من الاتفاقية أن «يكون حجم وانتشار الوحدات المشتركة طوال الفترة الانتقالية» «فصل الترتيبات الأمنية 25/9/2003م». وقد تحفظ جانب الجيش الشعبي في مجلس الدفاع المشترك على موعد 9/4 الذي طرحته القوات المسلحة، وبالتالي فالموعد ليس ملزماً لهم. وتريد الخرطوم إضعاف الحركة الشعبية في جنوب كردفان لأنها كانت أشرس المعارك الانتخابية التي خاضها المؤتمر الوطني في انتخابات 2010 و 2011م، بل إن جملة أصوات الحركة كانت أكثر من أصوات المؤتمر بحوالي 7 آلاف صوت رغم فوز الأخير بمنصب الوالي وبعدد مضاعف من المقاعد الجغرافية بالمجلس التشريعي. وتريد قيادة الحركة الشعبية في الخرطوم أن تجبر المؤتمر الوطني على الاعتراف بها والتعامل معها بعد انفصال الدولتين، فقد هدد عدد من صقور المؤتمر الوطني بمنع الحركة من العمل في الشمال بعد التاسع من يوليو القادم، وهنا يظهر تماهي الدولة مع الحزب، لأن ذلك من اختصاص مجلس شؤون الأحزاب الذي سيطلب توفيق الأوضاع قبل أن يأمر بإلغاء تسجيل الحزب الذي يتم عن طريق المحاكم. وقد استطاع كل من الزعيمين، الحلو وهارون، التعاون بسلاسة طيلة السنوات الثلاث الأخيرة حين اشتركا في تشكيل حكومة جنوب كردفان بعد مشاكسات ساخنة في عهود الولاة السابقين، وقد حقق ذلك التعاون سلاماً وأمناً وتنمية غير مسبوقة في الولاية. وأعرف أن كلاهما قضى وقتاً في مدينة بورتسودان قبل عدة أشهر من انتخابات الولاية اتفقا فيه على مستقبل الجيش الشعبي واستمرار الشراكة بينهما بصرف النظر عن نتيجة الانتخابات القادمة ومخرجات المشورة الشعبية، بل والتوافق على خوض الانتخابات، إلا أن جهة قيادية خارج الولاية أصرت على إجراء انتخابات تنافسية مفتوحة طمعاً في فوز ساحق. ولعل السبب في تغير موقف الحلو أنه كان متأكداً من ترجيح فوزه بالانتخابات، ولذلك صدم في نتيجتها، وسارع بالشك في نزاهتها وحيدة لجانها وضباطها، رغم أن الحركة خاضتها بحماسة وقوة في كل مراحلها إلى حين فرز صناديق الاقتراع. وقد شهد المراقبون المحليون والدوليون بأنها كانت نظيفة وصحيحة إلى حدٍ كبير، خاصة إذا ما قورنت بانتخابات أبريل 2010م التي اتهمها الجميع بالتزوير عدا المؤتمر الوطني في الشمال والحركة الشعبية في الجنوب! ويتهم المؤتمر الحركة بأنها بيتت النية على رفض نتيجة الانتخابات حين رفعت شعار «النجمة أو الهجمة» ولكن شعار المؤتمر الوطني لم يكن أقل عنفاً «مولانا أو القيامة»!! ومن مصلحة الحركة الشعبية وولاية جنوب كردفان والتعايش السلمي فيها، بل ومن مصلحة تعزيز التداول السلمي للسلطة ومصلحة السودان قاطبة، أن تنتهي الاشتباكات في جنوب كردفان بأسرع ما يمكن، وأن يجلس الطرفان الرئيسان «أحمد هارون وعبد العزيز الحلو ومساعدوهم الأقربون من ذوي الاختصاص في الولاية» حول طاولة حوار مغلق في مقر الأممالمتحدة بعاصمة الولاية، ويطرحا للنقاش والتفاوض كل القضايا المتعلقة بالولاية مثل: وقف العدائيات، مراقبة وقف إطلاق النار، عودة الوحدات المشتركة إلى مقارها، انسحاب جانب الجيش الشعبي خارج الوحدات المشتركة إلى مواقعه الأولى جنوباً «بحيرة أبيض»، استيعاب أو تسريح أو دمج أبناء الولاية في الجيش الشعبي، تكوين حكومة الولاية بالتساوي بين الطرفين مع إشراك الأحزاب الكبيرة التي خاضت معهم الانتخابات، وضع برنامج خدمي وتنموي مشترك للحكومة، تنظيم المشورة الشعبية، الاتفاق على مخرجات المشورة الشعبية عبر المجلس التشريعي، المساهمة في دعم السلام والتعاون مع ولايات التماس الجنوبية، وتسهيل الحراك السكاني والحيواني بين الشمال والجنوب الخ.. وحبذا لو قفل أعضاء الفريقين تلفوناتهم خاصة في وجه المحادثات التي تأتي من الخرطوم أو جوبا! ويمكنهم أن يستعينوا بفريق وطني من الخبراء تمثله لجنة جامعة الخرطوم التي شكلها معهد أبحاث السلام ويقودها بكفاءة كل من د. الطيب حاج عطية ود. محمد محجوب هارون ود. جمعة كندة ود. حسن عابدين وب. عبد الغفار محمد أحمد. وسيكون ذلك أفضل بألف مرة من اشتباكات عبثية لن يكون فيها منتصر، بل الخراب والدمار للولاية التي يدعي الجميع الحرص على سلامها وتعايشها وتنميتها. وبعد أن يتوصل الفريقان لاتفاق حول كل تلك القضايا أو معظمها، يقومان بإعلانها في جنوب كردفان حتى تجد السند الشعبي من كل القوى السياسية التي تتطلع لتحقيق السلام، قبل أن يرفعاها إلى قيادة الحزبين في الخرطوم. وأضمن لهم ألا يلجأ طرف لمعارضتها، لأن السلام بالولاية يصب في مصلحة الجميع بما في ذلك القوات المسلحة ووزارة المالية والحكومة التي تريد تطبيع علاقاتها مع المجتمع الدولي، والمؤتمر الوطني المتهم بخطيئة انفصال الجنوب، وليس من مصلحته ارتكاب خطيئة أخرى. ألم تشهدوا «صقر الصقور» د. نافع تعلو وجهه ابتسامة جزلة عريضة بعد مقابلته وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون في أديس أبابا يوم الإثنين الماضي؟ لعله يريد تحسين علاقاته الدولية استعداداً لموقعه الأعلى الجديد في الجمهورية الثانية! وإذا تحقق ذلك الاتفاق الإقليمي القومي في جنوب كردفان، فإن كلاً من أحمد هارون وعبد العزيز الحلو يستحق جائزة نوبل السودانية للسلام، فلم لا يفعلان ذلك؟ إن الحركة الشعبية بجنوب كردفان تتمتع حالياً بموقف عسكري جيد ولكنه ليس دائماً، ومن الأفضل لها أن تسرع بعقد اتفاق مع نظيرها المؤتمر الوطني بالولاية في أقرب وقت، لأن الموقف الحالي لن يستمر طويلاً، بحكم قدرات الحكومة العسكرية وسيطرتها على كل طرق الإمداد لمواقع الجيش الشعبي، ولا ينبغي لها أن تعوِّل كثيراً على مساعدات تأتيها من حكومة الجنوب، فقد خبرت تجارب عديدة فاشلة من هذا الجانب. كما لا ينبغي للمؤتمر الوطني أن يسعى لشق الحركة الشعبية في جنوب كردفان أو في الشمال عامة حتى يضعفها لأنها تشكل أكبر قوة منظمة في وجهه، وتكفيه تجربة انشقاقات حركات دارفور المسلحة التي لم تحقق سلاماً حتى اليوم. والكرة حالياً في ملعب الفريق عبد العزيز الحلو الذي ينبغي أن يرسل رسالة واضحة بأنه يريد حلاً سلمياً للاشتباكات القائمة في جنوب كردفان، ويؤجل الحديث في الوقت الحاضر عن قضايا التحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، حتى تهدأ الأحوال وتنتقل البلاد بسلام إلى مرحلة ما بعد الانفصال وصناعة الدستور الجديد وقيام الجمهورية الثانية الموعودة. وسيجد الفريق الحلو وقتها أن هناك مؤيدين كثيرين لا يخطرون بباله اليوم، مستعدون للعمل معه لتعزيز التحول الديمقراطي وتداول السلطة سلمياً في البلاد، بل ويمكن للحلو أن يلعب دوراً كبيراً في تحقيق تعايش وتعاون بين الشمال والجنوب، وعندها سيصبح شخصية سياسية قومية لها وزنها في الساحة السياسية السودانية.