زار الخرطوم في الأيام القليلة الماضية وفد من الأحزاب السياسية بولاية جنوب كردفان، قال إنه يمثل نحو 14 تنظيماً، ويحمل رؤية لتحقيق الأمن والسلام والاستقرار بالولاية المأزومة يريد أن يسوقها لزعامات الخرطوم، وهي لا تختلف في كثير أو قليل عن رؤية الحكومة. ورغم العدد الكبير من التنظيمات التي يمثلها الوفد إلا أن الحركة الشعبية بالولاية غابت تماماً من عضوية الوفد، وعندما سألهم أحد أعضاء لجنة مبادرة جامعة الخرطوم حول جنوب كردفان عن سر غياب الحركة الشعبية عن وفدهم، وهي الطرف الآخر في المواجهة العسكرية الدائرة في الولاية منذ الخامس من يونيو والقوى السياسية الثانية بعد المؤتمر الوطني حسب نتائج انتخابات الولاية الأخيرة، رد أحدهم بجواب لا يخطر على بال وهو أنهم لم يجدوا أحداً في الولاية يمثل الحركة الشعبية (مرشحو الحركة في الولاية أكثر من 30 مرشحا ونالت من أصوات الناخبين حوالي 200 ألف ومع ذلك لم يجدوا أحدا يمثلها)! وقد لقي الوفد طريقه سالكاً لمقابلة قمة المسئولين في الدولة وكبار قيادات المؤتمر الوطني، ولم تخلُ مخاطبتهم للمسئولين في الدولة ولزعماء الأحزاب السياسية ورجال الإعلام من تحميل الحركة الشعبية الوزر عن كل ما جرى في الولاية من مواجهات واشتباكات تنفيذاً لتخطيط ومؤامرة بعيدة المدى حاكتها قوى أجنبية. وليس مستغرباً بهذا الطرح المتحيز أن جر الوفد على نفسه تهمة أنه صنيعة من صنائع المؤتمر الوطني في محاربة المعارضين له وقد عرف بهذا النهج منذ مجيئه للحكم عن طريق الانقلاب العسكري. وهو نهج أثبت فشله المرة بعد الأخرى خاصة عندما يتعلق الأمر بصناعة الأمن والسلام في بلد استنذفتها الحرب من أطرافها جنوبا وغربا وشرقا، وها هي البلد تستقبل جنوباً جديدا من النيل الأزرق إلى جنوب كردفان إلى دارفور. والسيناريو المتبع لدى السلطة في مواجهة حركات التمرد ضدها واحد لا يتغير يبدأ بمحاولة سحق الخصم بالقوة العسكرية التي يمتلك الآخر قدراً منها أيضاً ويتفوق على السلطة بأنه يحارب من أجل قضية جهوية عادلة مؤمن بها ومستعد للتضحية من أجلها بالنفس والنفيس، وتجد القضية تأييداً واسعاً لها من أبناء المنطقة المعنية. وعندما تكتشف الحكومة أن قواتها النظامية لا تفي بتحقيق النصر المطلوب على الخصم تلجأ لتجنيد المليشيات والمجموعات المرتزقة والفصائل المنشقة تستقوى بها على الخصم المحارب، ولكن المليشيات ومجموعات المرتزقة لا يهمها هزيمة التمرد بقدر ما يهمها تحقيق أجندتها الخاصة ومطامعها في ممتلكات وموارد مجموعة الخصم القبلية ولا ترعوي عن ارتكاب أحط الجرائم في تحقيق مطامعها، وتنتشر أخبار تلك الجرائم الصادقة منها والكاذبة في أنحاء الدنيا فتثير الرأي العام في أنحاء العالم وتتحرك منظمات ودول وهيئات دولية ضد الحكومة العسكرية المتطرفة المعزولة داخليا وخارجيا، وعندما تشدد عليها الضغوط الخارجية تثوب الحكومة إلى رشدها مرغمة تبحث عن حل سياسي ينقذ ماء وجهها من لعنات المجتمع الدولي، وفي سبيل ذلك تستجيب كارهة لكل ما كانت ترفضه من قبل. والوضع في جنوب كردفان يدل على أن العمليات العسكرية ما زالت دائرة بين الجيش الشعبي (قطاع جبال النوبة) والقوات المسلحة التي صدرت لها توجيهات رئاسية من منبر مسجد النور بكافوري بأن تلاحق وتسحق حركة التمرد التي يقودها «المجرم» عبد العزيز الحلو وتقبض عليه لتقديمه إلى المحاكمة. ولم يحقق الجيش ذلك الهدف حتى اليوم وليس من السهل على جيش نظامي مهما كان استعداده أن يقضي بصورة حاسمة على فصائل مسلحة تعمل بتكتيكات حرب العصابات داخل محيطها البشري المتعاطف معها وتستعصم بسلسلة من الجبال الوعرة. وتقول أخبار اليومين الماضيين أن وحدات الحركة الشعبية بالتعاون مع حركة العدل والمساواة هجمت على حامية (التيس) العسكرية جنوب غرب كادقلي في العاشر من هذا الشهر، وتضاربت الأنباء حول نتيجة المعركة من الطرفين ولكن مجرد الهجوم على حامية عسكرية يعني أن وحدات التمرد لا تزال فاعلة وقادرة على أخذ المبادرة، وهي تدعي أنها تسيطر على 5 محليات من جملة 19 محلية في الولاية وتقول السلطة إنها لا تسيطر على أكثر من ثلاث هي (هيبان وأم دورين وسلارا)، وأياً كانت المحليات أو المناطق التي تسيطر عليها الحركة الشعبية يبدو أنها قادرة على إثارة الاضطرابات وعدم الاستقرار في أنحاء الولاية. وبدأت تتسرب أخبار عن ممارسات غير منضبطة في جنوب كردفان من وحدات الدفاع الشعبي ومن مجاهدي المسيرية ومن مليشيات بيتر قديت، وانعكست تلك الأخبار في شكل اتهامات ضد الحكومة تصمها بالتطهير العرقي وبحفر مقابر جماعية لمن قتلتهم في جنوب كردفان وباستخدام الطعام سلاحاً ضد أبناء النوبة النازحين حين تمنع عنهم توصيل الإغاثة الإنسانية وبارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية. وسرعان ما توجهت الحركة الشعبية إلى المجتمع الدولي تطالب بتكوين لجنة دولية محايدة تحقق في الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان بجنوب كردفان، ولا شك أن الحركة ستجد من الدول والمنظمات الطوعية من يصدق تلك الاتهامات ويناصرها في تكوين لجنة للتحقيق التي سيعتبر رفضها من قبل الحكومة مؤشراً على صحة الانتهاكات. ولن تستطيع الحكومة مواجهة المحاصرة الدولية لها في ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في جنوب كردفان، وقد أثيرت ضدها مثل هذه الاتهامات في حرب جنوب السودان ثم في دارفور وما زالت تلاحقها عبر المحكمة الجنائية. أليس من الأفضل للحكومة أن تعالج المشكلة سياسياً على أساس الاتفاق الإطاري الذي توصل إليه الدكتور نافع مع السيد مالك عقار بحضور ثابو أمبيكي في 28 يونيو الماضي بأديس أببا بدلاً من اللجوء إلى القوة المسلحة بكل ما تعنيه من خراب ودمار وتدخل دولي في شؤون السودان؟