إذا مافشل الانتقال الديموقراطي في مصر وانتهجت البلاد شكلاً قمعياً، سلطوياً، أو ثيوقراطية (دينية)، فإن المضاعفات ستكون عميقة حقا. فالفشل في مصر سيدفع بلداناً أخرى في المنطقة إلى إدارة الظهر لفكرة الإصلاح الديموقراطي نفسها. بالطبع، الديموقراطية في البلدان الأخرى ستصعد أو تهبط استناداً إلى ظروف محلية. ومع ذلك، إذا مانجح التحوّل الديموقراطي في مصر، وإذا ماحاز هذا البلد على شكل حكومة ديموقراطية، وقابلة للمساءلة، وفعّالة، فمن المحتمل أن يُصبح نموذجاً قوياً، ويكون في خاتمة المطاف قوة استقرار في منطقة مُضّطربة. إن المظالم التي قادت إلى ثورة 25 يناير/كانون الثاني كانت سياسية أساسا. بيد أن المظالم الاقتصادية القديمة لعبت دوراً أيضا. فالانتخابات البرلمانية المزوّرة العام 2010، وإجراءات “الطواريء" القمعية التي دامت عقودا، وفقدان حرية التعبير والتجمّع، كل ذلك جرّد المصريين من حس الكرامة. وفي الوقت نفسه، أنحى المصريون باللائمة على حكومتهم بسبب الوتائر المرتفعة من الفقر، وبطالة الشباب، والفساد، والأمّية، والفروقات الحادة بين الأغنياء والفقراء. والواقع أن الحكومة المصرية، التي ستتشكّل في أواخر 2011 أو أوائل 2012، ستُواجه تحديات اقتصادية كبيرة. فعلاوة على ضرورة وضع الدين العام المرتفع والمتصاعد قيد السيطرة، سيكون على حكّام مصر الجدد أن يضمنوا بأن الاستثمارات، والنمو الاقتصادي، وتوفير فرص العمل، ستواكب المسارات الديموغرافية. وهذا سيتطلب توفير 700 ألف وظيفة جديدة، ومُنتجة، ومُستدامة كل عام في القطاع الخاص، لاستيعاب نمو القوة العاملة. ولأن الثورة اندلعت أيضاً بسبب الامتعاض الشعبي من محسوبيات حكم مبارك وفساده ، سيتوجب على الحكومة الجديدة المُنتخبة ديموقراطياً أن تنأى بنفسها عن مثل هذه الممارسات. مصر ليست فريدة عصرها في هذا المجال – الفساد مُستشرٍ في الدول النامية وشائع في البلدان المتقدمة-. تقليص الفساد يتطلب إدخال تغييرات عميقة في الثقافة كما في الحوافز الاقتصادية. ومع ذلك، يمكن اتخاذ بعض الإجراءات فوراً. وحكومة مصر الجديدة تستطيع أن تخلق آليات أفضل للسيطرة، والشفافية، والمساءلة، في سبيل التأكد من أن الفرص الاقتصادية لاتعتمد أساساً على االارتباطات السياسية. حتى الآن، كانت السياسات الاقتصادية للحكومة الانتقالية تتحرّك بحفز من اعتبارات شعبوية. وهذا أمر مفهوم، نظراً إلى الحقيقة بأن الحكومة ليس لها تفويض انتخابي وتُواجه توقعات شعبية كبيرة بأن الأمور ستتغيّر بسرعة نحو الأفضل. ومع ذلك، استمرار السياسات الراهنة بعد الانتخابات سيُسفر عن كارثة اقتصادية. إن عمليات الدعم الكبيرة مستمرة على رغم الإدراك واسع النطاق داخل مصر بأن هذه يجب أن تُقلّص وتُدار بشكل أكثر تحديدا. لا بل أن دعم المواد الغذائية زاد بهدف موازنة الارتفاع في أسعار السلع العالمية. كما أن بيروقراطية الدولة المتضخمة أصلاً والتي تضم ستة ملايين شخص، توسّعت بعد أن أُضيف 450 ألف عامل مؤقت إلى جداول الرواتب الدائمة. وفي الوقت نفسه، أثار رد الفعل الشعبي الحاد ضد محسوبية حقبة مبارك وفسادها موجة من التحقيقات الجنائية حول صفقات الأعمال في تلك الفترة؛ فقبل أواسط نيسان/إبريل، وصلت حالات الفساد التي طُلب التحقيق بها، وفق القيادة العسكرية المصرية، إلى 6000 حالة. عجلة تحقيقات الفساد تتباطأ، لكن لايزال ثمة خشية لدى قطاع رجال الأعمال من ملاحقات كيدية. وهذا أمر مثير لكثير من اللااستقرار. فهذه المحاكمات ذات الخلفية السياسية تُفاقم من مخاطر نزع الملكية وتُثبط كلاً من المستثمرين المحليين والأجانب. وكما الحال في كل الثورات، يُحتمل ألا تتحقق التوقعات الشعبية بتغيير فوري. وفي استطلاع أُجرته مؤسسة انترناشنال ريبابليك انستيتيوت International Republican Institute (IRI) ، قالت أغلبية ساحقة من المصريين (80 في المئة) إنها تتوقع أن يتحسّن الوضع المالي لأسرهم في غضون السنة المقبلة، فيما قال 32 في المئة إنهم يعتقدون أن الوضع سيكون “أفضل بكثير" عما هو عليه راهنا. كما أشار استطلاع آخر لغالوب Gallup أُجري في أوائل نيسان/إبريل إلى وجود موجة تفاؤل متنامية مماثلة في ما يتعلق بمستقبل البلاد. لكن، مالم تتحقق هذه التطلعات، فإن هاجس الأزمة الاقتصادية قد يُعزِّز صعود الشعبويين السلطويين، والسياسيين الإسلاميين الراديكاليين، أو يُسفر عن ردة إلى الحكم العسكري. هذا التقرير المُقتضب هو حصيلة رحلة استطلاعية إلى مصر قام بها مؤلفوه في أواسط حزيران/يونيو 2011، وهدفه هو المساعدة على بلورة الحوار حول اقتصاد مصر، والسياسة الاقتصادية، والمساعدة الدولية، من خلال التطرق إلى الأساطير العديدة المتواصلة حول الوضع الراهن. الخرافة الأولى: اقتصاد مصر حالة ميؤوس منها. على رغم أن مصر تُواجه تحديات اقتصادية خطيرة، إلا أن الوضع ليس فاجعاً كما يُصوّّر غالبا. فمصر لديها اقتصاد نشط ومتنوّع. وعلى عكس اقتصادات التخطيط المركزي لدول أوروبا الشرقية والوسطى في أوائل التسعينيات، لاتحتاج مصر إلى خلق أسواق حيث لاتوجد مثل هذه الأسواق. ثم أن قبل الثورة، تمتعت مصر بوتائر ثابتة من النمو الاقتصادي تراوحت بين 6 و7 في المئة في الفترة بين 2003 و2009. وقد نما الناتج المحلي الإجمالي، وفق معطيات البنك الدولي، بمعدل 7،4 في المئة في 2009 و3،5 في المئة في 2010، على الرغم من الأزمة المالية والاقتصادية العالمية. وهذا أداء لافت للنظر. وفي حين أن معدلات الفقر بقيت مرتفعة، أشارت معطيات المسح الأسري المُتوافرة إلى أنه لم تحدث زيادة في فجوة توزيع الأجور، مايشي بأن المكاسب من النمو الاقتصادي وُزّعت على نطاق واسع نسبياً. وعلى نحو منفصل، دلّت دراسات الفرص الاقتصادية بأن الفجوة بين المناطق المتقدمة والمتباطئة كانت تضيق في الواقع. قبل الثورة، كان معدل الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي على مسار انحداري: من 7،104 في المئة إلى 5، 80 في المئة، وهو معدل مرتفع مع ذلك في بلد نامٍ. لكن، وعلى عكس الأُمم المَدِينة إلى حد كبير، غالبية الدين المصري محلية، ولايتعدى معدل الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي 15 في المئة. إحصائياً، أهم قطاعات الاقتصاد هي الصناعات التحويلية، والتعدين، والزراعة، مايشي بصورة مختلفة للغاية عن تلك التي ترسمها الصحافة الشعبية التي تُلمح إلى أن الاقتصاد المصري يعتمد بالكامل على السياحة والحوالات المالية. ثم أن العائدات من العملات الأجنبية منوّعة هي الأخرى وتعتمد على هذه القطاعات وأيضاً على صادرات الزراعة والسلع الصناعية التحويلية ورسوم قناة السويس. على رغم أن النمو الاقتصادي لمصر قبل الثورة كان ملفتاً ، إلا أن البطالة بقيت رسمياً في حدود 10 في المئة؛ فيما كان التبطّل بين الشباب أعلى بكثير، وكان 20 في المئة تقريباً من السكان تحت خط الفقر. وقد ساعد النمو السريع على تقليص عبء الدين، لكن العجوزات المالية بقيت مرتفعة خلال عهد مبارك، حيث أنفقت الحكومة السابقة بغزارة على عمليات الدعم ووظائف القطاع العام، في محاولة أثبتت أنها عقيمة في خاتمة المطاف للحفاظ على الاستقرار. علاوة على ذلك، كانت البلاد منذ ثورة يناير 2011 تخسر من احتياطي العملات الأجنبية بوتائر مُنذرة بالخطر. وهكذا، فإن التحديات تتفاقم، والحكومة المؤقتة تتعرّض إلى ضغوط ضخمة كي تُنفق أكثر. كما أن المالية العامة تسير على طريق غير مستدام. الخرافة الثانية: حان الوقت للتركيز على السياسات. الإصلاحات الاقتصادية تستطيع أن تنتظر. اقتصاد مصر قادر على مواصلة النمو السريع إلى حد ما. لكن، لكي يكون هذا النمو مستداماً، ثمة حاجة إلى إصلاحات اقتصادية واسعة النطاق. بعض هذه الإصلاحات لاتستطيع ولايجب أن تنتظر. وإذا ماتم توضيح وتنفيذ هذه الإصلاحات على نحو سويّ، فقد تحصد دعماً شعبيا، بما في ذلك من جانب فقراء مصر. والواقع أن الإصلاحات التي تم تبينها في السنوات الأخيرة من حكم مبارك، كانت تُحقق نتائج طيبة. فالبلاد أحرزت تقدماً هاماً في مجال جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، وحسّنت بيئة العمل، وقلّصت عبء الدين العام، وولّدت النمو. لكن، وعلى رغم هذا التقدم الذي تحقق، بقي القطاع العام إلى حد كبير غير فعّال، وفاسد، وثقيل الوطأة في تدخلاته. ونتيجة لذلك، كان نحو 82 في المئة من قطاع الأعمال الخاصة يُدار بشكل غير رسمي، وفقاً للاقتصادي المصري سيد معوض أحمد عطية؛ هذا في حين أن دارسة في العام 2006 (Labor Market Panel Survey ) كشفت النقاب عن أن 61 في المئة من القوة العاملة المصرية ليست موظّفة رسميا. إن مواصلة برامج إصلاحية محددة طُبِّقت في عهد مبارك، على غرار خصخصة صناعات الدولة وتقليص عمالة القطاع العام، هو أمر غير عملي سياسياً في الوقت الراهن بسبب الطبيعة المؤقتة للحكومة ، وللرابط في أذهان الناس بين الفساد وبين برنامج الخصخصة. بيد أن الغضب الشعبي على المحاباة والمسحوبية في عهد مبارك يمكن وضعه قيد السيطرة عبر جعل القطاع العام أكثر شفافية ومساءلة. فالعديد من الإصلاحات، مثل استخدام عطاءات المناقصات المفتوحة لعقود الشراء العامة، أو النشر الأفضل والأكثر اتساقاً للمعلومات والمعطيات المتعلقة القطاع العام، قد لاتكلّف شيئاً تقريباً وقد تجلب فوائد جمة في فترة وجيزة من الزمن. علاوة على ذلك، يمكن تمكين الفقراء المصريين بسرعة إذا ما مُنحوا سندات قانونية لملكيتهم وشُجّعوا على الانضمام إلى الاقتصاد الرسمي. في العام 2004، وجدت دراسة للاقتصادي البيروفي هيرناندو دي سوتو Hernando de Soto أن 92 في المئة من المصريين يحوزون على ملكية عقار من دون سندات ملكية رسمية، مايجعلهم غير قادرين على استخدامها كضمان إضافي للقروض أو للدخول في مجال معايير العقود وقواعد إنفاذ القانون. وإذا ما تمّ أيضاً تقليص التكاليف والإجراءات في العمل داخل القطاع الرسمي، فهذا سيحسّن أكثر وضعية الفقراء. مصر تحتاج إلى إصلاح قانون الإفلاس، وتقليص الفترة والتكاليف المطلوبة لفتح وإغلاق الأعمال، وخفض تكاليف الاستخدام وإنهاء الخدمات؛ كما تحتاج إلى إصلاحات لحماية استقلالية التحقيقات القضائية حول الفساد والكسب غير المشروع. وفي حين أن بعض هذه الإصلاحات يمكن أن تكون مُرهقة تقنياً، وربما تُقاوم، إلا أنها لن تستهلك سوى قدر يسير من المال العام. وثمة قضية إصلاح أخرى قرر المصريون تنحيتها جانباً في المرحلة الراهنة، وهي المؤسسات الاقتصادية الكبيرة للجيش، والتي يُقدّر بأنها تشكّل ثُلث الاقتصاد برمته أو حتى أكثر. وفي ضوء الدور الأساسي الذي لعبه الجيش في الإطاحة بالرئيس السابق حسني مبارك، وكذلك في ضوء النزاعات السياسية المستمرة بين المحتجين والجيش، فقد استنتجت قوى الاحتجاج أن تحدي المصالح الاقتصادية للجيش أو اتهام الضباط بالفساد قد يكون قضية متفجّرة للغاية في هذه المرحلة. الخرافة الثالثة: المشاكل المالية الرئيسة- مثل دعم السلع- لايمكن معالجتها في أي وقت قريب. حتى مع وتيرة النمو النشط نسبياً لمصر، فإنه معدل الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بما يفوق ال80 في المئة وعجز الموازنة المرسوم بنسبة 6،8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2011/2012، لايمكن إدامتهما. فبدون سيطرة أكبر على العجز، ستبقى مصر عرضة للصدمات الداخلية والخارجية. ثم أن الحكومة قد تتعرّض لإغراء طباعة المال لتمويل نشاطاتها، الأمر الذي قد يؤدي إلى عدم استقرار في الاقتصاد الكلّي وارتفاع التضخم. إن الدين العام في مصر يُموَّل في معظمه محليا، فيما الدين الخارجي، لايُشكِّل، وفق معطيات المصرف المركزي، سوى 15-20 في المئة من إجمالي عبء الدين. ولذلك، فإن الدين له تأثير فوري على مدى توافر الأموال القابلة للإقراض طويل الأجل إلى القطاع الخاص، مايؤدي إلى استبعاد الاستثمار الخاص – وعلى وجه التحديد المؤسسات الصغيرة ومتوسطة الحجم التي قد تُواجه، على أي حال، صعوبات في الدخول إلى حقل الإئتمان. عمليات الدعم العشوائي للأسعار، خاصة سعر الوقود، تمتص قسماً كبيراً من إجمالي إنفاق الحكومة، ومشكلة العجز لايمكن حلّها دون معالجة هذه السياسات. فالدعم وسيلة مُبذِّرة وغير فعالة لمساعدة الفقراء المصريين؛ ثم أن معظم الفوائد تعود إلى الطبقة الوسطى والميسورين. وقد وجدت دراسة للبنك الدولي أن الميسورين المصريين حصدوا ضعف نسبة الدعم التي تلقاها الفقراء المصريون. وبالتالي، إصلاح عملية دعم الوقود أكثر إلحاحاً وأكثر قابلية للتنفيذ سياسياً من العمل على عمليات أصغر بكثير لكنها فائقة الحساسية مثل دعم المواد الغذائية. والحال أن الحكومة الانتقالية تُدرك ذلك، وهذا يتجلى في قيامها بإجراء خفوضات صغيرة على دعم الوقود في الموازنة المعدّلة التي أُقرّت في حزيران/يونيو. هذه التغييرات ستقلِّص دعم غاز البيوتان إلى المستخدمين غير المقيمين، وتمد شبكة الغاز الطبيعي إلى بعض المصانع المستهلكة للبيوتان مثل مصانع الطوب. وتقدّر التوفيرات التي ستدرّها هذه الإجراءات بنحو 580 مليون دولار (5،3 مليار جنيه مصري) خلال السنة المقبلة. بيد أن هذه الخفوضات هي خطوة صغيرة للغاية في الاتجاه الصحيح. ففي موازنة 2011/2012 المُعدّلة، تم رصد 8، 16 مليار دولار (5،100 مليار جنيه مصري) – أي أكثر من 20 في المئة من أجمالي إنفاق الحكومة و6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي- لدعم الوقود والكهرباء؛ هذا في حين أن 6، 9 مليار دولار (2،57 بليون جنيه مصري) ستذهب لتمويل عمليات دعم ومنح أخرى، لايُمثِّل فيها دعم المواد الغذائية، وفق المركز المصري للدراسات الاقتصادية، سوى شطر صغير. وعلى سبيل المثال، في السنة المالية 2010/2011 ، بلغت الكلفة الإجمالية لدعم المواد الغذائية 3،2 مليار دولار (5، 13 بليون جنيه مصري). إن استبدال الدعم التنازلي بنظام مساعدة يستهدف بشكل واضح الفقراء، قادر على تصحيح هذا التشويه ويمكن أن يُثبت أنه له جاذبية سياسية. فصانعو السياسة المصريون يمكن أن يتعلموا من تجارب بلدان أخرى- بما في ذلك الأردن (1991-1999) والمكسيك (1997) والهند (1997)- وهي دول استبدلت بنجاح الدعم العشوائي ببرامج بديلة مُصمّمة لتخفيف الفقر. بالطبع، مثل هذه الخطوة ستكون متّسقة مع الرغبة بتحقيق عدالة اجتماعية أكبر، وهي مسألة هامة للثورة. ويتعيّن على الإصلاحيين أن يضعوا بعين الاعتبار أن مختلف عمليات دعم الوقود تؤثّر بشكل مختلف على الفقر. وقد وجد تقرير البنك الدولي أن إلغاء دعم الوقود والغاز الطبيعي ستكون له تأثيرات ضئيلة فقط على الفقراء، إذ هو يزيد حالات الفقر بنسبة 15،0 في المئة. وفي المقابل، فإن الإلغاء الكلي لدعم الغاز البترولي المُسيَّل قد يرفع حالات الفقر بنسبة 4،4 في المئة. واستنتجت الدراسة نفسها بأنه إذا ماتم إلغاء الدعم بالتدريج، وإذا ماترافق ذلك مع تعزيز شبكة الأمان الاجتماعية، سيكون بالمقدور استئصال الزيادة في الفقر بالكامل. يتعيّن على الحكومة المصرية أن تتحرّك نحو تحديد مجموعات الدخل المُنخفض وتوجيه الدفعات النقدية أوالدعم إليهم. ويمكن هنا استخدام وسائل عديدة لاستطلاع الموارد. والحال أن التدقيق في استهلاك الكهرباء هو أكثر التجارب أساسية، هذا في حين يمكن أن تتضمن تجارب مفصلة أخرى معلومات يتم جمعها من خلال وسيلة الإحصاء أو من خلال تطبيقات وفق الطلب. في الماضي، كان الإصلاحيون يترددون في خفض دعم الأسعار تحسّباً لحملات القوى الراسخة التي هي المستفيد الأكبر من النظام الراهن. وهؤلاء ليسوا الفقراء، بل مستهلكو الطاقة الميسورين نسبياً والشركات المنخرطة بشكل مباشر في انتاج وتوزيع سلع الوقود والمواد الغذائية المدعومة. لكن من شأن حكومة جديدة حائزة على تفويض انتخابي أن تجد نفسها في موقف أقوى من الحكومة الانتقالية لمواجهة هذه القضايا الشائكة. الخرافة الرابعة: الحكومة المصرية في حاجة إلى دعم عاجل للموازنة في أيار/مايو، تعهدت مجموعة الثماني الكبار بتقديم 20 مليار دولار كمساعدات لمصر من كل المصادر، بهدف دعم عملية الانتقال الديموقراطي. بيد أن الحكومة الانتقالية فاجأت المانحين الدوليين في أواخر حزيران/يونيو برفضها بعض الدعم الهام الموعود للموازنة، استناداً إلى أن هذه المساعدة لم تعد ضرورية. وقد عمد المجلس العسكري الحاكم المصري، الذي أعرب عن عدم ارتياحه للقروض الكبيرة التي عرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، إلى حمل الحكومة على إعادة النظر مجدداً في مسودة الموازنة؛ لأن المسودة الأوّلية كانت تتضمن إنفاقاً كثيفاً على الرفاه الاجتماعي. قلّصت الموازنة الجديدة النفقات بنسبة 4،7 في المئة مقارنة بالموازنة السابقة، ماسمح للحكومة بتنقيح وخفض العجز المتوقع من 11 في المئة إلى 6،8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وإضافة إلى خفض النفقات، باتت الموازنة الجديدة تعتمد بكثافة أكثر على الاقتراض المحلي. وعلاوة على النفور من أي نوع من الشروط، قد تكون التعهدات الهامة بالمساعدات من الحكومات العربية، عاملاً ساهم في التغيير المفاجيء لموقف المجلس العسكري إزاء الحاجة إلى قروض من المؤسسات المالية الدولية. قدّمت الدول العربية، بما في ذلك السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة، تعهدات كبيرة- بلغت بالإجمال 18 مليار دولار- . بعض هذه التعهدات كان أكثر تحديداً من غيره. فالسعودية وعدت بمساعدات بقيمة 5،4 مليار دولار، تشمل 500 مليون دولار نقداً لدعم الموازنة، ومليار دولار كوديعة في المصرف المركزي المصري، و750 مليون دولار في شكل قروض ميّسرة الشروط من الصندوق السعودي للتنمية، وخط إئتمان بقيمة 750 مليون دولار لتمويل المستوردات السعودية، و250 مليون دولار قروضاً للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. وفي أوائل تموز/يوليو وعدت دولة الإمارات بما مجمله 3 مليارات دولار، على أن يُخصص نصف هذا المبلغ لخلق فرص عمل للشبان والباقي للإسكان ومشاريع أخرى. أما قطر فقد قدمت عرضاً ضخماً، وإن غير محدد، بقيمة 10 مليارات دولار، 500 مليون منه في شكل منحة نقدية. لن تتضمن المساعدات من الدول الخليجية سوى القليل أو لاشيء من معايير الإصلاح التي تأتي عادة مع المساعدة الغربية. بيد أن المانحين الخليجيين، مع ذلك، ليسوا دوماً جديرين بالثقة كما نظرائهم الغربيين في مجال الوفاء بالتعهدات. المساعدات من الولاياتالمتحدة، التي كانت تاريخياً أكبر مانح لمصر، ستشمل مليار دولار في شكل تبادل ديون (من أصل إجمالي دين للولايات المتحدة قدره أكثر من 3 مليارات دولار)، وقروض من مؤسسةOverseas Private Investment Corporation (OPIC) ، إضافة إلى برنامج المساعدات السنوية العادية التي تبلغ 3،1 مليار دولار كمساعدات عسكرية و250 مليون دولار مساعدات اقتصادية. وقد وضع السيناتوران كيري وماكين مشروع قانون يؤيده الحزبان الديموقراطي والجمهوري لإنشاء صندوق لدعم المشاريع عالية المخاطر في القطاع الخاص المصري. تمويل بداية التشغيل في هذا المشروع سيكون 80 مليون دولار من المساعدات التي تعيد الحكومة الأميركية إعادة برمجتها، على أن يتم جذب أضعاف هذا المبلغ من القطاع الخاص الأميركي. وبالمثل، كانت المساعدات الأوروبية لمصر متواضعة حتى الآن. فألمانيا وافقت على شطب ربع دين مصر البالغ 7،4 مليار دولار، وسيتم تبادل دين آخر بمساعدات صحية لأثيوبيا. والمملكة المتحدة تُخطط لتقديم نحو 180 مليون دولار كمساعدات لدعم الانتقال الديموقراطي في مصر وتونس وبعض الدول العربية التي تشهد إصلاحات. والبنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية The European Bank for Reconstruction and Development أعلن عن نيته استثمار 5، 3 مليار دولار سنوياً في المنطقة، فيما رصد الاتحاد الأوروبي مبلغاً إضافياً قدره 57،1 مليار دولار كمساعدات تنمية لتوسيع “سياسة الجيرة الأوروبية" European Neighborhood Policy (ENP), التي ينتهجها والتي تنطبق على 16 دولة بما في ذلك مصر. الخرافة الخامسة: المجتمع الدولي فعل كل مافي وسعه لمساعدة عملية الانتقال. الإصلاحات بعيدة المدى التي ستُنشِّط نمو القطاع الخاص وتنشر الفرص الاقتصادية ستكون العمود الفقري للانتقال الديموقراطي الناجح في مصر. لكن، حتى الآن تجاوب الأسرة الدولية، وعلى الأخص الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، كان متواضعاً للغاية إذا ما قسناه بأهمية مصر وبحجم التغيير الجاري على قدم وساق في المنطقة. وفي حين أن التقديمات الصغيرة نسبياً من المساعدات النقدية لدعم الحكومة المصرية مفهومة، نظراً إلى القيود الحالية على الموازنة، إلا أنه يتعيّن على الأسرة الدولية أن تغتنم فرصة هذه اللحظة الفريدة لترقية الإصلاحات. أفضل طريقة للولايات المتحدة وأوروبا لتفعلا ذلك ستكون عرض آفاق التجارة المتوسّعة. إذ لطالما سعت مصر إلى إبرام اتفاقية تجارة حرّة مع الولاياتالمتحدة. وعلى رغم أن لديها اتفاقية ارتباط مع الاتحاد الأوروبي، إلا أنه لاتزال ثمة عقبات كبيرة وهامة تعترض سبيل صادرات المنتوجات المصرية إلى أوروبا، وأمام المداخل للعمال المهرة. وعلى رغم التعب الراهن من الاتفاقات التجارية في واشنطن، إلا أن اتفاقية تجارة حرة مع مصر ستكون أفضل وسيلة لإبداء اهتمام عميق ومتواصل من قِبَل الولاياتالمتحدة بنجاح عملية الانتقال المصرية، بشكل مترادف مع اتفاقية موازية أعمق وأكثر شمولية يعرضها الاتحاد الأوروبي. ثم أن التطويرات الإضافية لتأهيل المناطق الصناعية برعاية الولاياتالمتحدة – خاصة في المناطق المتأخرة في مصر العليا- سيساعد أيضاً، بيد أن هذا ثاني أفضل خيار واضح للاتفاقيات التجارية الشاملة المطلوبة والتي تساعد على دعم الإصلاحات بعيدة المدى داخل مصر. يتعيّن أن تكون اتفاقات التجارة المستقبلية مع مصر مُصمّمة لزيادة ولوج الزراعة المصرية والصناعات التحويلية كثيفة العمالة إلى الأسواق الأميركية والأوروبية، ولتسهيل شروط قواعد المنشأ. مثل هذه الاتفاقات يجب أيضاً أن تُشدد على السياسات التي تزيد من حراك العمال داخل مصر، وتُحرِّر صناعاتها التحويلية والخدماتية، وتحسِّن تنافسية السوق في البلاد. وقد تشمل الاتفاقات الشاملة إصلاحات في مصر لتسهيل التنافس في الخدمات وزيادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة. كما قد تشمل أيضاً دعم التسهيلات التجارية في مصر، بما في ذلك الاستثمارات في التجارة والبنى التحتية للنقل. علاوة على ذلك، يمكن للمانحين أن يساعدوا عملية الانتقال من خلال مشاريع تُطوِّر المؤسسات الديموقراطية، وتبني قدرات صنع السياسات، وتدعم القطاع الخاص، وتولّد الوظائف. بالطبع، لايستطيع المجتمع الدولي أن يساعد مصر إلا في المناطق التي يريد المصريون أن يعملوا ويطلبون المساعدة فيها. وفي ما يلي أمثلة عن المبادرات التي قد يدعمها المصريون: المصريون قد يفيدون من المساعدة التقنية المضاعفة، خاصة في المجالات التي تُحسِّن بيئة العمل وتُعزِّز قدرة مصر على جذب كلٍ من الاستثمارات المحلية والأجنبية. هذه المجالات تشمل الهيئة القضائية، القانون التجاري، إجراءات الإفلاس، أسواق العمل، وإصلاح الإعلام. لأن إصلاح نظام دعم الأسعار هام للغاية، يجب على المجتمع الدولي أن يبذل جهداً خاصاً لتزويد المصريين بخبرة أجزاء أخرى من العالم النامي في مجال استطلاع الموارد وفي مختلف الوسائل التي تستخدم لاستهداف أولئك الذين هم الأكثر حاجة إلى المساعدة الاجتماعية. الاستثمارات الخاصة- العامة المُصمّمة لإعادة بناء وتطوير المناطق التي تحتلها حالياً أحزمة البؤس المدينية، هي مبادرة واعدة أخرى لها فوائد أساسية بعيدة المدى للتنمية، خاصة حيث هذه الأحزمة موجودة في مناطق مرغوب بها تجاريا. ويمكن للقروض المُقدَّمة إلى مشاريع إعادة تنمية أحزمة الفقر أن تكون استثمارات آمنة نسبياً وعالية المردود، هذا مع فوائد اجتماعية أخرى تعود لصالح الفقراء المصريين. المساعدات التي تستهدف مصر العليا، حيث معدلات الفقر هي الأخطر، يمكن أن تكون لها تأثيرات عميقة. فالأموال يمكن أن تُستعمل لتطوير البنى التحتية الضرورية ولربط المُنتجين الزراعيين المحليين بكل من المراكز المدينية الرئيسة والأسواق الدولية. كما قد تستفيد التنمية الريفية في مصر العليا إلى حد كبير من تخفيف القيود التجارية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على الواردات من الفاكهة الطازجة والخضروات من مصر. إن التحرير التجاري قد يجعل تأثيرات فوائد مساعدات التنمية متطابقة مع نمو المشاريع التجارية القابلة للحياة والتطور في منطقة مصر العليا. وأخيراً، فإن المجتمع المدني، والنقاشات العامة المفتوحة، والصحافة المستقلة، كلها عوامل حاسمة لنجاح الاقتصاد، كما لنجاح عملية الانتقال السياسي. وفي حين أن العديد من المقارنات بين عمليات الانتقال في أوروبا الشرقية والوسطى في أوائل التسعينيات وبين مصر في العام 2011 مُضللة، إلا أن ثمة درساً يبقى وجيهاً: لايُحتمل أن ينجح الانتقال إلى الديموقراطية واقتصاد السوق الحر دون دعم شعبي واسع وأيضاً دون فهم شعبي لطبيعته وأهميته. وهذا لايمكن أن يحدث إلا في سياق مجتمع مدني حيوي ينخرط في الحوار الذي يسمح بامتلاك أوسع للاقتصاد وللإصلاحات السياسية المرتقبة. والمجتمع الدولي يمكنه/ويجب أن يدعم نقل الخبرات من أجزاء أخرى من العالم- وليس فقط من أوروبا الشرقية بل أيضاً من أميركا الجنوبية وتركيا والهند- إلى مصر، في مجال تطوير المؤسسات الضرورية لإطلاق النقاشات العامة. المقال منشور بالتعاون مع مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org معهد ليغاتوم البريطاني للدراسات الاستراتيجية