مشاد ترحب بموافقة مجلس الأمن على مناقشة عدوان الإمارات وحلفائها على السودان    مركز الملك سلمان للإغاثة يدشن تسليم الدفعة الثانية من الأجهزة الطبية    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    لجنة تسييرية وكارثة جداوية؟!!    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    المريخ يتدرب بالصالة    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين جمهوريتى قرنق .. والبشير السودان .. وطنٌ يَتَخَوْلق
نشر في حريات يوم 05 - 08 - 2011


[email protected]
يونيو 2011
عَنَّ لنا؛ وإتفاقية السلام الشامل الموقعة بين الحركة الشعبية/الجيش الشعبى لتحرير السودان وحكومة السودان، التى وضعت حداً لأطول معاناة إنسانية وتؤشر لبداية مرحلة جديدة، عَنَّ لنا تأمل التجربة وإستقراء دروسها الكثر علية خلفية أطروحة جمهوريتان، الأولى إفتراضية متخيلة ما إنفكت فى طور التخليق، طرحها وسعى لخلقها الراحل فى مسام الخلايا حضوراً المفكر قرنق، والأخرى موجودة عبر، ودافع عنها الرئيس البشير ومن شايعهما من دعاة السودان الجديد وحماة السودان القديم.
تحت جسر الدعوة لتَيْنَك الجمهوريتين جرت الكثير من المياه التى إمتحنت صدقية المشروعين قبل وبعد التوقيع على الإتفاقية التى تشارف الإنتهاء فيما ينيف عن بضع أيام من هذا الآن من تسطير هذا الإستقراء. الإمتحان السابق للإتفاقية تَمحوّر حول العديد من المحاولات الهادفة إلى إحتلال الفضاء السياسى المتأزم الذى أدى إلى بروز الحركة الشعبية/الجيش الشعبى لتحرير السودان، وسطو الجبهة القومية الإسلامية المسلح على السلطة المدنية بآخرة لكيما يتمكن كليهما من بناء الجمهورية التى يتغيأنِها كلٍ على حدى. لحسم تنافس مشروعى الجمهوريتين فى مباراة العلمنة والأسلمة؛ شارك الجميع ضد الجميع فى إستجاشة المشاعر بهدف إستمالة بعضها ضد البعض الآخر. فى تلك المبارة لم تحايد الصحافة لجهة دروها الرسالى والمعرفى، كما أنها لم تنحاز بشرف ينضاف لدورها “المهنى” المفترض فى الترويج والإنتصار لفكرة ما، فتنكبت طريقها وأربكت الرأى العام فى تناولها لقضاياه وأنتهت، بقصد منها أو بغيره؛ إلى إعمال مشرط سلطتها سلباً فى تمزيق وشيجة الوطن وأوصاله فى السانحة الأخيرة التى توفرت له لكيما يكون واحداً بطوع أهله، فاستأهلت ما يُطلق عليها فى القاموس الشعبى “كلام جرايد”.
التجربة المعنية، طبيعة الجمهوريتان وما جرى بينهما من مياه قبل وبعد توقيع إتفاقية السلام الشامل، بالإضافة إلى ضلال الصحافة وتوهانها فى تلك المياه، هى موضوعات هذه المقالة الرئيسة التى نحاول إجتلاء حقائقها على خلفية السانحة الأخيرة، وإستنكاه التحديات التى تنتظر هذا الفريق أو ذاك والمُشايعة من خلفهما عند مفترق ناصية يوليو الوشيك.
الجمهورية المَنْعِيَّة .. والصراع السياسى
جمهورية السودان الأولى إصطنعتها الصفوة السياسية التى تَوارثت الحكم من دولة الإستعمار المصرى الإنجليزى إجترحت الكثير من الأخطاء البنيوية structural faults والتى قادت بآخرة إلى تشكيل وخولقة الجمهورية الحالية. تسع وثلاثون عاماً من أصل خمسة وخمسين هى عمر الجمهورية الحالية مند أن نالت إستقلالها فى 1956، أنفقتها فى صراع/حوار سياسى مسلح بينها وبين مواطنيها المدافعين عن حقهم الطبيعى فى الحياة وعن حقهم فى أن يكونوا آخرين مختلفين، لا أن يتلبسوا القالب الذى أرادتهم الجمهورية أن يكونوه. نزع الإستعمار الأجنبى إلى تقسيم الجمهورية بما يحفظ ويخدم مصلحته العليا فى إطار صراع الدول الأوروبية المستعمرة فى القرن التاسع عشر، على غرار الدول الإفريقية الأخرى. ساهم ذلك الصراع فى ترسيم الحدود الإدارية والديموغرافية ووجدت القوميات الأصلية التى تساكنت تلك المناطق نفسها مع بعضها البعض على الرغم من إختلاف الثقافات والخلفيات العرقية. أيضاً لم يكن من بين أوليات المجموعات السياسية والإجتماعية التى تَوارثت الحكم من المستعمر بناء أمة ذات لحمة قومية، بل على العكس من ذلك ذهبوا إلى تجذير سياسات التعصب والمَيْز العرقى، الإجتماعى والدينى. إذن؛ ماهى تلك الصفوة ومن أين جاءت؟ وكيف ساهمت فى مُعاظمة الصراع فى جمهورية السودان الأولى التى أعقبت الإستعمار؟ فأرست، بغير قصد منها، أسباب نعاة الجمهورية؟!
الصفوة التى حكمت السودان عقب جلاء الإستعمار عرفت شعبياً بطبقة “الجلابة”، وهى الصفوة التى سيطرت على السلطة السياسية والإقتصادية التى مكنتها لاحقاً من السيطرة على أجهزة الدولة كالجيش والقوات النظامية ومنظماتها المدنية والأهلية بما فيها الأحزاب السياسية. والجلابة شريحة إجتماعية تكونت فى القرن الخامس عشر الميلادى من قوميات وعرقيات مختلفة كالأتراك، الإغريق، بعض السكان المحليين والعرب الذين وفدوا إلى السودان بالإضافة إلى التجار بما فى ذلك تجار الرقيق الذين أنشأوا مراكز تجارية تحولت بمرور الوقت إلى مدن حضرية كبيرة. فَقُم الصراع السياسى فى السودان بإسهام الصفوة سالفة الذكر فى عدة أشياء قادت لاحقاً إلى إستقلال السودان:
قانون المناطق المقفولة وتأثيره على جنوب السودان، جبال النوبا والنيل الأزرق وغلق صنابير العصرنة فى وجههم ومنعهم من ثم من المشاركة فى الأحداث التى قادت إلى الإستقلال.
إقصاء المهمشين من المشاركة فى مؤتمر السودان الإدارى 1946 ومن مؤتمر جوبا 1947 لتأكيد قرار السكرتير الإدارى.
إستدعاء السلطة الأميرية المصرية للقوى السياسية الشمالية فى 1953 لمناقشة موضوع إستقلال السودان وتهميش القوى الشمالية للجنوبية
إنكار مطالب القوى السياسية الجنوبية للنظام الفيدرالي بقرار البرلمان فى 19 ديسمبر 1955 بالنظر لتلك المطالب بعين الإعتبار “to be given due consideration".
إجراءات السودانة.
شكل كل ذلك العمود الفقرى للسياسات العمدية التى إنتهجها الجلابة فى إدارة دولاب الجمهورية الوليدة آنئذٍ، الأمر الذى جذَّر لأسباب الشقاق بين مقوماتها فأقعدت السيرورة التأريخية لعمليات البناء الوطنى التى كان من شأنها توليف التضاريس الإثنية والنتوءات الثقافية فى هذا البلد القارة. رد الفعل على تلك السياسات قادته حركة الأنيانيا الأولى قبل إعلان الإستقلال بتبنى تمرد مسلح ضد الدولة فى أغسطس 1955 فى الجنوب وتبعته مقاومات أخرى تَقاودها مؤتمر البجا فى شرق السودان 1958، وجبهة نهضة دارفور 1962 وإتحاد جبال النوبا فى غربه. غَنىٌّ عن القول أن المقاومة ضد حكومات الجلابة التى تعاورت حكم السودان منذ الإستقلال وحتى توقيع إتفاقية السلام الشامل فى يناير أخذت أشكالاً مختلفة كالإنتفاضات الشعبية فى المدن (1964، 1985) بينما أخذت طابعاً مسلحاً فى الجنوب (1972-1983). غير أن التجلى الأخير للصراع بين حكومات الأمر الواقع the Governments of the Day فى المركز والمقاومة جنوبية المنشأ شابته مزِيّة تفرَّد بها عما عداه من تجليات إرتعشت لها المسلمات السياسية والفكرية التى لم تمتحن من قبل.
ظهور الحركة الشعبية/الجيش الشعبى لتحرير السودان والجبهة القومية الإسلامية فى ساحة الفعل السياسي والفكرى كان له أبلغ الأثر فى حوار/صراع الجمهورية الأولى حول طبيعة العلاقات الرأسية والأفقية بين مركز السلطة وتخومها البعيدة. فالأولى رفدت المسرح السياسى السودانى وأثرته بالكثير من المفاهيم والممارسات السياسية غير التقليدية، كونها حركة منشؤها جنوبى ولكنها قومية التوجه والأفكار وتعمل على تغيير بنية السودان معتمدة على أدوات نضالية لم تألفها حكومات الجلابة لا السابقة ولا اللاحقة لنشئتها. عملت على توحيد نضالات المهمشين فى منبر نضالى سياسى/عسكرى سيطرت بواسطته على ما لا يقل عن ثمانين بالمائة من أراضى الجنوب مركز إنطلاقها العسكرى وإلهامها السياسى والفكرى، وأنشأت فيه سلطة مدنية عُنيت يتصريف أمور الناس فيها Civil Authority of New Sudan (CANS). أنخرطت من ثم فى حوارت وتحالفات سياسية (التجمع النقابى 1986) بدلت موازين اللعبة بصورة جذرية فيما يتعلق برؤيتها لجذور المشكل السودانى أو فيما يتعلق بالوسائل التى تتحقق بها تلك الرؤية، إنتزعت بها قبولاً لمفهوم السودان الجديد فى العقلية السياسية الشمالية بالإضافة إلى إعتراف قواه الحزبية بالنضال المسلح كوسيلة شرعية لإسقاط نظام الجبهة الإسلامية (التجمع الوطنى الديمقراطى، توقيع الميثاق1991)، فضلاً عن إكتسابها، الحركة الشعبية، لفضاء سياسى لنشاطها فى شمال السودان وفى الشرق الأوسط. قادت، فى المقابل، هذه التطورات مباشرة إلى إعتلاء الجبهة القومية الإسلامية المسرح السياسى فى السودان على “ظهور” الدبابات و”أسنة” الدوشكات لإستنقاذ “السودان القديم” من خطر “السودان الجديد” القادم والذى تحمل الحركة الشعبية/الجيش الشعبى لواءه لفرض مشروعها الفقهفكرى. لتحقيق تلك الغاية توسلت الجبهة الإسلامية بالدين فأعلنت الجهاد وأسلمت حياة العامة وشَيطَّنت معارضيها من اليمين واليسار كما أستعدت جوارها الإفريقى والعربى على حد سواء.
تَزَّعُم الحركة الشعبية/الجيش الشعبى لتحرير السودان للمقاومة المسلحة، وتسنم الجبهة القومية الإسلامية لدّست الحكم فى السودان فى الربع الأخير من القرن الماضى نقل صراع الجمهورية الأولى إلى آفاق جديدة سعى فيها اللاعبان الأساسيان، إن لم يكن الوحيدين، إلى إعمال سيطرتهما وفرض مشاريعهما السياسية كلٍ بأدواته، مما شكل بداية نهاية تلك الجمهورية كما قال بحق الرؤيوى الراحل قرنق فى فاتحة أعمال المؤتمر الأول للحركة الشعبية/الجيش الشعبى لتحرير السودان فى شقدوم أبريل 1994:
“I assure you that the present National Islamic Front (NIF) regime is the last Government of the Old Sudan. For the Government of the next Government that of the NIF will either be the Government of the New Sudan according to the SPLM/A vision; or else the Sudan will break into several states"
“أؤكد لكم أن حكومة الجبهة القومية الإسلامية الحالية ستكون آخر حكومات السودان القديم، على أن الحكومة التى ستليها إما أن تكون حكومة السودان الجديد وفقاً لرؤية الحركة الشعبية/الجيش الشعبى لتحرير السودان؛ أو يتمزق السودان إلى عدة دول”.
كيف شكل ظهور الحركة والجبهة بداية النهاية لجمهورية السودان الأولى؟ وماهى المشاريع السياسية التى طرحاها فأضرمت النيران فى السودان القديم لينتهى إلى دولتين فقط حتى هذه اللحظة كما تنبأ الراحل قرنق؟!
الحركة الشعبية/الجيش الشعبى لتحرير السودان .. إلتفاتة عشرين عاماً إلى الوراء
برزت الحركة الشعبية/الجيش الشعبى لتحرير السودان كحركة سياسية، تحررية مسلحة تبنت أُطروحة سياسية وسمت مشروعها السياسي لبناء السودان الجديد على أنقاض القديم، كما قدمت وصفتها الوطنية لإستكمال سيرورته التأريخية.
إنسربت الحركة الشعبية/الجيش الشعبى لتحرير السودان إلى المسرح السياسى فى السودان كمواصلة وإستمرار لنضالات الهامش والتخوم المهمشة وبدفع مباشر من فشل أنظمة حكم الأقلية فى التلاحى حول برنامج بناء وطنى يحتفى بالتعدد الإثنى والثقافى والدينى، وتقاصُر ذات الأنظمة عن تبنى برامج أقتصادية لمعالجة التخلف الإقتصادى ومعالجة آثاره الضارة على علاقة المركز بالهامش. وحتى لا تنتهى إلى ما إنتهت إليه الحركات التى سبقتها من مصير؛ إبتنت الحركة الشعبية/الجيش الشعبى مشروعها السياسى على دارسة تحليلية للحالة السودانية إستصحبت الخلفيات المكونة للشخصية السودانية فى بعديها التاريخى والمعاصر متوخية بناء رابطة وطنية يتضام فى أحشاءها كل ذلك الفيسفسياء الدينى والإثنى، بغرض الإجابة على سؤال من نحن؟ وإلى أين نحن ماضون فيما عرف فى أدبياتها بمسألة الهوية السودانوية. هدفها الأساسى كان إنهاء سيطرة الأقلية العربية الإسلامية على الحكم فى السودان وتدمير آلياته القمعية وإبدالها بمشروع السودان الجديد الذى لا تفرض فيه قومية واحدة سيطرتها وهيمنتها على بقية مكوناته. إرتأت الحركة الشعبية/الجيش الشعبى لتحرير السودان جدوى أهمية توحيد نضالات مجموعات المقاومة المسلحة فى جنوب السودان فى منبر نضالى واحد وخلف برنامج سياسى موحد هو بناء سودان مغاير للموجود بدلاً عن التقوقع والتحصن خلف إقليمية ضيقة لا توفر حلولاً ناجزة لمشكلات عظيمة كأن الموجودة الآن. أهمية توحيد نضالات المجموعات المسلحة الناشطة فى الجنوب أحال الحركة الشعبية إلى سؤال محورى ألقت الإجابة عليه بظلالها على مجمل التطور التأريخى لها وللأوضاع السياسية عامة؛ أولوية بناء جيش شعبى منضبط لمواجهة جيش الخرطوم أم بناء منظومة سياسية ديمقراطية ذات ذراع عسكرى مكمل لدورها؟
الإجابة على ذلك السؤال كانت ليس الإتجاه لبناء جيش قوى قادر على مواجهة القوات المسلحة السودانية وتدميرها فحسب، بل الحلول بدلاً عنها تحت إمرة القيادة السياسية التى تغيأت بناء السودان الجديد إذ مثلت القوات المسلحة السودانية الآلة القميعة التى أستخدمتها الصفوة الحاكمة فى خدمة مصالحها الذاتية لا المصلحة الوطنية العليا. أوعزت تلك الإجابة لقيادات الأنيانيا الثانية أمثال صمويل قاى توت، أكوت أتيم وغيرهما إلى الإنسلاخ عن المنبر الذى إنضموا إليه لتوَّهم بدعوى أن نضالهم كان من أجل إنفصال جنوب السودان، ولا يعنيهم النضال من أجل سودان جديد يتواطنون فيه مع من سامَهُم التهميش والإقصاء والتمييز. تلك كانت الخطيئة التى أغشت بصيرة قادة الأنيانيا ومَنْ تبنى زعمهم ومنطقهم لاحقاً مما سنتأتى عليه، إذ أن الزعم بمنازلة الخرطوم من أجل الإستقلال لا يبرر مطلقاً الإرتماء فى أحضانها من أجل إنتزاعه.
على أىٍّ، بدأ تسليح وتدريب كتائب الجيش الشعبى المختلفة جاموس، كوريوم، مور مور، تايقر، تمساح، خازوق، زلزال وكتيبة بنات وغيرها من الكتائب بعد مواجهة المحاولة الإنقسامية (1984) التى سعت للإنحراف عن التوجه العام الذى إختطُّه الحركة لنفسها ومضت تستهدف به محطتها الأخيرة .. مركز السلطة فى الخرطوم. الإنتصارات العسكرية التى حققتها تلك الكتائب بسيطرتها/تحريرها لأجزاء واسعة من جنوب السودان لا سيما المناطق المتاخمة للحدود الإثيوبية، اليوغندية والكينية وإستعدادها للإنتقال إلى محاور أخرى فى النيل الأزرق، جبال النوبة ودارفور فى النصف الثانى من ثمانينات القرن الماضى ساهمت فى تحقيق نتائج عدة أبرزها: إعادة الثقة فى المواطنين المهمشين بقدرة الجيش الشعبى القدم الجديد على إحداث تغيير، ثانياً: جذب إنتباه العالم والإقليم لما يحدث فى السودان وثالثاً، تدفق المواطنين إلى الإنضمام إلى الجيش الشعبى.
تضافرت فى ذلك الوقت العديد من التطورات الداخلية، الإقليمية والدولية لتؤثر على مستقبل الحركة الشعبية ومستقبل السودان أيضاً. التطورات الداخلية تمثلت فى إستيلاء الجبهة الإسلامية على السلطة فى يونيو 1989 وتديينها للحرب الأهلية بالحملات الجهادية التى شنتها على الحركة الشعبية /الجيش الشعبى لتحرير السودان إثر الهزائم المتتالية التى أوقعها بالجيش السودانى، والإختراق السياسى النسبى الذى أحدثته بإتفاقها مع القوى السياسية والتجمع النقابى لتوفير الشروط اللازمة لمشاركتها فى الإنتخابات وفى الحياة السياسية (كوكادام، مارس 1983)، وإبرامها لإتفاقية الميرغنى-قرنق (أديس أبابا، نوفمبر 1988) بما تضمنته من تجميد لقوانين سبتمبر الإسلامية تمهيداً لعقد المؤتمر الدستورى. الوجه الآخر لعملة التطورات الداخلية لا يُقرأ بمعزل عن التطورات الإقليمية (سقوط نظام منقستو وإنفصال إريتريا عن إثيوبيا)، والدولية (نهاية الحرب الباردة وإنهيار المعسكر الإشتراكى وتفكك الإتحاد السوفيتى)؛ وهو تطور أذكى دوافع ومخاوف الورثة الفكريين لقادة الأنيانيا الثانية لِقصْر نضالهم على تحقيق إستقلال جنوب السودان. الورثة الفكريون هم قادة الناصر الذين توهموا الهزيمة من الجبهة القومية الإسلامية مما غذى دوافعهم للإستيلاء على قيادة الحركة الشعبية/الجيش الشعبى لتحرير السودان. لم يتمكن قادة الناصر من إختطاف الحركة، كما لم تقوى الحملات الجهادية للجبهة القومية الإسلامية من إجبارها على الجنوح لسلم تختاره هى. على أنهم، قادة الناصر، نجحوا فى مساعدة القوات المسلحة على إستعادت زمام اللعبة العسكرية بعد أن فلح الإنقسام فى فك الحصار الذى ضربه الجيش الشعبى على مدينة جوبا آخر مكامن الخرطوم العسكرية، كما برعوا أيضاً فى كشف تناقض دعاويهم عندما قسموا الجنوبيين على أساس قبلى فى ذات الوقت الذى كانوا يتحدثون فيه عن نضالهم من أجل إستقلال الجنوب لتنتهى بهم دوافعهم ومخاوفهم إلى أحضان الخرطوم الرافضة لإنفصال الجنوب أبتداءاً.
الجبهة القومية الإسلامية .. إستنقاذ السودان القديم:
بعد المصالحة الوطنية وتأسيسها لجبهة الميثاق الإسلامي والتصالح مع نظام مايو؛ إنتهي الإخوان المسلمون عقب الإنتفاضة في 1985 إلي التحضير للمؤتمر التأسيسي للجبهة الإسلامية القومية بصوغ بيانها التأسيسي “منفستو” جاء فيه: (الجبهة الإسلامية تأسست علي الإسلام، فهي إسلامية ترجو أن تكون قومية تسع أهل السودان كافة، وهي كيان جديد يقوم علي دعوة سابقة متجددة لا ترهن نفسها للأسماء، ولكنها تتحوّر لعبادة الله حيثما تجدد سياق الإبتلاءات والتحدي، مهما يكن أسمها وطرحها لا تُبدل أصولها، تصل عامة حياة الدولة والمجتمع بخاصة كسب المؤمن كله إسلاماً وعبادة لله، إلخ). على ذلك البيان إبتنت الحركة الإسلامية “السودانية” رؤيتها لحل مشاكل بلد كال “سودان” الذى صنف مكوناته العرقية والدينية آخر تعداد سكانى لدولة الإستعمار الإنجليزى المصرى ب31% من سكانه بأنهم عرب، 61% منهم أفارقة بينما ما نسبته 8% وصفها التعداد بأنها قبائل إفريقية “وفدت” إلى السودان من غرب إفريقيا كقبائل الفلاتة. 39% من أولئك الأفارقة يتساكنون شمال السودان بينما 30% المتبقية جنوبيون يعيشون جنوب خط 1/1/1956. أما التصنيف الدينى وفقاً لذات التعداد فحدد 70% مسلمون و 30% مسيحيين وأصحاب ديانات إفريقية وأرواحية تقليدية.
على الرغم من هذه الحقائق الطبيعية، وتوسلاً لوحدة جامعة تتجاوز التباينات العرقية والدينية والإثنية فى السودان لوحدة عابرة للحدود وتبعث على مفهوم الأمة؛ إنتقت الجبهة القومية الإسلامية المقوّم الدينى لإبتناء برنامجها السياسى كمنوذج تدلل به على فرادتها وإختلافها مقارنة بالحركات الإسلامية الأخرى التى تتشاركها المنابع الفكرية ووحدة عملها كحركة الإسلام السياسى فى مصر. أما من ناحية طرحها السياسى فقد إرتأت الجبهة القومية الإسلامية حينئذٍ 1) ضرورة قيام الإنتخابات العامة فى الموعد الذى حدد لها (أبريل 1986) لشرعنة حكمها، 2) إستكمال تقنين تطبيق الشريعة الإسلامية “قوانين سبتمبر” لكونها إستهلت خطوات أسلمة الحياة العامة، 3) دعم القوات المسلحة السودانية فى حربها ضد الحركة الشعبية/الجيش الشعبى لتحرير السودان و4) إحترام الجوار العربى الإسلامى فى وجه الدعوة التى بعثت النزعة إلى الأفريقانية.
بعد إستيلاءها على الحكم وتماشياً مع طرحها الساعى إلى أسلمة الحياة والمجتمع معاً، وتحت الضربات الموجعة التى تلقتها من الحركة الشعبية/الجيش الشعبى لتحرير السودان فى الجنوب من ناحية، وفى جبال النوبة بقيادة الراحل يوسف كوة مكى من الناحية الأخرى؛ ذهبت الجبهة القومية الإسلامية إلى تطوير فكرة قوات “المراحيل”-براءة إختراعها تعود “للإمام” الصادق المهدى- إلى فكرة الدفاع الشعبى، بتشريع رسمى مجاز من البرلمان، وتسليح القبائل المتاخمة لجنوب السودان لصد زحف الحركة الشعبية/الجيش الشعبى شمالاً لتستفرغ هى جهدها فى أمور أخرى فى مشروع الأسلمة وإعادة صياغة الشعب السودانى. زيادة على ذلك أنشأ الإنقلابيون وزارة التخطيط الإجتماعى التى عنيت بتجديد المجتمع وتبديله على نحو شامل وفق أصول ومبادئ الإسلام، وهى الوزارة التى أنيط بها التخطيط المركزى لذلك التحوّل والتجديد “تنزيلاً” لما تم التنظير له فى الإستراتيجية القومية الشاملة. أستهلت الجبهة تطبيق تلك الإستراتيجية بتقسيم أقاليم السودان “المتوارثة” إلى ستٍّ وعشرين ولاية تحت بند خُطة الحكم الإتحادى!! بدعة الحكم الإتحادى والإدعاء بتمليك السلطة للشعب من خلال عدم مركزته كانت واحدة من أُثفيات الإنقاذ العديدة التى لا تنقضى والتى كشفت لاحقاً دهرية الذهنية الجمعية التى يتفاكرون بها فى خلق الله رغماً عن “هى لله، لا للسلطة ولا للجاه” الذى تحشدت به لتكسب عضوية جديدة. حملت تلك الذهنية الكثير من الإشارات العرقية والعنصرية الموحيّة، فمن بين ما حمله خطها السياسى ضمن أشياء أخرى؛ إحترام الجوار “العربى الإسلامى” وليس العربى “و” الإسلامى كما يفهم من العطف والإضافة فى وثائق الجبهة القومية الإسلامية (الإعلان السياسى). وإستردافاً لقولها بفعلها، كان موقف الإسلاميين فى مجلس قيادة ثورة الإنقاذ من تولى إثنان من زملائهم؛ لا يَمُتَّان لأصولهم العربية “الشريفة” بصلة، فى ذات المجلس وفى ذات الجبهة لملفات حساسة من وجهة نظرهم كملفى الجنوب والحرب والسلام لما فيهما من خطر على “عروبة” السودان وإسلاميته. بعد إنفضاض سامر مفاوضات أبوجا الثانية وإعلان مبادئ الإيقاد؛ إنعقد إجتماع لقيادة الإنقاذ الإسلامية والعسكرية أشهر فيه العقيد الطيب سيخة موقفه من وضع ملف الجنوب وقضية الحرب والسلام فى يد إثنين من أهل دافور لصالح إستعداد الإنقاذ الإسلامية للإستفتاء حول تطبيق الشريعة (العقيد محمد الأمين خليفة) وحق تقرير المصير (د. على الحاج) الذى أقروه بالموافقة عليه كما جاء فى إعلام المبادئ.
الإختلاف فى إدارة مفاوضات السلام والتنظير لتأصيل حياة الناس والحكم الإتحادى وحاكمية الدولة أو الحركة الإسلامية كشفت ما ظهر من جبل الجليد لنفاق الجبهة القومية الإسلامية. ففى مؤتمرها القومى فى 1997، إنتظم “المهمشون” فى الحركة الإسلامية من الدارفوريين والجنوبيين خلف مرشح دارفور لأمانتها العامة. ما الذى فعلته الحركة ضد ذلك التمرد الداخلى؟ لجأت إلى إباحة التزوير لتمكن مرشحها “العربى” غازى سليمان من الفور على مرشح الهامش “العجمى” د. على الحاج ليستمر مسلسل التزوير المؤصل منذ ذلك الحين وحتى إنتخابات جنوب كردفان الأخيرة. ذلك فعل كشف عن خطل الشورى والحرية التى يتمشدق بها متأسلموا بلادنا التى كانت.
أُبطولة أخرى فى قائمة أباطيل الحركة الإسلامية هو الجدل الذى إنطرح فى أروقتها عقب التوقيع على ميثاق الخرطوم للسلام فى أبريل 1996 وبعد ثلاث سنوات من إجازة قانون الحكم الإتحادى الذى تولاه بالرعاية والإشراف الإسلامى الأعجمى على الحاج؛ إنطرح جدل تعيين رئيس لديوان الحكم الإتحادى وأتجهت الأنظار إلى تعيين نائب الرئيس الجنوبى آنذاك جورج كنقور أو السلطان الجنوبى فى رواية أخرى، إذ لم يملك ما يؤهله إلى الإنخراط فى إدارة دولاب الدولة الإسلامية العربية. تبنى رئيس الجمهورية المقترح وتولى بنفسه بلاغ النائب ولكن المستشار القانونى لرئاسة الجمهورية من فرط كُرهه، أو عدم إستلطافه لجنس الجنوبيين! ورغماً عن موافقة الرئيس نفسه تأبى عن أستصدار القرارات الرئاسية التى تمكن “السلطان” الجنوبى من تولى مهامه الجديدة ودونكم تماهى الرجل مع رغباته فى الطريقة والمنهج الذى أدار بهما المجلس الوطنى الإنتقالى إلى حينه.
السلام الذى توخته الجبهة:
سعت الإنقاذ عقب إختطافها للسلطة فى يونيو 1989 إلى لقاء الحركة الشعبية لتحرير السودان لحل ما عرف فى أُضبارة الأدب السياسى السودانى ب “مشكلة الجنوب”. إنعقد أول لقاء مباشر بين الطرفين فى أديس أبابا، أغسطس 1989، بعد أن بعث الإنقلابيون برسالة إلى الحركة الشعبية عبر القيادة الإثيوبية تعبر عن رغبتهم فى التفاوض. توالت الجولات تباعاً بينهما دون تحقيق إختراق يذكر كلما إنتهى التفاوض إلى علاقة الدين بالدولة.
فى الجولة الثالثة بينهما، ابوجا الثانية مايو/يونيو 1993، وكرد فعل لِتَمكُّث الطرف الحكومى عند موقفه من فصل الدين عن الدولة من جهة، وإتفاقه مع فصيل الناصر على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان حتى وإن أدى إلى الإنفصال من الجهة الأخرى؛ قدمت الحركة الشعبية لتحرير السودان مقترحاً لترتيبات كونفيدرالية تعالج به مخاوف كل الأطراف من ناحية وتكشف به المنهج اللولبى الذى تتبناه الجبهة القومية الإسلامية فى التعامل مع ملف التفاوض من الناحية الأخرى. من بين ما جاء فى تلك الترتيبات:
تكون هناك فترة إنتقالية مدتها سنتان تبدأ من يوم توقيع إتفاقية السلام الشامل بين أطراف الصراع السودانى.
يكون السودان خلال الفترة الإنتقالية موحداً ويحكم على أساس إتحاد كونفيدرالى بين دولتين
تُعرَّف بوضوح حدود الدولتين الكونفيدراليتين على أن تتكون الدولة الجنوبية من أقاليم 1) بحر الغزال، بما فى ذلك أبيى، 2) الإستوائية، 3) جنوب النيل الأزرق، 4) جنوب كردفان و5) أعالى النيل. وتتكون الدولة الكونفيدرالية الشمالية من بقية أجزاء السودان (قرار المؤتمر العام للحركة الشعبية بتسمية المناطق المحررة)
يكون لكلا الدولتين الكونفيدراليتين دستورها وقوانينها
يتأسس الإتحاد الكونفيدرالى بين الدولتين على المصالح المشتركة بينهما فى مجالات الدفاع المشترك ضد العدوان الخارجى، الشئون الخارجية، النشاطات الإقتصادية المتبادلة وأية مجالات أخرى يتفق عليها.
يتم التفاوض على الترتيبات الكونفيدرالية الدستورية والقانونية والإدارية بين الطرفين
يعقب التوقيع على الإتفاق إعلان الطرفان وقفاً فورياً لإطلاق النار بينهما، يتبعه فك إرتباط بين قواتهما تحت رعاية وإشراف قوات حفظ سلام دولية مكونة من الدول المتفق عليها بين الطرفين.
تنسحب القوات المسلحة السودانية من الدولة الكونفيدرالية الجنوبية ويعاد نشرها فى الدولة الشمالية بينما يتم نشر قوات الجيش الشعبى لتحرير السودان فى الدولة الجنوبية.
يبقى الجيشان منفصلان تحت قيادتيهما المستقلتين خلال الفترة الإنتقالية
تمارس الحكومتان مسئوليتهما فى الأمن الداخلى والحفاظ على القانون والنظام فى دولتيهما
يتفاوض الطرفان ويتفقان على خطط الترتيبات الأمنية المتلعقة بفك الإرتباط وإنسحاب القوات ضمن إتفاقية السلام الشامل.
تُنشئ الحكومة الإنتقالية الجنوبية مفوضية خاصة للعودة، إعادة التوطين، إعادة التأهيل وإعادة البناء يشار إليها بمفوضية إعادة التوطين.
تدير مفوضية إعادة التوطين عمليات عودة وإعادة توطين اللاجئين والنازحين
ينشأ فى الدولة الجنوبية التى تأثرت بالحرب صندوق دعم خاص لأهداف العودة، إعادة التوطين، إعادة التأهيل وإعادة البناء يدار بواسطة المفوضية.
تنشئ الدولة الجنوبية مفوضية مستقلة للإستفتاء على حق تقرير المصير تكون مهمتها تنظيم إجراؤه، ويتم الإتفاق على قانونه بين الطرفين.
يتم إجراء الإستفتاء على حق تقرير المصير تحت إشراف دولى
رفض الطرف الحكومى المفاوض لتلك الترتيبات فرض على الحركة الشعبية، الطرف الآخر فى التفاوض، إحتقاب ترتيباتها والتصور البيانى المرفق أدناه فى تسافراتها الخارجية الساعية إلى محاصرة الإنقاذ دبلوماسياً وقد فعلت. من الجهة المقابلة فشلت الجبهة فى محاججة طرح الحركة عندما أفرد التلفزيون “القومى” مساحة واسعة للأستاذ على عثمان لتبيين مخططات الشعبية التوسعية وحدود دولتها المفترضة الممتدة إلى مدينة كوستى. منطق الحركة كان كشف ألاعيب الجبهة التى قبلت بحق تقرير المصير حتى وإن أدى إلى إنفصال الجنوب بحدوده الجغرافية المتعارفة، وهم الداعون إلى وحدة الأمة الأسلامية ومضاربها التى لا تقف عند بوابة السودان الجنوبية. فكلما أتجهت حدود السودان الجديد شمالاً كلما كانت وحدة السودان ممكنة، والسودان الجديد الذى كانت تتحدث عنه الحركة الشعبية فى ذلك الوقت كان يتألف من خمسة أقاليم جغرافية هى بحر الغزال، الإستوائية ، النيل الأزرق، جنوب كردفان وأعالى النيل وهو ليس بفكرة رغائبية وإنما واقعٌ معيش على الأرض إذ لم يك لحكومة الخرطوم من سلطان على تلك الأقاليم.
عندما قدم هذا التصور فى أبوجا الثانية، كان النموذج الرابع هو المعبر عن الحالة السودانية نموذج دولة عربية إسلامية وضع غير المسلمين وغير العرب فيها رهين “بممالئتهم” ومدى قربهم أو بعدهم من الإنقاذ الإسلامية. النموذج الثالث كان مقابلاً موضوعياً لدعاوى عربنة وأسلمة السودان، إذ كلما ضيقت الصفوة “البشرية” الحاكمة فى الخرطوم الخناق على غير العرب وغير المسلمين، كلما إلتجأوا إلى الحكمة “السماوية” التى حملت الخالق إلى أن لا يجعلهم لا عرباً ولا مسلمين والإستعصام بكينونتهم الإفريقية بتأسيس كيان لا يحط من إنسانيتهم ولا يزدرى هويتهم التى جلعها الله فى أحسن تقويم كما قال فى قرآنه الكريم.
إستعصاء تحقق النموذج الأول بتحويل السودان إلى جديد، علمانى وموحد طواعية، الهدف الذى نهدت الحركة الشعبية/الجيش الشعبى لإنجازه، عبر النضال والمغالبة، دعاها إلى محاولة تحقيق الحد الأدنى منه عبر التفاوض (النموذج الثانى) الكائن إلى حين. نموذج السودان الجديد المؤقت حقق سلاماً نسبياً أستهمت به الحركة الشعبية القوى السياسية السودانية إلى الإفادة منه فى تعظيم القواسم والمصالح المشتركة بين مكونات ومقومات الشخصية السودانية وصولاً للنموذج الأول السودان الجديد المتحول. فشلت القوى السياسية وفى مقدمتها شريكى نيفاشا فى تبنى مشروع وطنى جامع لا يمايز بين مواطنيه بسبب من لون أو عرق أو دين لننتهى إلى النموذج الخامس الذى نشهد مخاض ولادته هذه الأيام.
رفضت الجبهة القومية الإسلامية ذلك المقترح وأنفض السامر، ولجئت إلى الإيقاد للتدخل والمساعدة فى إيجاد حل للمشكل السودانى. ذلك اللجوء حكمته تقديرات داخلية تخصها قضت بتقارب الحركة مع دولتى الجوار الكينى واليوغندى، بينما فى الجهة المقابلة يوجد تحالف بين الإنقاذ ودولتى أثيوبيا وأريتريا. نكثت الإنقاذ غزلها بإستعدائها لحلفائها فأحكمت بغير قصد منها أُنشوطة الإيقاد حول عنقها، إذ خرجت الأخيرة بإعلان مبادئ للتفاوض تضمنت قضايا –حق تقرير المصير- أستخدمتها الإنقاذ لإستئلاف الإنفصاليين فى حربها ضد الحركة الشعبية الفصيل الرئيس المتمترس خلف موقفه من قيام سودان ديمقراطى علمانى –فصل الدين عن الدولة- كما جاء فى تنظيره وتحليله للحالة السودانية منذ الإستقلال وإنتهاؤه إلى الإقتناع بضرورة إيجاد صيغة جديدة للتعاقد الإجتماعى بين مواطنيه وليس القناعة بما هو موجود. إذن الحرص على السلام وأستدامته الذى أبداه قادة الإنقاذ والحركة الإسلامية وما زالوا يفعلوه؛ هو حرص كذوب. أنتوى قادة الإنقاذ التوصل إلى إستسلام، وليس سلاماً، لا تترتب عليهم بموجبه إستحقاقات هم ليسوا على إستعداد لمقابلة أُسسها، وتستند تلك النية على تركة ثقيلة من إتفاقيات الإستسلام المنقوضة التى كانوا طرفاً فيها.
إتفاقية السلام الشامل .. وتهاوى مكعبات الدومينو
لا يختلف إثنان فى أن الحروب المسلحة وغير المسلحة التى شنتها الجمهورية السودانية ضد مواطنيها والمقاومة التى وجدتها منهم فى وجه تَسلُطِها لم تكُ محض رحلة صيد، فلتلك الحروب كانت ثمة أسباب ومبررات، ولذات المقاومة كانت ثمة محفزات ودوافع حسمت إتفاقية السلام الشامل السجال المسلح بينهما ووضعت فى ذات الوقت الإطار النظرى لحل نزاعات نظيرة مندلعة أخرى مرشحة للإندلاع فى أجزاء أخرى من الجمهورية المَنْعِيَّة.
الإتفاقية التى أُشهرت على العالمين فى يونيو 2004 قبل أن يتم الإحتفال بالتوقيع النهائى عليها فى يناير 2005 تهيئات لها العديد من الظروف الذاتية والموضوعية لإنتشال السودان من وهدة الإشكالات التى إستغرقته حيناً من الدهر. الظروف الذاتية تمثلت فى الكُلفة المادية والبشرية الباهظة التى تعرض لها طرفى النزاع ومن شايعهما من جهة، ومن تَخيَّر الحياد إزاء ذلك النزاع ممن تبقى من الشعب السودانى من الجهة الأخرى. سَاوت تلك الكلفة موازين عجز القوة لدى الطرفين بالإضافة إلى الضغوط التى تعرضا لها والتى أعملتها أبتداءاً المنظمات الطوعية التى تحملت مشقة العبء الإنسانى الناجمة عن تلك الحرب من إيواء لاجئين وغوث نازحين إكتظت بهم المعسكرات، على دولها بغية حمل طرفى الصراع إلى طاولة التفاوض. أما الموضوعى فالإهتمام السياسى والفكرى الذى أولته دول الإيقاد والترويكا لعمليات التفاوض بالتمويل، التدريب والتحفيز لطرفى النزاع بهدف التوصل إلى تسوية سلمية متفاوض عليها. بالإضافة إلى تأثير أحداث 11 سبتمبر على الإنقاذ الإسلامية الذى تمخض عنه تعاون أمنى بين عاصمة “الخلافة الإسلامية” الخرطوم وعاصمة “الكفر” القصية واشنطن التى توعدها الإنقاذيون رضى الله عنهم بالويل والثبور إبان اللوثة الجهادية التى تلبثتهم فى تسعينيات القرن الماضى.
على أىٍّ، خَلُص التفاوض إلى مساومة تأريخية أنهت واحدة من أطول الحروب الأهلية على مستوى الإقليم والعالم، حرص فيها مفاوضو الحركة الشعبية/الجيش الشعبى لتحرير السودان على عدم إطراح أيما تفصيلة للصدف حافزهم إستدعاء لإرث الصفوة التى تعاورت حكم الجمهورية الأولى. عالجت إتفاقية السلام الشامل ضمن أشياء أخرى قضية علاقة الدين بالدولة، حكم ذاتى لجنوب السودان بالإضافة إلى قضية نظام الحكم فى السودان. الوصول إلى تلك الإتفاقية حمل الرئيس البشير إلى وصفها بإكتمال إستقلال الجمهورية الأولى عندما تشوف إنهاؤها للحرب الأهلية فى قمة محاسنها فيما إختلف نظر الراحل قرنق لذات الإتفاقية لكونها ستشهد للمرة الأولى فى التاريخ مساهمة الجنوبيين فى تقرير مصير الجمهورية الأولى من خلال مشاركتهم فى الإستفتاء المنصوص عليه فى نهاية الفترة الإنتقالية إعتماداً على إدارة الإنتقال من السودان القديم إلى السودان الجديد ليصفها بإعلان الجمهورية الثانية وقد فعلوا، إذ لم يعتد بأراؤهم فيما يخص الشئون القومية فيما مضى.
بتوقيع الإتفاقية توفرت دولة الإنقاذ المتأسلمة على ست سنوات جددت الدماء فى شرايينها، كما حصلت بموجبها على إعتراف خصومها الداخليين بها وإعتراف العالم أيضاً، كما توفر بها جنوب السودان، لأول مرة منذ جلاء الإستعمار، على سلطة ذاتية حقيقية شكلت المستوى الثانى للحكم على مستوى الجمهورية. شملت تلك السلطة حكومة مستقلة، نظام عدلى وقضائى ومالى بالإضافة إلى جيش مستقل. على المستوى الآخر هيئت الإتفاقية هامشاً للحريات سعت القوى السياسية الشمالية والجنوبية بما فيها المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية لتحرير السودان للإستفادة منه كما عبر عنه الحراك الذى شهدته الساحة السياسية فى الندوات والمؤتمرات الحزبية وحرية المقالات الصحفية النسبية. وبينما فشلت القوى السياسية فى التمدد، الشمالية جنوباً والجنوبية شمالاً؛ نجحت الحركة الشعبية لتحرير السودان فى إقتحام مناطق غير “محررة” سياسياً بما فى ذلك مركز الصفوة فى الخرطوم وإستئلاف عضوية جديدة، نوعية وكمية، إنعقدت لها المؤتمرات التنظيمية السياسية فى القرى والفرقان المهمشة فى الشمال لتحمل نائب أمينها العام المكلف حينها ياسر سعيد عرمان إلى إعلان إكتمال حلم الراحل قرنق من مدينة حلفا، أعلى نقطة شمال السودان، والقاضى بتمدد الحركة من نمولى إلى حلفا ومن الجنينة إلى همشكوريب. عليه، ووفقاً لقواعد اللعبة السياسية، نجحت الحركة الشعبية لتحرير السودان فيما فشل فيه الآخرون تتقدمهم الجبهة الإسلامية أو المؤتمر الوطنى لاحقاً ممن يَتَمحّك عند قومية أحزابهم وإنتشارها حتى فى جنوب السودان “الحبيب”.
رغماً عن الجداول والملاحق المفسرة لنصوص الإتفاقية؛ تعرض تنفيذها لكثير من العقبات والمطبات الإصطناعية التى حالت دون رسوها فى مرفئها الأخير بسلام. الجداول الملحقة تضمنت آليات تساعف تنفيذها مثل الإجتماعات المشتركة للمكتب السياسى للحركة الشعبية لتحرير السودان والمكتب القيادى للمؤتمر الوطنى، المجلس الأعلى للشراكة ويضطلع بمهام مراجعة تنفيذ الإتفاقية وتقويم إدارة الفترة الإنتقالية ومسار العلاقة والشراكة بينها. رئاسة تلك الإجتماعات مشتركة بين الرئيس سلفاكير والرئيس البشير بموقعيهما الحزبيين وإجتماعاتها دورية سنوية، إجتمعت هذه الآلية لمرة واحدة يتيمة فى 2006. وبعد إكتمال كافة الترتيبات اللوجستية لهذه الآلية فى 2007؛ فشل قيامها بسبب عدم الإتفاق على موضوع الحدود التى رسمتها مفوضية حدود أبيى. المستوى الآخر لهذه الآليات اللجنة القيادية المشتركة بين الطرفين ومهمتها متابعة وتنفيذ قرارات المجلس الأعلى للشراكة، تنعقد إجتماعاتها مرة على الأقل شهرياً ويترأسها أيضاً الرئيسين سلفا/البشير. وأخيراً اللجنة السياسية المشتركة (ترأس إجتماعاتها الأمناء العاميين للحزبين باقان أموم، نافع على نافع)، المستوى الثالث، فى التوصل إلى إتفاقات أو تفاهمات حول القضايا الخلافية التى شجرت بينهما.
فشل جانب المؤتمر الوطنى فى إجتماعات اللجنة السياسية برئاسة نائب رئيسه للشئون التنظيمية فى التلاحى حول القضايا الخلافية المطروحة على طاولة التفاوض حملته إلى إسباغ صفة التنفيذية على طبيعة تلك القضايا والتى لا يملك تفويضاً بالتوصل فيها إلى إتفاقات وبالتالى كان ترفيع تمثيل وصلاحيات هذه اللجنة لتصير اللجنة السياسية التنفيذية العليا برئاسة الدكتور رياك مشار نائب رئيس الحركة الشعبية نائب رئيس حكومة جنوب السودان والأستاذ على عثمان نائب رئيس المؤتمر الوطنى نائب رئيس الجمهورية. ماهى العقبات والمطبات التى إعترضت تنفيذ الإتفاقية؟!
من العقبات ما يجد تفسيره فى تعاسر الإنتقال من حال الحرب إلى حالة السلم ودرجة العداء التى أستحكمت لدى الطرفين، ومنها ما هو إصطناعى أستجادت صنتعه دوائر مؤتمروطنية خالصة. إبتداءاً برفضها تقرير الخبراء لمفوضية حدود أبيى Abyei Boundaries Commission ABC المقدم فى 14 يوليو 2005 وإنتهاءاً، وللمفارقة، بإنكارها قرار محكمة التحكيم الدولية بلاهاى Permanent Court of Arbitration PCA حول أبيى ايضاً أخطر القضايا العالقة بين الطرفين بالإضافة إلى ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب والمشورة الشعبية فى المنطقتين من جانب وترتيبات ما بعد الإنفصال من الجانب الآخر. عليه كانت أبيى المعضلة والثيرومتر المَقِيس لعلاقة الشريكين لجهة عدم مبارحتها مضابط إجتماعاتهما مطلقاً مذاك التأريخ وحتى هذا الآن. فتقرير الخبراء الذى أغلظ المؤتمر الوطنى القسم بقبوله كنهائى وملزم كما تقول المادة (5) من الملحق المفسر لبروتوكول أبيى التى تؤكد تعهد الطرفين بقبول التقرير وإلتزامهما بنتائجه وتُقرأ: “ترفع (مفوضية حدود أبيى) تقريرها النهائى إلى الرئاسة قبل نهاية الفترة قبل الإنتقالية. ويصبح تقرير الخبراء الذى توصلوا إليه حسب المنصوص عليه فى قواعد الإجراءات بخصوص (مفوضية حدود أبيى) نهائياً وملزماً للطرفين”، يقف شاخصاً على صناعة “الخرخرة” لتعريف حدود مضارب بطون وأفخاذ نقوك الدينكاوية كما قالت المادة (1) من الملحق المفسر لبروتوكول أبيى نفسه والتى تُقرأ: “بعد التوقيع، وبالرغم مما تضمنته المادة (5-1) من برتوتوكول أبيى، يتعين على الطرفين تشكيل (مفوضية حدود أبيى) المكلفة بتحديد وترسيم حدود المشيخات القبلية التسع التابعة لدينكا نقوك الذين حُولوا إلى كردفان فى 1905، ويشار إليها فيما بعد بمنطقة أبيى”. أنخرط الطرفان فى حوار سياسي دائرى حول “خرخرة” الوطنى إلى أن طار الملف إلى المحكمة الدولية. كما أن الحوار السياسي بين الطرفين حول العديد من بنود إتفاقية السلام الشامل لم يبارح لولبيته حتى تفجر الأمر بإنسحاب الحركة الشعبية لتحرير السودان من كل مؤسسات الشراكة وآلياتها بما فيها حكومة الوحدة الوطنية فى أكتوبر 2007 إحتجاجاً على تباطؤ الشريك فى، وعدم رغبته تنفيذ الإتفاقية.
فى إجتماع مكتبها السياسي المنعقد بجوبا فى الفترة من 4-11 أكتوبر 2007؛ سببت الحركة الشعبية لتحرير السودان ذلك الإنسحاب بتباطؤ المؤتمر الوطنى فى تنفيذ بعض البنود المهمة فى الإتفاقية كالآتى:
قضايا التحول الديمقراطى ومايتصل بها من موائمة القوانين المتعارضة مع الدستور وإتفاقية السلام الشامل
إستقلالية القضاء ونزاهته ومهنية الخدمة العامة
بالإضافة إلى تعطيل تنفيذ بروتوكول أبيى، ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، إعادة إنتشار القوات المسلحة، الشفافية فى إدارة قطاع النفط بالإضافة إلى الإحصاء السكانى والإعداد للإنتخابات
الإعتراض على قرارات رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان فيما يتعلق بتعيين كادرها فى السلطة التنفيذية أو التشريعية، ثم تفتيش الشرطة لدورها فى أنتهاك صريح لحصانتها.
لكل ذلك أستدعت الحركة الشعبية لتحرير السودان منسوبيها (المستشارين برئاسة الجمهورية، الوزراء ووزراء الدولة) إحتجاجاً على التلكؤ، والإنتهاك الممنهج لروح الشراكة المتساوية بينهما. أكدت الحركة الشعبية إلتزامها الكامل بتطبيق الإتفاقية لتحقيق السلام فى السودان وأردفت ذلك الموقف بإتخاذ العديد من الخطوات بعد إعلانها الأزمة أزمة وطنية منها:
كونت لجنة لإدارة الأزمة الوطنية SPLM Crisis Management Team CMT
إرسال خطاب من رئيسها لرئيس المؤتمر الوطنى رئيس الجمهورية نوفمبر 2007 تقترح فيه سبل الخروج من الازمة.
ناشدت الشعب السودانى لدعم قرار إحتجاجها لحماية إتفاقية السلام الشامل، كما دعت قواه السياسية إلى دعم تنفيذها
أعملت إتصالاتها بدول الإيقاد، الأمم المتحدة ومنبر شركاء الإيقاد للإضطلاع بدورهم فى دعم تطبيق الإتفاقية، تكوين لجان لمراقبة تنفيذها وعقد إجتماعات لمراجعة التنفيذ ذاته
إنقشعت غمامة الأزمة الوطنية بعودة الحركة الشعبية لتحرير السودان إلى ممارسة نشاطها عقب التوقيع على المصفوفة فى 11 ديسمبر 2007. شملت المصفوفة بجداولها الملحقة حلولاً لكل أسباب الأزمة، غير أنها لم تقوى على توفير قوة الدفع اللازمة لتنفيذ الإتفاقية مما دعا طرفاها إلى الإنتقال بخلافاتهما مرة أخرى إلى العواصم العربية (القاهرة، فبراير وأغسطس 2010)، الإفريقية (أديس أبابا، يونيو 2010) وإلى ما وراء المحيطات (واشنطن يونيو 2009) لمناقشة تلك الخلافات والإتفاق حولها بتوقيع إتفاقيات تكميلية لتنفيذ الإتفاقية الرئيسة وحلحلة الخلاف الحَرون، لكنه سرعان ما لاحت أزمة أخرى.
دعت الحركة الشعبية لتحرير السودان القوى السياسية السودانية بما فيها المؤتمر الوطنى نفسه إلى التلاحى حول الأجندة الوطنية التى إقترحتها وشملت خمس قضايا هى: 1) المصالحة الوطنية وتضميد الجراح، 2) التحوّل الديمقراطى، 3) أزمة دارفور، 4) الإحصاء السكانى والإنتخابات و5) حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان والمشورة الشعبية، تَمنَّع الوطنى وشاركت البقية. بعد إطلاعه على مخرجات ذلك الإجتماع عمد الوطنى إلى تجاهل، وعدم تنفيذ ما تواصت عليه الأحزاب فتنادت الأخيرة لمرة ثانية للبحث فى سبل حمل الوطنى إلى الخضوع إلى رغبة القطاع العريض الذى تمثله تلك الأحزاب، ما الذى أنتهى إليه إستبحاثهم؟ ذهبت القوى السياسية إلى تقديم مذكرة إلى رئيس وأعضاء المجلس الوطنى الإنتقالى تحثهم فيه على إجازة القوانين المتعارضة مع الإتفاقية والدستور القومى الإنتقالى. وبدلاً عن التعاطى الإيجابى مع ذلك الموقف، نشرت الحكومة آلتها القمعية فى شوارع الخرطوم وأوصدت كل الطرق المؤدية إلى البرلمان وأعتقلت من أمامه فى 7 ديسمبر 2009 الامين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان ورئيس كتلتها البرلمانية وعدداً مقدراً برلمانييها ومن وزرائها فى حكومة الخرطوم وفر من ذلك الإعتقال وزير الدولة بوزارة الداخلية. ما هى إلى دقائق إلا وطار الخبر فى دنيا السموات المفتوحة إذاعة لنبأ إعتقال الحكومة لقادة الحزب الشريك الذى تتقاسم معه ذات الحكومة ومن أمام البرلمان المؤسسة التى يفترض فيها الدفاع عن حقوق الشعب، وتبارت الوكالات ومحطات التلفزيونات الخارجية فى الإتصال ومحاورة المعتقلين من داخل زنازين حكومة الوحدة الوطنية، وعندما تكاثف عليها الضغط أوفد الرئيس البشير “مبعوثه” أحمد هرون إلى لقاء المعتقلين وإبداء موافقته على إجازة مسودات القوانين التى يريدون!! وتحت وطأة الضغط أجاز المجلس الوطنى الإنتقالى فى 29 ديسمبر 2009 ثلاثة قوانين هى إستفتاء جنوب السودان، إستفتاء منطقة أبيى والمشورة الشعبية بتوجيه من رئاسة الجمهورية وليس من رئاستها التى تضم إلى جانبه نائباه. قامت دنيا الخرطوم إثر ذلك التطور النوعى فى علاقة الشريكين من جهة وفى علاقة الحكومة وقوى الإجماع الوطنى من الجهة الأخرى ولما تقعد بعد. إذ شملت قائمة مطالب قوى الإجماع الوطنى قوانياً لما تجاز بعد مثل قانون الأمن الوطنى، النقابات، القانون الجنائى لتهيئة أجواء قيام إنتخابات حرة ونزيهة بالإضافة إلى حث البرلمان لإتخاذ الخطوات الضرورية لمحاربة الفساد وإيجاد حلول لقضايا المفصولين تعسفياً من الخدمة العامة. أعادت قوى الإجماع الوطنى الكرة حيث لما يرتدع البرلمان بمذكرة جديدة رحبت فيها بإجازة قانونى الإستفتاء لشعبى جنوب السودان وأبيى وقانون المشورة الشعبية لشعبى النيل الأزرق وجنوب كردفان.
إنتقل الصراع والخلاف من ساحة البرلمان إلى أخرى هى ساحة مفوضية إستفتاء جنوب السودان بسبب عدم الإتفاق على مؤسساتها وهياكلها الإدارية لإصرار المؤتمر الوطنى على السيطرة عليها بهدف عرقلة إجراء الإستفتاء نفسه. ولما تصدت الحركة الشعبية لتحرير السودان وحكومة الجنوب لكل تلك المحاولات المستميتة، إلتجأ الوطنى إلى آخر كروت اللعبة التى بحوزته، المليشيات الجنوبية المسلحة لزعزعة الأمن والإستقرار فى جنوب السودان بهدف الإطاحة بحكومته وتهيئة المجتمع الدولى والإقليمى لقبول فكرة تأجيل الإستفتاء عن عن موعده المحدد بدعوى عدم تهيؤ الجنوب والجنوبيين لممارسته. ناضلت الحركة الشعبية لتحرير السودان وحكومتها فى جنوب السودان ومارست من الضغوط بما نجح فى حمل الوطنى وحكومته على إجراء الإستفتاء فى موعده المضروب والإعتراف بنتيجته. كشفت نتيجة ذلك الإستفتاء (98.83% لصالح الإنفصال، 1.17% لصالح الوحدة) عن رأى الجنوبيين الأخير فى حكومة الوحدة الوطنية المكونة بموجب إتفاقية السلام الشامل حيث لم يلحظوا تغييراً يذكر يستأهل منح الصراع/الحوار المسلح السابق فرصة للتدوير فآثروا السلامة بإختيار إعادة بناء حيواتهم التى دمرها وأنهكها ذلك الصراع/الحوار.
لمرة ثالثة تربك الحركة الشعبية لتحرير السودان حسابات شريكها فى إتفاقية السلام بتعليقها لمفاوضات ترتيبات ما بعد الإستفتاء فى مارس 2011 إحتجاجاً على دعم، تسليح وتمويل المؤتمر الوطنى والقوات المسلحة للمليشيات الجنوبية وشرطت عدم عودتها للتفاوض بتوقف الوطنى عن ممارسة سياساته العدائية تجاه الجنوب. نفض “جُوَيّد” الإتحاد الإفريقى، نسبة إلى أجاويد، غبار سترته إستعداداً للتطواف بين الخرطوم وجوبا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وما أن يلتفح سترته إلا وتئن “المحفظة” الجنوب إفريقية المالية التى تتحمل الإنفاق على حركة الرئيس السابق تابو مبيكى. إنعقدت لأول مرة بإشراف لجنة الإتحاد الإفريقى قمة بين الرئيسين كير-البشير لإتخاذ قرارات مصيرية وإستراتيجية فى إتجاهى السلام أو الحرب إن لم ينجحا فى لجم قياد المتفلتين ضمن حزبيهما، خرجت القمة بإتفاق الطرفين على تشكيل لجنة أمنية من الطرفين بمشاركة الإتحاد الإفريقى لإستقصاء الحقائق على الأرض حول الإتهامات التى وجهتها، والدلائل التى قدمتها الحركة الشعبية وحكومة الجنوب. لم تشكل اللجنة ولما تستقصى شيئاً إلى أن تفجرت الأوضاع فى أبيى وفى جنوب كردفان تاركة وميض نار تحت الرماد.
صحافة الجمهورية الأولى .. وتنفيذ إتفاقية السلام الشامل
قدمت الحكومة الكندية فى أغسطس 2010 دعوة رسمية لطرفى إتفاقية السلام الشامل لزيارتها بغرض الإفادة من تجربتها فى عقد إستفتائين منفصلين لمقاطعة كويبك الفرنسية على التوالى فى 1980 و1995 على الرغم من الفارق الكبير بين التجربتين. برنامج الزيارة أعده بالكامل معهد الإدارة العامة ووكالة التنمية الدولية الكنديان، ترأس وفد الحركة الشعبية لتحرير السودان نائب أمينها العام د. آن أيتو بينما رأس وفد المؤتمر الوطنى “الكندى “د. قطبى المهدى!. فى واحدة من إجتماعات وفد الشراكة بشعبة التاريخ جامعة كونكورديا Concordia University، وَاجه أستاذ التاريخ Daniel Turp وفد المؤتمر الوطنى بحقيقة مفادها أن شعبته بالتعاون مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC أعدا دراسة بحثية عن دور وسائل الإعلام الرسمية المملوكة للدولة (الإذاعة والتلفزيون) فى تناول إتفاقية السلام الشامل بالشرح والتفصيل بالنسبة للمتلقين السودانيين الشماليين بما تضمنته من بنود سيترتب عليها مستقبل الجمهورية كحق تقرير المصير. نتائج الدراسة البحثية أثبتت أن لا التلفزيون ولا الإذاعة بثا برنامجاً واحداً يُعرِّف بالإتفاقية! أو يتشارحها حتى!! تلك المواجهة كانت أحد أسباب، إن لم يك السبب الوحيد، فى الإستغناء عن “بأبسة” الخدمات الإعلامية التى كانت تقدمها ال “BBC” عقب عودة الوفد الميمون.
نَتَولَّج بهذه الواقعة/المواجهة إلى مناقشة دور الصحافة المقروءة فى تنفيذ إتفاقية جاءت فى أعقاب إحتقان تأريخى أنهك العباد عقوداً طويلة؛ إذ كفتنا الدراسة سالفة الذكر شر الدخول إلى عش دبابير الصحافة المرئية والمسموعة “القومية”، لما لها من أدوار عظيمة إغتربت عنها طوال سنى الفترة الإنتقالية تبدأ بالتنوير والتبشير بالإتفاقية نفسها ولا تنتهى بتقريع الناكصُ عنها أو المُساعف على إنتهاكها. فدور الصحافة الوصول إلى مواقع الأزمات لإزالة الإحتقان والتشريح العلمى لأسبابها وتوعية الرأى العام بالحقائق لا غمطها. فى تلك الفترة الإنتقالية وقعت أحداث تناولتها بعض الصحف بالمقالات والتحاليل والأخبار كشفت عن جهلها بنصوص الإتفاقية وعن عجزها عن إستبطان روحها بالإضافة إلى الإستخفاف بالظروف الذاتية والموضوعية التى قادت إلى توقيعها مما يحمل على الظن أن الهدف الذى نهد له أولئك الكتبة والمتصاحفون ومن خلفهم مؤسساتهم الصحفية هو الإنتصار لذى عزوة، والإستئثار بذى حظوة وحسب بكل ما تحمله الكلمتين من معانٍ ومظان.
قبل وبعد وصوله إلى الخرطوم فى 8 يوليو 2005 عقب التوقيع على إتفاقية الشامل؛ إحتفت صحافة الخرطوم بالقادم الجديد الذى راحت تعدد مزياته وأفردت لها صفحات وصفحات، وخلعت عليه وعلى صنوه المفاوض من الألقاب والمدح ما لم تخلعه على غيرهما. فرجلا السلام أو بَطَليْه إنتهى أولهما إلى “هالك” فى دنياه الآخرة وثانيهما يتحمل تبعات لعنة نيفاشا أو كيفما إتفق توصيفها. وكما أسلفنا القول، لم تساهم الصحافة فى توعية العامة بما حوته الإتفاقية من بنود وتفاصيل، ولكنها شرعت، فى المقابل، فى الخوض فى شأنها العام دون الإستدلال بها أو بترجمتها القانونية، الدستور القومى الإنتقالى وذلك خطأ لا يجترحه من يدرك النواهى من صحاب العزوة والحظوة. إذن لم تعمل الصحافة جهدها فى إجتراح برامج وأدوات لمقابلة الواقع الجديد الذى أفرزته إتفاقية السلام الشامل ولتضطلع بدورها فيه، على العكس من ذلك تمكثت عند خصيصة واحدة، وقف الحرب، من مزاياها العديدة والعين الكليلة لا ترى إلى ما تتشوفه من مساوئ ولِعان.
كتب رئيس تحرير الرأى العام مرحباً بقرنق فى الخرطوم:” … فالمرحلة الإنتقالية ولكونها كذلك فهى مرحلة حساسة وشديدة الدقة وهذا يتطلب من شركاء الحكم المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية ومن يقبل مشاركتهما إختيار أفضل العناصر والإبتعاد عن تعيينات المجاملات والترضيات التى أرهقت الشعب فى كل مراحل تطوره الوطنى” وفى مقام آخر من ذات الكلمة “كانت التجارب الديمقراطية تنتكس لعدم كفاءة القائمين عليها وغرقهم فى قضايا لا تمس صميم الهم الوطنى بل تقع على هامشه لقد أتاحت لنا فرصة الإحتكاك بالحكومة والحركة من معرفة العناصر الكفؤة التى تملك قدرات هائلة فى كل من الحكومة والحركة ونأمل أن تدفعا بهذه العناصر إلى مراكز المسئولية وصناعة الإنجاز” كمال حسن بخيت، الرأى العام 8 يونيو 2005. كملة رئيس التحرير دعوة حق أريد بها باطل كونها تناصح شركاء الفترة الإنتقالية “شديدة الدقة والحساسية” إستناداً على “رهق الشعب ومعاناته” قبل توقيع إتفاقية السلام الشامل. هى دعوة تكشف النفاق الذى يتمتع به، ويمارسه الرجل. فتأسيساً على دعوته “اليوليوية” وحتى حولها السادس (يوليو 2005-يوليو 2011) لما يفتح الله قلب الرجل ليبر دعوته بالنصح والنقد لتعيينات وتنقلات وزراء المؤتمر الوطنى فى مستويات الحكم الأربعة القومى، الإقليم، الولائى والمحلى كما قالت إتفاقية السلام الشامل وسعت لتأسيسه على مدار فترة تنفيذها الإنتقالية وفقاً لمعاييره الكفاءاتية فى مقابل الإنتصار لأهل عزوته بالنيل من الحركة الشعبية القادم الجديد إلى مؤسسات الحكم “الوطنية” حتى تنتقى حبَّ كفاءة عناصرها من شوائبه، مما سنغشاه فى رصدنا لنماذج كتاباته فى الفترة الإنتقالية شديدة الدقة والحساسية.
كِتيِّبٌ آخر من أركان حرب رئيس التحرير الرأى العام راعه تسنم الجنوبيين لسلطة حقيقية على الحكم فى السودان، فكتب منبهاً: “الأصل فى القرارات أيا كان مستواها أنها تصدر بعد الدراسة والتشاور وخاصة إذا كانت قرارات رئاسية لأنها مسبوقة بالكثير من النظر والفحص والدراسة والتشاور أيا كانت سمة الرئاسة وموقعها من نظام الحكم”، و “بعد أن تولى الدكتور قرنق منصب النائب الأول وبعد أن أصبح شريكا فى مؤسسة الرئاسة صدرت القرارات وهى تشير إلى أنه وبعد التشاور مع النائب الأول صدر القرار” وأخيراً “صدرو القرارات بهذه الإشارة ربما يلقى بظلال الأفضل تجنبها وهى كأنما تقول أن القرار لن يصدر إلا بهذه الإشارة وهى تلقى بظلال تصور النائب الأول للرئيس وكأنه صاحب أو مالك لحق نقض قرار الرئيس” راشد عبد الرحيم، الرأى العام، 11 يوليو 2005. ما الذى قالته الإتفاقية فى هذا الشأن؟ تقول المادة (2-3-4) من الجزء الثانى من بروتوكول السلطة: “تتم علمية إتخاذ القرارات داخل مؤسسة الرئاسة بروح الشراكة والزمالة بهدف المحافظة على إتفاقية السلام”، وتقول المادة (2-3-6): “فيما يتعلق بالمسائل التالية يتخذ الرئيس القرارات بموافقة النائب الأول للرئيس” فيما تفصلت تلك المسائل فى المواد: (2-3-6-1): “إعلان الحرب وإنهاء حالة الطوارئ”، (2-3-6-2): “إعلان الحرب”، (2-3-6-3): “التعيينات الواجب على الرئيس القيام بها وفقاً لإتفاقية السلام (قيد التحديد)” و (2-3-6-4): “دعوة السلطة التشريعية القومية إلى الإجتماع وتأجيل جلساتها وتعطيلها إلى أحل غير مسمى”.
ذلكم هو نص الإتفاق ومرجعيته التى تستند عليها المؤسسات الإنتقالية المكونة بموجبه بما فيها رئاسة الجمهورية، لا الأصل الذى أشار إليه الكاتب. جهل الكاتب أو تجاهله لنصوص إتفاقية السلام الشامل لا يعفيه عن إستنكاه روحها والخلفيات التى أوجدتها، فنظام الحكم الذى أوجدته الإتفاقية لا هو بالنظام الفيدرالى ولا هو كونفيدرالى بل هى توليفة عز إنوجاد نظيرها بسبب من عدم توفر الثقة بين الجنوب والحكومات التى تقاودت نقض عهودها ومواثيقها (أجليناه فى مقال سابق الأخبار، الأيام، الشاهد وأجراس الحربة يوليو 2010). تقدمت الحركة الشعبية لتحرير السودان بمقترحات أجملتها فيما عرف ب”وثيقة ناكورو” والتى رفضها المؤتمر الوطنى إشتلمت ضمن أشياء أخرى على رئاسة دورية يتبادلها مناصفة قرنق والبشير. لكل ذلك لم يكن الكاتب موفقاً فى إشارته إلى أن الجنوبيين وقواهم السياسية “وجدوا وضعاً مميزاً” وغمطه لحقيقة أنهم، الجنوبيون، تسنموا سلطة فعلية لا ديكورية كما كانت قبل نيفاشا. على أن ممارسة رئاسة الجمهورية لسلطاتها لاحقاً بطرد ممثل الأمين العام للأمم المتحدة يانك برونك وإعلانه شخصاً غير مرغوب فيه دون مشاروة النائب الأول وموافقته تشهد على وَقادة ذهن، ومدى بصيرة الناص والمفاوض معاً لكل تفاصيل الإتفاقية.
يمضى بنا السجال لنلتقى برئيس تحرير الرأى العام مرة أخرى، ستليها مرات ومرات، لفضح تناقضاته العديدة. ففى حديثه عن المرحلة الجديدة التى هيأتها إتفاقية السلام الشامل فى نقاشة لموضوع الحريات وإنتهاؤه إلى حكم أن الحرية المطلقة تحرق الديمقراطيات حيث قال: “.. أما الأمر الثانى فهو رفع الرقابة عن الصحف ورفع حالة الطوارئ. المبدأ الذى نؤمن به أن الحرية هى الأصل فى العمل الصحفى والسياسى ونؤمن بأنه ليس هناك حرية مطلقة لأن الحرية المطلقة هى محرقة الديمقراطية نحن نريد أن نتعامل صحفياً مع مرحلة الحريات المقبلة تعاملاً مسئولاً نضع مصلحة الوطن فى حدقات العيون نبحث عن مصالحه وليس السبق الصحفى المثير الذى يضر بلادنا الجميع يعلم أن الصحافة غير المسئولة كانت آخر معاول هدم الديمقراطية الثالثة لذلك نريد أن نمارس حرية الصحافة بمسئولية كاملة نحافظ عليها حتى لا نفقدها ويأتينا أسوأ مما كان. إن مسئولية الصحافة فى المرحلة الإنتقالية مسئولية كبيرة عليها أن تكون السلطة الرابعة بحق وحقيقة وعلى الدولة أن توفر لها كل المعلومات وأن يفتح المسئولون قلوبهم ومكاتبهم كافة للصحافة ..” الرأى العام، 13 يوليو 2005.
حرية الصحافة التى تعلمناها فى قاعات الدرس هى حق الوصول إلى المعلومات وتبادلها وليس إستجدائها من مكاتب المسئولين ومن “قلوبهم”. على أن سدنة الإنقاذ “الإسلامية” ينتهون إلى تقييد نسبى للحريات لا تقرها شرائع سماوية ولا قوانيين بشرية ناهيك عن “دين” يقول كتابه: “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” ويقول فى موقع آخر “لست عليهم بمسيطر”، وتعلمنا أيضاً أنً أهداف الصحافة الحزبية هو تحقيق أهداف الأحزاب السياسية ويغلب عليها طابع الدعوة السياسية فى الأداء. الرأى العام ورئيس تحريرها يدعيان مخاشنة السلطة بالنقد والذم والمواجهة بيد، ويمهدون الطريق لممارساتها القمعية بتبرير الرقابة الأمنية باليد الأخرى. دعوة البحث عن مصالح الوطن لا “السبق الصحفى” التى أطلقها بخيت حملته إلى “الكشف عن مخطط لتخريب الخرطوم بتمويل أجنبى” على صدر صفحتها الأولى وأوردت تفاصيله على ذمة المركز السودانى للخدمات الصحفية فى 5 مارس 2011 بكل ما حمله الخبر من إتهامات مباشرة “للحركة الشعبية” من جهة ولكل القوى السياسية “الشمالية” من الجهة الأخرى.
تمضى الأيام وقرنق يستأحد بأخبار ومقالات وتحليلات صحافة الخرطوم فى النصف الثانى من يوليو التى تتبعت وأستظرفت فى آن معاً فكاهاته وقفشاته ولم تتخاذل الصحافة فى خلع الألقاب عليه وإطلاق التواصيف. وأخيراً مضى قرنق فتبارت الصحف فى تِعداد مآثره التى أنكروها طوال سنى حربه ضد الخرطوم بحكوماتها المختلفة وذهبوا إلى فِتيَش نقائص خلفه القادم إلى الخرطوم أيضاً.
فى حزنه على ذلك الرحيل كتب كمال حسن بخيت: “.. برحيل الدكتور الفريق جون قرنق النائب الأول لرئيس الجمهورية فقدت البلاد أحد أبنائها الذين عولت عليهم كثيراً فى ترسيخ السلام والتحول الديمقراطى. جون قرنق كان إضافة حقيقة للحكم فى السودان ولكن قضاء الله وقدره لا مفر منه” وأيضاً: “إن فقد الدكتور قرنق ليس بالأمر الهين وأن كل أهل السودان حزانى لهذا الفقد فقد كان رجل السلام ورجل الوحدة” الرأى العام 2 أغسطس 2005. وفى ذات العدد كتب راشد عبد الرحم متأملاً فى الشخصية الجنوبية: “تعرف الناس فى السودان وربما خارج منطقة الحرب أو الفى الخرطوم والشمال على صورة للدكتور جون قرنق بإعتباره رجل حرب وتمر وذلك لسنوات منذ الستينات وإلى ما بعد عام 1983 صورة الرجل كانت ترتبط بالعنف والقتال والقتل بيد أن الدكتور جون قرنق أحدث نقلة كبيرة فى السودان وبدأ الناس فى الخرطوم وفى السودان يتعرفون على صورة جديدة للدكتور جون قرنق صورة رجل السلام لقد أثبت قرنق فى سلجه أن شخصية جديرة بالتقدير والإحترام وأنه رجل جاد وصادق حارب بصدق وسالم بصدق”.
أهو ذات ال “قرنق” الذى جهدت الصحافة السودانية والآلة الإعلامية الحكومية طوال عشرين عاماً فى خلق صوره ذهنية فى العقل الشمالى؟ الم يكن المتمرد، بالمعنى السلبى للكلمة، فى مانشيتات الصحافة؟ وماصٌ لدماء ضحاياه من أبناء القوات المسلحة “الشرفاء” فى البرامج التلفزيونية؟ والفزاعة التى يستدر بها الكتاب عطف قرائهم؟ قرنق “أب قرون” بعد أن هبط الخرطوم وتلقاه مريدوه بالترحاب وأدى القسم عضواً فى مؤسسة الرئاسة لم يتخذ لم يتخذ من القرارات والفرمانات الرئاسية فى بحر واحد وعشرين يوماً ما يؤهل الحكم له أو عليه للموضوعية. وإن حكم عليه أولئك الصحافيون بمعيار تصريحاته المتفائلة فقدوا موضوعيتهم إن إمتلكوا، إذ أن الرجل لم يدخر وسعاً فى ترداد إيمانه بوحدة السودان فى أحلك الظروف، وإن لم يمتلكوا تلك الموضوعية فعليهم، من الناحية الأخلاقية، تبرير مشاركتهم فى تشويه صورة الرجل طوال تلك الفترة إن لم يكونوا جنوداً “شرفاء” ضمن كتائب النظام الإعلامية.
ما الذى قالوه عن “الخليفة” القادم؟ تَحشد “الزميل” ضياء الدين بلال للإجابة على تساؤلات أجهزة الإعلام ومراكز البحوث لسبر غور المخبوء “تحت قبعته السوداء التى لا تفارق رأسه كثيراً” بإستقراء أُغلوطة إنفصالية سلفاكير ووحدويته؟! فكتب مستقرئاً: (.. ويبدو أن “سلفا” راغب فى الإمساك بهذه الخيوط وأن يمضى فى إدارتها إلى نهاية “الميس” .. فقد رفع موبايله بعد يوم واحد من قبر دكتور جون قرنق ليتصل بالدكتور حسن الترابى ليبلغه أن كل شئ كما هو .. ثم أعقب ذلك بالإتصال بعبد الواحد محمد نور رئيس حركة تحرير السودان .. ليطمئنه بأن دارفور “فى البال” الدكتور نافع صرح للصحفيين بأن إتصال سلفاكير بدكتور الترابى لا يزعج المؤتمر الوطنى ..) وأضاف: (وأكثر الأدلة التى يستند إليها إتهام سلفاكير بالإنفصالية أمران أضيف إليها ثالث: الأول: أثناء نزاعه الأخير مع جون قرنق تردد على مدى واسع حتى من بعض منسوبى الحركة الشعبية أن أبرز إعتراضات “سلفا” على إدارة قرنق للحركة الشعبية إنشغاله بقضايا خارج نطاق الجنوب ومنها قضية دارفور .. وهذا أخذ كؤشر على إنكفائية سلفا. الثانى: العلاقة المتميزة التى تجمع بين سلفاكير ببونا ملوال، التى أتاحت للأخير على حسب إفادات أدلى بها فى حوار مع رئيس تحرير صحيفة الصحافة الأستاذ عادل الباز أتاحت له أن يزور مناطق فى بحر الغزال تابعة للحركة الشعبية تحت حماية “سلفا” دون إذن وموافقة الدكتور جون قرنق وقتها. وما يعرف عن بونا ملوال وما يعلنه هو عن نفسه أنه إنفصالى وضد مشروع السودان الجديد!! الثالث: وما يضاف إلى الإثنين التصريحات المفاجئة التى أطلقها السيد روجر وينتر المبعوث الخاص لوزارة الخارجية الأمريكية الذى قال بالخرطوم أنه غير منزعج من “نزعات” سلفاكير الإنفصالية لأنه-حسب وينتر- سلفا يمثل رأى الأغلبية فى الجنوب) وأختتم ضياء إجابته بتساؤل عن صراحة وحدوية قرنق أبتداءاً بالقول: ( ولكن السؤال الذى يبدو أكثر أهمية من كون “سلفا” إنفصالياً أم وحدوياً .. وهو هل كان قرنق وحدوياً صريحاً فى وحدويته، أم أن الحالة العزائية التى إعقبت وفاته وقربت من “يوم شكره” هى جعلته يبدو وحدوياً بلا جدال!!) الرأى العام 10 أغسطس 2005.
التشكيك فى “صراحة وحدوية” الحركة الشعبية الذى إجتهد، وما يزال يفعل، فى إثباته “الزميل” ضياء بقراءاته ومقالاته الكثيرة التى تضامت فى سِفريْه “الشماليون فى الحركة .. مَنْ إختار مَنْ؟” و “جنوب السودان .. بين قرنق وسلفا” نعتكف إحتشاداً للرد عليه بسفر مماثل، نأمل أن يسعفنا الوقت فى تشاركه معه قبل أن تنقضى الرخصة الزمانية الممنوحة للجنوبين فى الشمال، ولكن غرض هذه المقالة/الورقة نكتفى بإطارها الزمنى المقيد بالفترة الإنتقالية وبالتالى مرجعيتها الأساس إتفاقية السلام الشامل. فضياء وأضرابٌ له فى الأدب وفى قلته يتهمون بعض قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان إن لم يكن كلها “لإرتكابهم” أفعال تجرمهم وتدرجهم فى قائمة المخالفين الذين يتوجب إنزال العقاب عليهم. فالمعنى القانونى “للإتهام” هو إجتراج شخص ما أو مؤسسة ما لفعل تترب عليه أحكام عقابية إرتضتها وفقاً لقوانين ودستور معينين. لهذا تصبح “الأدلة التى يستند عليها إتهام سلفاكير بالإنفصالية” قرينة غير ذات بال أو معنى فى بلد يعتمد دستورها الإنتقالى بالأساس على إتفاقية تشكل مرجعيته الوحيدة والأساسية. تقول إتفاقية السلام الشامل “شعب جنوب السودان له الحق فى تقرير المصير وذلك، ضمن أمور أخرى، عن طريق إستفتاء وضعهم مستقبلاً” المادة (1-3) من بروتوكول مشاكوس، وتقول المادة (2-5) من ذات البروتوكول: “عند نهاية الفترة الإنتقالية التى مدتها ست (6) سنوات، يجرى إستفتاء لشعب جنوب السودان المراقبة الدولية يتم تنظيمه بصورة مشتركة من جانب حكومة السودان والحركة الشعبية/الجيش الشعبى لتحرير السودان لكى: يؤكد وحدة السودان عن طريق التصويت لإعتماد نظام الحكم الذى تم وضعه بموجب إتفاقية السلام، أو التصويت للإنفصال”. وتقول المواد (4)، (5) و(6) من قانون الأستفتاء “يمارس شعب جنوب السودان حق تقرير المصير من خلال الاستفتاء لتحديد وضعهم المستقبلي وفقاً لأحكام اتفاقية السلام الشامل والدستور وهذا القانون”، “يجرى الاستفتاء المنصوص عليه في المادة 4 أعلاه، في جنوب السودان واية مواقع أخري قبل ستة أشهر من نهاية الفترة الانتقالية، تنظمه المفوضية بالتعاون مع الحكومة وحكومة جنوب السودان وبمراقبة دولية” و”يصوت شعب جنوب السودان عند ممارستهم حق تقرير المصير من خلال الاستفتاء بالتصويت، إما:- (1) لتأكيد وحدة السودان باستدامة نظام الحكم الذي أرسته اتفاقية السلام الشامل والدستور، أو (2) الانفصال”.
أما الأدلة التى أستند، ويستند عليها ضياء فى سعيه لسبر أغوار الإنفصالى التَهِيم تُناقض نفسها بالدرجة التى تُغَلِّب الشك لمصلحة الفريق المَدِين. “فرفعه لموبايله لبلاغ دكتور الترابى وطمئنة عبد الواحد” قبل أن تطأ أقدامه أرض مطار الخرطوم تُسقط إعتراضاته على قرنق “بإنشغاله بقضايا خارج نطاق الجنوب بما فيها دارفور”. الدليلة الثانية فى قائمة أسانيد عريضة الإتهام “علاقة متميزة تجمع سلفاكير ببونا ملوال” ونتساءل عن ماهية بونا السياسية وعن ماهية مشروعه الإنفصالى الذى طرحه لنتبصر مع الكاتب الأثرة التى أعملها فى قائد منظومة سياسية كأن الحركة الشعبية ليحيد عن صراطها المستقيم وهى، الحركة، وهو، سلفاكير، قاتلا الإنفصاليين بينهما منذ بداهة عهديهما بالنضال السياسى والعسكرى فى سبيل وحدة السودان لا إنفصاله؟. ولئن صادق الفريق سلفاكير ميارديت وزامل بونا ملوال برغم إنفصاليته فذلك مما يحسب له وليس عليه كونه يستمسك بطروحاته الفكرية والسياسية ولا يقسر الآخرين على تبنى ما يعتقد فيه من أفكار وآراء إلا بالتى هى أحسن. أما التساؤل عن “صراحة وحدوية قرنق” فيجيب عنها من يستخدمون أرديته الفكرية وينكرون عليه حياكتها لان قرنق تجاوز الأسم إلى رمز لرؤية أعمل فيها فكره وجهده برفضه لكل المسلمات الآيدولوجية ومضى هانئ البال.
لا يذكر النفاق إلا وتجد رئيس تحرير الرأى العام حاضراً يَهرف بما لا يعرف ويُهرطق بما ليس له به علم أو دراية. قال فى 11 أغسطس 2005: “لماذا لا يتساءل الذين أندهشوا لشخصية قرنق الوحدوية وتصريحاته المتفائلة بوطن موحد .. لماذا لا يتسائلون عن مصادر إلهامه ومنبع قناعاته التى يبشر بها الأجمعين؟ أليسو هم الشماليين الذين نحوا منفستو الحركة القديم جانباً .. ثم حملوها لتبنى أجندة التفاوض” تهريف الرجل بما لا يعرف عن الشمال الذى عناه قرنق وحركته من بعد، فالشمال فى حافظة الرجل المعرفية هو الشمال النيلى بمعناه الإثنى وليس الشمال الجغرافى. الحركة الشعبية لتحرير السودان لم تأخد بعدها القومى؛ على الرغم من تبنيها لأطروحة سياسية لكل أهل السودان، إلا بعد أن إنضم إليها الناس زرافاتٍ وزرافات من الشمال بمعناه الجغرافى (النوبا والفونج) والإثنى (الشمال النيلى) وأصبحت منبراً جماهيراً تلاقت فيه المجموعات الجنوبية والشمالية لتحقيق أهدافهم المشتركة تحت قيادتها. أما هرطقة الكاتب بالحديث عن تأريخ تفاوض الحركة وحواراتها مع حكومات الشمال وقواه السياسية وهو تأريخ طويل راكم لدسها خبرات تفاوضية وساعدها على معرفة سايكلوجية المفاوض الشمالى. على أن تفاوض الدكتور قرنق والأستاذ على عثمان فرضته ظروف موضوعية وذاتية ليس من بينها أداور لعبها د. منصور خالد وياسر عرمان، كما ليس من بينها بالضرورة وساطته، المهرطق، بين قرنق وطه. ونتلبث كثيراً عند إلتزام أهل الصحافة بالتعامل المسئول مع الأحداث والذى قطعه كمال حسن بخيت على نفسه وفى أكثر من موقع وأكثر من مقال لنكتشف أنه محض مداد أُسيل إذ لم يف الرجل ولا زملاؤه بالعهد الذى قطعوه. قال كمال فى ذات الكلمة: “وينتظرنا نحن أهل الكلمة جهد كبير بضبط العبارات وتوخى الدقة والأمانة الصحفية والوطنية فى تحليلينا للتغيير الكبير فى قيادة الحركة وإنصاف سلفاكير ورفاقه والتمهيد الجيد لإنزال إتفاقية السلام إلى أرض الواقع دون تزييف وصيد فى ماء عكرة” ولأن الرجل ينفعل بأحداث اليوم التى يجايلها يكتب بلا فكرة هادية يمكن أن تستشفها من بين ثنايا كتاباته العديدة. كتب عن تداعيات مقتل قرنق مشرحاً دوافعه وأسبابه قائلاً: ” إذ أن الطرفين ولاية الخرطوم ووزارة الداخلية لم يتحسبا لما سيحدث عن إعلان وفاة الدكتور جون قرنق.. وأستباح أبناء الجنوب الخرطوم التى إحترقت بأحداث الشغب” على الرغم أن من بين أبناء الجنوب التهام، نيال دينق وآخرون، كانوا مع قيادات الدولة يعملون على إحتواء تلك الأحداث. ويقول فى ذات المقال: “وكم نبهنا إلى خطورة الوضع فى العاصمة منذ فترة طويلة وأشرنا بشكل واضح إلى “الكماشة” التى تلتف حول الخرطوم وإلى الخلايا النائمة فى السوق العربى وغيره.. التى توقظ فى الوقت المناسب وهاهى أستيقظت وإحترقت الخرطوم”.
إتهام الجنوبيون بلا أستثناء أو تبعيض ب “إستباحة الخرطوم وحرقها” والتنبيه إلى “الكماشة” وخلاياها النائمة إستبحاث خطير وإستنتاج أخطر، إن كان الإستبحاث أساس النظر والتعامل مع بعض القوميات التى تشكل النسيج السكانى للخرطوم عاصمة السودان متعدد الأعراق والألوان والألسن، وإن كان ذلك الإستنتاج هو الإتكاء على ما هو شائع ومألوف من نزعات التعالى الثقافى فذلك يقدح فى مسئولية الصحافة، التى يتحدث عنها الرجل، فى تعزيز ثقافة السلام والتصالح فى وطن نال أكثر من حظه فى الإحتراب والشقاء والمعاناة. يكشف بصورة أكبر التعريص والنفاق الإجتماعى الذى يَسْتِكن “قلوب” أمثاله المعطوبة. أنظر أيضاً ما الذى أقتضاه “توخى الدقة والأمانة الصحفية والوطنية” بعد مقالة 11 أغسطس السابقة قال: “منصور وياسر والواثق.. وغيرهم من الشماليين كان لهم دور كبير فى أن يكون د. جون قرنق وحدوياً .. بالرغم من أن البعض يؤكد أن وحدوية قرنق التى يتحدث عنها تعنى أنه رجل توسعى يريد حكم السودان!!” التعجب والحيرة من عندنا والله لا يحير مؤمن.
ليس بعيداً عن ذلك التعالى كتب راشد عبد الرحيم منتقداً اللباس الذى يتزيا به النائب الأول لرئيس الجمهورية الفريق سلفاكير ميارديت: “.. والمنصب الذى يتولاه السيد سلفاكير هو منصب إضافة إلى مافية من مسئوليات جسام هو أيضاً منصب يعبر عن الأمة السودانية وبالتالى يرمز إلى الشخصية السودانية وربما تكون المراسم أمراً عسيراً على الناس بيد أنها أمر لازم لترتيب شأن الدولة وفى المراسم يعتبر الزى واحداً من الدلالات القوية والرمزية المهمة وهذا يعنى أن السيد نائب رئيس الجمهورية لا بد أن يعبر بشكل واضح عن الأمة السودانية فى مجالات أهمها مظهره وزيه ولغته …. ربما يتطلب المنصب وضروراته من السيد نائب رئيس الجمهورية عنتاً فى اللسان والزى ولكن هذا قدره ولا يد أن يعبر الرجل الثانى فى الدولة عن وجدان كافة الناس زياً ولسانا بعد أن يعبر عبر عنهم بياناً وشعوراً ومسئولية” ورغماً عن أنف إتفاقية التى تقول: “تعتبر جميع اللغات المحلية لغات قومية يجب إحترامها وتنميتها وتعزيزها” المادة (2-8-1)، “تكون اللغة العربية بإعتبارها اللغة الرئيسية على الصعيد القومى، واللغة الإنجليزية، اللغتين لأداء أعمال الحكومة القومية ولغتى التدريس فى التعليم العالى” المادة (2-8-3).
كنا قد كتبنا مستنكرين إتفاق بعض رؤساء تحرير الصحف فى لقاء جمعهم بمدير جهاز الأمن والمخابرات، الفريق صلاح قوش، حول ضرورة وجود شكل من أشكال الرقابة على الصحافة يتم الإتفاق عليه لاحقاً (عَنَّناهُ “الفريق سلفاكير .. أعاطل عن ممارسة السِيادة الوطنية .. أم هناك من يعملون علي تقويض سَيادتُه”، فبراير 2009). تقييمنا لتلك العلاقة قسناه على مسطرة علاقة الصحافة بالحكومة بمختلف مؤسساتها وأنتهينا إلى أنه لو قيض لها أن تكون حرة بوصفها سلطة رابعة، فيجب أن تثور علاقتها بالسلطات الحكومية الثلاث التى تسبقها فى الترتيب الهرمى. وبمثلما تقاصرت، أو تقاعست عن ممارسة سلطتها فى تقويم أداء الحكومة بسلطاتها، فعلت، لاحقاً، ذات الشئ لسلطتها وعمدت إلى مدارة عجزها وستر عوارتها وسوئتها معاً.
نظم مجلس الصحافة والمطبوعات بالإشتراك مع شبكة الصحفيين السودانيين فى مايو 2011 ندوة ب “مركز الشهيد الوبير محمد صالح” إنتخب لها عنوان: “الصحافة .. مستقبل مفتوح على إحتمالات شتى”. المتحدث الرئيس فيها الأستاذ عادل الباز، رئيس تحرير الأحداث وعقب عليه الأستاذين محجوب عروة، عثمان ميرغنى، مالك صحيفة السودانى سابقاً، ورئيس صحيفة التيار على التوالى وأدار الندوة العبيد أحمد مروج، رئيس لجنة الشكاوى بالمجلس، المتحدث الرسمى بإسم وزارة الخارجية وضابط جهاز الأمن والمخابرات فى رواية لست أكيداً من صحتها. ضمت الندوة أيضاً إلى جانب المذكورين صحفيي الشبكة، ناشرين، معلنين بالإضافة إلى الموزعين، الغائب الوحيد عن “ربطة المعلم” تلك كان المتلقى المستفيد من منتوج الصحافة. لما لم يكن متاحاً حضوره لتلك الندوة ليشارك بدلوه فيها، كان حقيقاً بالمنظمين إطلاعه على مخرجاتها إن هم جبنوا فى الدفاع عن حضوره لها ولكن!! إتفق المجتمعون فى مستهل الندوة على عدم نشر غسليهم “الوسخ” وتعريضه للرأى العام بدعوى لكل مهنة مشاكلها!! ومضى المتحدث بعد أن أُذن له لتشريح واقع الصحافة ومعاناة الصحفيين بل ومهاجمتهم ووصف بعضهم بعدم الإنتماء إلى المهنة على خلفية إنخراط بعضهم فيها بغرض الإستثمار التجارى (الناشرين والطابعين) أو بغرض الكسب المادى (الصحفيين)، مما يؤكد زعمنا الذى إنتهينا إليه بمنافقة الصحفيين فى تناول قضايا الشأن العام وتشكيل وعى العامة الذين يبتاعون هوى الكتبة.
فى حادثة أخرى؛ تخاصم الأستاذ عادل الباز رئيس تحرير جريدة الصحافة حينها أما القضاء ضد د. لام أكول وتيلار دينق بسبب مقال كتبه الأستاذ الحاج وراق، رد الله غربته، قضت المحكمة بغرامة مالية يدفعها الأستاذين لكلا الشاكيين. “تضامن” الوسط الصحفى والقراء على حد سواء لجمع المبالغ المطلوبة والسداد عنهما وكانت تجربة نظنها علمت الباز درساً بليغاً فى مهادنة أصحاب اليد “الطايلة” أمثال أكول وتيلار، ما هو الدرس المستفاد؟ كتب السيد باقان أموم، الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان محاوراً (الباز .. والحوار القويم، 20 مارس 2011) الأستاذ عادل الباز رداً على مساجلة الأخير (حوار مع باقان، ومماحكات صغيرة 15، 16 و 17 مارس) للأول بعد أن حرضه على إثبات إتهامه للوطنى بزعزعة أمن وإستقرار الجنوب وإطلاق الوثائق التى بحوزته، ولما فعل كتب الباز تحت عنوان مماحكات صغيرة متسائلاً عن مغزى نشر الوثائق التى طالب بنشرها إبتداءاً قائلاً: “هناك حروب كلامية تشتعل هذه الأيام فى السياحة السياسية رغم أنها حروب لا طائل من ورائها ولا تفيد أحداً بل هى نموذج لهرج الساحة السياسية وضيق أفقها وعدم مقدرتها على التسامح والدوران فى فلك المماحكات الصغيرة”.
بعث الأمين العام برده المكتوب والممهور بتوقيع يده قائلاً: “.. والواقع المعاش اليوم يقول بأنه لا تدور حروب كلامية بل والأخطر يشعل المؤتمر الوطنى بالوكالة عن طريق دعم وتسليح مليشيات حرباً حقيقة فى جنوب السودان فى ولايات أعالى النيل (لام أكول)، جونقلى (جورج أطور) والوحدة (قلواك قاى) من مركز الخرطوم وتحمل مانشيتات الصحف السيارة الصادرة فيها أخبار تلك الحروب والأحداث الصحيفة ليست إستثناء من تلك الصحف، فخطط إعلان حروب وإنطلاق المليشيات من الخرطوم، وإعلان “السلطان الفريق الشيخ عبد الباقى أكول أييى، واللواء “المليشياتى” توبى مادوت وغيرهما ليست ببعيدة عن الأذهان”. نشر الباز مقال الأمين العام ناقصاً تنصيص كلمتين هما (لام أكول) على الرغم من مسئولية كاتب المقال عن حديثه وإتهاماته، وإن لم يكن لتلك الإتهامات من مراوغة قانونية تعفى الباز من “الحبس” ومن “الدفع” فكان من باب أولى الإشارة إلى إلصاق المسئولية بكاتب المقال.
صحافة الخرطوم التى لم تخلُ من كيل السُباب والتقريع لقادة الحركة الشعبية ك “العبلانج” التى أطلقها من قبل صاحب الرأى العام، وإتهام حكومة الجنوب والجيش الشعبى بالسطو على المال العام وتقتيل المواطنين بالإضافة إلى قضايا النائب الأول لرئيس الجمهورية الذى لم يحصنه موقعه الدستورى من مرمى نيران سهام الإنتياش والإتهام، ترقد فى بطن المحاكم مدللة على عطب وإختلال موازين اللا معقول فى سودان الجمهورية المَنعِيَّة.
أخيراً نبدى أن الإسترخاء العقلى والإستكانة إلى الشائع المألوف طوال سنى الفترة الإنتقالية شكلا الثيمة الغالبة التى أقعدت الصحافة عن أداء دورها المعرفى والرسالى فى تلك الحقبة الحرجة من تأريخ السودان. فمشاكل السودان دوماً من صنع غيره ولا يد لأبنائه فيها، والسودان ساحة لصراع أجندات الكبار يستخدمون فيها مخالب داخلية تنغرز فى خاصرة الوطن “العزيز” فكرة أساسية أستبسلت الصحافة فى أثباتها. وعندما توفرت السانحة الوحيد لذلك الوطن ليكما يتوحد طواعية ويكون وطناً للجميع بحق وحقيقة إشترك الجميع فى رجم السانحة الأخيرة وإجتهدوا فى إبراز كل نقيصة نيفاشية فما الذى حصدوه، أستقل جزء من الوطن إستراح أقرانهم فيه إلى حتمية دونيتهم وما زالت أجزاء منه يتهددها ذات العَرَض المؤدى إلى الإستقلال.
خاتمة:
إمتحن السودان وأهله فيما ينيف عن نصف قرن من الزمان أشكالاً مختلفة من التجريب الفكرى والسياسى والإجتماعى ضربته فى خصيصة مهمة من خصائصه، التسامح. إجترار الماضى والتأريخ على النحو الذى أعملناه فى هذه المقالة لن يجدى إلا بالقدر الذى يستقرئ به ذلك التاريخ لإستخلاص الدروس والعبر وما أكثرها. ولئن قنطنا من فشلنا فى تبنى مشروع وطنى يعظم القواسم ويبعد الفوارق، فلا ينبغى أن نستيأس من أجيال قادمة قد تفعل. على أنه تظل العوامل والأسباب التى أدت إلى هذا الطلاق العنيف حاضرة تتحدى الدولتين الجديدتين، فالسودانيين الشمالى والجنوبى عبارة عن مجتمعات بدائية بمعطيات العصر الذى نحياه وهما بحاجة إلى التصالح مع مواطنيهما. وصدارة السودان لقوائم الدولة الفاشلة (الشمالى) والهشة (الجنوبى) والدول التى لا تمتلك رصيداً فى بنك حقوق الإنسان الطبيعية والسياسية والأثر التراكمى لممارسات حكومات الصفوة السياسية التى تعاورت حكم السودان من جانب، والمفارقات بين ما قالت به إتفاقية السلام الشامل ونص عليه الدستور الإنتقالى وبين الممارسات العملية فى الحكم والسياسة من الجانب الآخر مما أدي إلى تمزيق السودان؛ هى تجارب وممارسة تحكى أكثر ما تفعل عن خطورة إستعداء الدولة لمواطنيها.
غير أن دولة السودان الجنوبى ينتظرها تحدى أعظم، فعلى الرغم من الإنجازات غير المسبوقة التى حققتها حكومة الجنوب خلال الفترة الإنتقالية ستكون المعيار الذى سيتحدد بموجبه أداؤها بعد الإستقلال حيث لن يقوى الحديث عن وجود دوائر خرطومية تعرقل تنفيذ المشاريع التنموية وتتمنع عن إطلاق سراح أموالها على الإمتحان. كما أن على حكومة الجنوب القادمة تجذير ثقافة السلام والتعايش السلمى وأنسنة مجتمعاتها التى أكتسبت بفضل الإحتراب الطويل ثقافة قد لا تنذر بمستقبل واعد لأجيالها القادمة، بإبتداع صيغ تعاقد إجتماعى تهيئ الظروف لبناء الدولة الجديدة وتنمية مجتمعاتها. كما عليها تطبيق شعاراتها وبرامجها التى طرحتها فى السابق من نقل المدينة إلى الريف وغيرها من الرؤى الإقتصادية والتنموية التى تتضام بين أغلفة منشوراتها العديدة. وبالإضافة إلى قضايا الأمن الداخلى والخارجى وإدارة مشاكل الإنتقال من مرحلة إدارة حكومة إقليمية إلى مرحلة إدارة وطنية؛ فعلى حكومة الجنوب أن تضع نصب أعينها الوفاء بالدين الذى يحيط بعنقها لشعب جنوب السودان شريكها فى النضال وإنجاز الحرية التى إنتظرها طويلاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.