“الساحرة”..هكذا كان زوجها يداعبها بحب، فهو لا يدرى كيف يكون باستطاعتها تدبير النقود القليلة لديهما ليخرجوا صباح العيد مرتدين أفضل الملابس وبيتهم لا ينقصه شيء، كانت “الساحرة” تبدأ فى توفير القليل جداً من نقود مصاريفها فبدلاً من الفطور في المكتب تكتفي بكوب شاي سادة وبدلاً من ركوب “الركشة “تقطع المشاوير القصيرة مشياً ، وبدلاً من المجاملة بعشرة جنيه تجامل بخمسة ، وكثيراً ما تضطر للمس كول لعدم شحن موبايلها ، متحملة نظرات صديقاتها المستنكرة وتعليقاتهم المغلفة، وقبل العيد بشهر أو أكثر تكون قد بحثت فى الأسواق عشرات المرات ونقبت مكتشفة أفضل الخيارات جودة وسعراً ومن ثم تبدأ في شراء أهم احتياجاتهم وتضع قائمة تفصيلية بالأولويات وبعد ان تكمل شراء كل الاحتياجات، تعد أصناف الطعام بأقل خسائر ” فما تخرجه من خضار الأسود لعمل المحشى يمكن أن يصنع سلطة اسود فلماذا تلقيه بالزبالة؟ وطبيخ القرع يعنى وجود علبة مربى قرع صغيرة!و…” وفى يوم الوقفة تكون قد أكملت كل أعمال منزلها وتجلس تضع حناء “سادة” فلقد أدعت منذ زمن لقريباتها ومعارفها ان الصبغة والنشادر يصيبانها بالحساسية ورغم رغبتها فى الأشكال الجميلة المنقوشة إلا أنها لا يمكن أن تغامر بعمل الحنة بالكوافير ذو الأسعار الغالية، كانت تجلس منتصرة وسعيدة بأنها قاتلت غلاء السوق واستطاعت أن تقتلع أهم احتياجات أطفالها وزوجها، وكان زوجها يشعر بامتنان كبير رغم انه لا يعرف تفاصيل ما تقوم به لتوفير احتياجاتهم ، ولكنه كان يلحظ راحة باله قياساً بهموم أصدقائه وزملائه، وما لم يكن الزوج يلاحظه قط إن زوجته في كل عيد كانت تشترى لنفسها شيء وحيد ..سفنجة..!! امتلأت الشاشة بالخطوط الحمراء تحت الكلمات التي كانت تقوم بطباعتها ، لم تكن تنظر للشاشة ، كانت منشغلة بهمها في تدبير احتياجات العيد، فلقد أخطرها زوجها قبل أيام بوضوح وحسم انه لا يود أن يسمع شيئا حول ملابس العيد أو” الملايات” فيكفيه الخروف الذي سيقصم ظهره، أعطت الكمبيوتر أمر الطباعة دون أن تراجع محتوى الخطاب الذي طلبه رئيسها ، أبعدت الورقة التي كتبت فيها احتياجات أطفالها، ووقفت لتدخل الخطاب لرئيسها ، سمعت تعنيفه وزجره لها من كثرة الأخطاء في الخطاب وانتظرت أن يكتب تعديلاته دون أن تقول شيئاً حملت الخطاب المعدل وجلست خلف الكمبيوتر متأففة فلولا انتظارها لصرف المنحة أو “العيدية” ما كان رئيسها سيراها أبداً هذه الأيام فبيتها لم تتم نظافته بعد وتحتاج للكثير من السوق و…ظلت تتابع تفكيرها .. رجعت للمنزل وتابعت عملها المنزلي وهى لازالت منشغلة الذهن فالمفاضلة صعبة إذ يجب أن تختار إما شراء ملابس للأطفال أو شراء احتياجات الخروف “الزيت والبهارات والخضروات” فلقد كان زوجها واضحاً: أنا الخروف الدايراهو ده بجيبو لكن خليك عارفة بجيك داخل برجليه براهو ،لا وراهو باقة زيت ولا ربطة خضار..” لقد كان يصر على عدم استطاعتهم وانه يجب عليهم قضاء العيد دون خروف حال الكثيرين مثلهم. لكنها رفضت بشدة وعندما يئست من إقناعه أدعت الغضب ولكنه تجاهلها تماماً ومن ثم غضبت بالفعل فلاحقته بغرف البيت تذكره ببكاء أطفالهم العام الماضي لأنهم لم يجدوا خروفهم كالآخرين، كانت تهتم كثيراً بمشاعر أطفالها ولا ترغب بان يشعروا بالحرمان ، بعد جدل طويل قدم آخر تنازل لديه بان يحضر الخروف فقط ولا يكون مسئولاً عن أي مصاريف أخرى حتى آخر الشهر. وافقت مجبرة ، وهى تأوي لفراشها تذكرت صديقتها القادمة من خارج البلاد .. كيف فاتتها فكرة الاستدانة منها فهي الوحيدة التي لن يكون لديها مشكلة فى مساعدتها وباستطاعتها تسديد الدين بإرهاق نفسها بقبول بعض طلبات الطباعة الإضافية بعد دوام العمل اتصلت بها مباشرة واتفقت معها أن تسدد الدين لأمها بدلاً عن إرساله لها ، شكرتها بشدة، أغلقت الموبايل واحتضنت طفلتها ونامت بعمق.. الله اكبر لا اله إلا لله ..الله اكبر ولله الحمد.. اختلطت أصوات المؤذنين بأصوات خراف الجيران .. تحاملت على نفسها للاستيقاظ فلقد كانت ساهرة حتى الثالثة صباحاً تقريباً أيقظت أطفالها بفرح لم يستيقظوا متذمرين كعادتهم بل انطلقوا بفرح نحو الحمام للاغتسال كانت قد سبقتهم واعدت الشاي بالبسكويت المنزلي الذي صنعته قبل أيام، ارتدت ملابسها وتعطرت ووقفت تساعدهم وأبوهم في ارتداء الملابس، انطلقوا مباركين للجيران وللصلاة ، ارتدت ثوبها ودخلت للجارات القريبات مباركة للعيد، رجعت وأغلقت الباب بعد ان تأكدت من إغلاق الصنابير والكهرباء وانطلقت للشارع لعربتهم حيث أولادها بانتظارها فلقد كانوا يذهبون لذبح خروفهم لدى منزل أسرتها ليسعدوا أمها الأرملة بوجودهم ، مرت على بيوت الأهل والجيران فى حيهم مباركة، وضحكت لممازحة جدتهم لها بأنها “ام تلاته ارواح ” فلقد كانت الجدة ترى فى عملها ودراستها العليا بالإضافة إلى رعايتها لأسرتها دليل على انها مسكونة بأرواح أخرى تساعدها” روح للمكتب وروح للشغل وروح للقراية “، ركضت لمنزل أمها لأنها لمحت أخوها قادماً من المسجد برفقة الجزار ، قطعت لحم الخروفين ووضعت الشواء بالنار وانطلقت تعد الصواني ، بعد أن تناول الجميع الفطور والشاي واصلت عمل الغداء، وجلست تنظف أمعاء الخروفين لعمل “الكمونية” استحمت حوالي السادسة تنبهت لأنها لم تتناول شيئا فصنعت ساندونش جبن وجلست تأكله مع كوب شاي وقبل أن تكمله دخل بعض الضيوف فبرد الشاى وتكاسلت من عمل شاى آخر. فى اليوم الثانى ذهبت لمساعدة والدة زوجها وتكرر نفس السيناريو المرهق، وفى اليوم الثالث وقفت طوال اليوم مع أختها ذات الأطفال فى خروفها، فى اليوم الرابع رجعت لمنزلها وهى تشعر بوجع في كل أنحاء جسدها، تجاهلت نظرات زوجها وتوجهت للفراش بعد لحظات كان قد لحق بها ، تيقظت منهكة أكثر ووقفت تطبخ “طبيخ الأسبوع” لان العمل سيبدأ فى الغد وغسلت ملابس أطفالها ، كان زوجها ممداً أمام التلفاز متذمراً من ضعف البرامج ساخراً من المذيعات المتلعثمات، نظرته بحسد فلقد قضى فعلاً إجازة عيد مريحة.. اتصل بها احد زملائها مهنئاً بالعيد غيرت وضع التلفون ليدها اليسرى فلقد كانت يدها اليمنى تؤلمها بشدة، جاءها صوت زميلها مترعاً بالاسترخاء سألها بملل : مش الأجازة دى طويلة اكتر من اللازم .. زهجنا من النوم! لم تعرف بماذا تجيبه .. استدعت” أرواحها التلاتة” فلم يستجبن كن مرهقات بحيث لا يقوين حتى على الكلام. إن توزيع الأدوار في الأعياد هي إحدى النماذج الواضحة على القسمة غير العادلة التي تعانى منها النساء اللاتي يكون نصيبهن الرهق وتدبير وتقنين المنصرفات ويكون الاستمتاع حتى ولو الجزئي من نصيب الرجال، ورغم ظلم هذه القسمة إلا إن الرغبة في العطاء والإيثار لدى النساء تحولها إلى ميزة لصالحهن، فهي تعودهن على عدم الأنانية والتقوقع في رغبات الذات، كما إن الرغبة فى إسعاد الآخرين وخصوصاً الزوج والأبناء هي دليل على طاقة حب نادرة ومميزة. قطعاً لقد تأثر الرجال كما النساء بالتغيير الكبير الذي حدث في عاداتنا بالاحتفال بالعيد ، فمع نمو وحش الاستهلاك البذخى صار العيد مناسبة تجلب الهم والقلق وليس مناسبة مسعدة ومبهجة ولكن وفى أطار هذا الهم المشترك يقع العب الذهني والجسدي الأكبر على عاتق النساء. ولا تطالب النساء أكثر من الشعور بالامتنان لأنهن ورغم رهقهن يجدن متعة في العطاء وتستمتع أحداهن ” بسفنجة ” لأنها تشعر بان توفير ثمن الحذاء كان سبباً فى ضحكات طفلها السعيدة بلعبة العيد الجديدة، لذا فلنسمع بعض الاعتراف بقدرتنا على العطاء التي لا يملكها الآخرين وبدلاً عن الأصوات المؤنبة لتأخير الفطور ليتنا نسمع بعض كلمات أو إشارات الشكر والتقدير. فعيد سعيد لكل الأمهات اللاتي شققن الأسواق المزدحمة باحثات عن لبسه أو حذاء ..عيد أكثر رحمة بكن وبعطائكن غير المحدود.. عيد سعيد لكل الفتيات اللاتي وفرن من مصاريفهن لشراء فوطة لتربيزة أو تحفة لتزيين البيت،ولكل الجدات اللاتى جلسن يدعون أفضل الدعوات مضمخات البيوت بفرح صادق، ولكل من أمسكت “بسعافة” تنظف سقف بيتها، ومن أمسكت “بمقشاشتها” تكنس الشارع أمام دارها.. عيد قادم أسعد لكل النساء “الدارفوريات” القابعات فى المعسكرات مجترات ذكريات حلوة عن أعياد بعيدة قضينها مع الأحباب ووسط الأهل.. وعيد أفضل لكل من أتاها العيد وهى حزينة وغير سعيدة.. عيداً أسعد عليكن اخواتى الساحرات وأمات التلاته أرواح . هادية حسب الله [email protected]