طبعت سيرتي الذاتية ، وصورت أوراقي الثبوتية وأوراق شهاداتي العلمية ، نسخة واحدة فقط ،، عادة حفظتها أوراقي عن ظهر قلب ، أصور عدة نسخ ، استعمل واحدة ، وأمزق الباقي .. قررت أن أراجع نلك الوزارة ، فقد قمت بتقديم طلب توظيف فيها منذ ما يقرب السنة ، لعل أحدهم تعثر بها وقرر أن يقابلني ، ولكنه لا يعلم كيف يتصل بي ، فانا قد قمت بتغير رقم هاتفي المحمول منذ فترة لا بأس بها .. استقبلني أمن الوزارة بابتسامة بشوشة ونبرة هادئة خاطبني : إلى أين مقصدك ؟ ” أريد أن أراجع طلب توظيف قدمته منذ فترة ” . ” مكتب تقديم طلبات التوظيف في الطابق الخامس ” . ” شكراُ لك “. سرت و أنا أُتمتم .. إذا كان مكتب تقديم الطلبات الطابق الخامس ، فأين سيكون مكتب المدير ؟؟.. في موقف السيارات ” الباركنج ” ؟؟؟ سأصعد بالمصعد .. أي همة ستقوى بها قدماي الى الطابق الخامس ؟ المصعد مشغووول .. حسناً ، إلى الدرج .. الى الدرج .. صعدت الدرج ووصلت إلى الطابق الأول ، أبواب مكاتبه جميعها مشرعة ، تسللت عيناي داخلها ، فما رأيت أحدا ، وطاولاتها خالية إلا من قلم . هل يعقل أن تكون كل هذه المكاتب غير مشغولة ؟؟ لمَ لا… قلت في نفسي 6 غرف فارغة وبها 3 مكاتب ،، إذن هناك 18 وظيفة شاغرة ، لي ولصديقاتي الغاليات ولزميلاتي بالدفعة.. ها قد شغلنا الطابق الأول . أكلمت مسيري الى الطابق الثاني ، تذكرت غرفتي التي سئمتها و سئمتني ، فأنا قبل أن أُنهي دراستي الجامعية لم أكن أدخلها إلا للدراسة والنوم ، ولكنها الآن أصبحت رفيقتي البغيضة ، الآن سأتركك ساعات النهار بأكملها ، وذلك السرير الذي كلما هممت بمفارقته من زاوية كلما شدتني زاوية أخرى قائلة : عودي ، ليس لكِ إلا أنا .. فأعود إليه مستسلمة … ما إن وصلت الطابق الثاني ، حتى ضربت مسمعي صوت ضحكة أتت من آخر الممر ، استفزتني جداً ، أخذني فضولي إلى ذلك المكتب ، تقدمت خطوة داخل المكتب لأرى من هي صاحبة تلك الضحكة ” ….. ” ، وإذ بي أرى موظفة كانت تجلس على طاولة مكتب يجلس وراء مقعده رجل طاعن بالسن ، فانتبه الرجل إلى ظلي ، وتنحنح ، نزلت الفتاة عن الطاولة ورتبت هندامها ، لم أعرف ماذا أقول ، فسألت عن مكتب تقديم طلبات التوظيف ، رد عليَّ الرجل المراهق وقال: الطابق الخامس يا بنية .. خرجت من المكتب وقد تذكرت صديقة لي كانت قد توظفت بإحدى وزارات رام الله بعقد نصف سنوي ولم يتم تجديد العقد ، عندما سألتها عن سبب عدم تجديد عقدها ، قالت لي حينها : لم أقبل أن أجلس على الطاولة … قلت لها بعفوية بريئة : لماذا ألا يوجد كراسي في الوزارة ؟؟ فضحكت صديقتي ضحكة لم أعهد مثلها منها من قبل ، اليوم يا سادتي علمت ما معنى تلك الضحكة .. يوجد أيضاً بهذا الطابق مكاتب شاغرة ، لم يقولون لا يوجد شواغر ؟؟.. هُنا ستتوظف شقيقتي وزميلاتها بالدفعة ، فهن لا يتجاوز عددهن ال 8 .. الفيس بوك سأتركك ثماني ساعات نهاراً ، خمسة أيام إسبوعياً ، سأرتاح قليلاً من ” اعجاب ” و “ تعليق ” ، أعلم جيداً بأنه من خلالك ثارت الشعوب على رؤسائها وحكوماتها وعلى وضعها المأساوي ، لكنني أنا التي سأنتفض عليك هذه المرة ، سأخلعكَ نهاراً وتعيدني الى عصمتك ليلاً .. لقد تعبت من الصعود على قدماي ، سأستخدم المصعد ،،، لا يزال مشغولاً !!! وصلت الطابق الثالث ، موظف هنا وأخرى هناك و أوراق مبعثرة على المكاتب ، اعتقدت أنني في وزارة أخرى ، لكنني وجدت غرفتين فارغتين ، فعلمت أنني ما زلت بهذه الوزارة ، 6 شواغر ، لمن ، لمن ؟؟ لمن يشاء .. فأنا قد أمنت نفسي و صديقاتي وشقيقتي وزميلاتها ، من باب الأقربون أولى بالمعروف ، ” أعلم جيداً كنه تلك الابتسامة التي علت وجوهكم ، فزمن المصالح يا سادتي لم يولي بعد ” .. أمي الغالية ، أعلم أنكِ سئمتني وسئمتِ تلك العقدة المربوطة بين حاجباي ، وذلك التذمر من كل شي ، لكن الآن لن تريها وربما لن تريني أنا أيضاً ، سأترك لك وظيفة البيت التي كنت أشغلها عنك ، فالآن جاء دورك ، فأنا الآن أصبحت موظفة ….. قادتني قدماي حتى وصلنا الطابق الرابع ، كان مزدحماً بالموظفين والمراجعين ، فمكاتب هذا الطابق مختصة بطلبات المراجعين وشكاويهم . عزيزي ماركيز ، سأعيد كتابك ” ذاكرة غانياتي الحزينات ” بجانب رفاقه من مؤلفاتك على الرف المخصص لك في خزانة كتبي ، لن أسهر بعد الآن ، يجب ان أصحو مبكرة ونشيطة من أجل عملي ووظيفتي التي انتظرتها بفارغ اللهفة . استأنفت مسيري حتى وصلت أخيراً الطابق الخامس ، أخذت نفساً عميقاً ، فلقد تعبت من الصعود ، وتعبت بنات أفكاري من التحدث ، أخذت نظرة خاطفة على العناوين التي تعلو رأس كل باب ، حتى رأيت غرفة قد علا بابها عبارة مكتوبة ” مكتب تقديم طلبات التوظيف ” ،، هنا حلمي سيتحقق … طرقت الباب بخفة لكي لا أزعج تلك الموظفة التي رأيتها منهكة بترتيب أوراق مكتظة على طاولة مكتبها ، أذنت لي دون أن ترفع رأسها لتعلم من الذي يريدها ، ” وهذه الحركة أنا أبغضها جداً ، أنها استخفاف بي ، أعلم جيداً أنك مشغولة ، لكن أيضاً كوني لبقة مع المراجعين ” ، لم أدخل حتى رفعتْ رأسها وقالت : تفضلي أي مساعدة ؟؟ رددت عليها التحية ، وبادرت بحكايتي بأنني قد قدمت طلبا عندهم منذ فترة وهكذا ، قاطعتني وقالت : ما اسمكِ ؟ قلت لها وقامت بالبحث عن أوراقي حتى وجدتها ، وقالت : ها هو طلبكِ ، حدثت نفسي قائلة : اذن لم يتعثر بأيدي أحد ! ثم قالت : راجعيه وإذا كان هناك أي تغيير قومي بتعديله ، نعم هناك تعديل برقم هاتفي فلقد قمت بتغيره منذ فترة لا بأس بها ، فقالت : عدليه إذن ،، قلت لها أنا متأكدة أنكم ستتصلون بي خلال اليومين القادمين ، ردت بنبرة علتها الدهشة : وما الذي جعلكِ متأكدة إلى هذا الحد ؟؟ قلت لها : لأن لديكم ما يقارب الثلاثين وظيفة شاغرة في الوزارة ، إذن ستحتاجون من يشغلهم .. ضحكت وقالت : إنهن مشغولات يا عزيزتي . كيف مشغولات ؟ وأين موظفيها ؟؟ ردت قائلة : نصف راتب ؛ نصف دوام ، والبادي أظلم ….. ماذا نصف دوام ؟؟ ، لقد أتيت إلى هنا قبل عام وكانت أيضاً الوزارة على هذه الحالة ، وفلسطين كانت بأحسن حال ، ” أُدرك جيداً تلك النظرة التهكمية التي علت وجوهكم ، واعلم معنى تلك الضحكة الصفراء التي ارتسمت على شفاهكم ، نعم أنتم محقين ففلسطين لم تمر عليها لحظة واحدة وهي بأحسن حال …!!! ” . قاطعتني ثانية وقد بانت علامات الغضب على ملامح وجهها وقالت : اتركِ أوراقك هنا ، وان كان هناك شاغرا سنتصل بك ، إلى اللقاء الآن … خرجت من عندها منكسرة وقد شيعت الخيبة بأحلامي ، غرفتي الحزينة سأقبع فيك أكثر من ذي قبل ، سريري سأجمل فراشك أكثر ، وأنثر العابي كطفلة تلهو لأول مرة ، وسأنام أكثر و أكثر ،، أمي ، لا أعلم ماذا عسايَ أن أفعل معكِ ، سأدعكِ أنتِ تخرجين كل يوم من البيت وتعودين أخر النهار ، يجب أن تكون واحدة فينا موظفة !! صديقي الفيس ،، الدردشة سأتركها دائماً متاحة ، سأجعلني دائماً متواجدة ، أنا الآن سأضيف الأصدقاء ؛ فأنا ما اعتدت أن أُضيف أحدا .. ذاكرة غانياتي الحزينات ، سأعود إليك مجدداً فلعنة ماركيز أصابتني ، سأحفظ هذه المرة أرقام الصفحات .. صديقاتي وزميلاتي الغاليات ، فلتلزم كلِ منكن مكانها ، فربما كان أفضل .. شقيقتي وزميلاتها ، لكن أن تبحثن بأنفسكن عن عمل … عزيزي المصعد لن ينقذ همتي إلا أنت ، أنزلني معك ، كيف لقدماي اللتان كانتا بكامل همتهما أن يعودا إلى المشي بعد أن حدث كل هذا ، ما بالك مشغول ، للآن مشغول ، سأنتظر فلن أقوى على النزول ، انتظرت ربع ساعة حتى أتى المصعد ، ما إن دخلته حتى تذكرت شاعرنا الراحل محمد البطراوي ” أبو خالد ” – رحمه الله- عندما قال : لا شيء في الوزارة يعمل إلا المصعد .. إضراب في تلك الوزارة ، وتوقف عن العمل في تلك ، أستاذ ” بسام ” ، ليتك تزور مثل تلك الوزارة ،فأنا أُيقن تماما أنك ستستقيل من نقابة موظفين لا يداومون دواماً كاملاً منذ سنة ، أكلُ هؤلاء لهم صلةٌ بذاك المسؤول أو علاقةٌ بسائق المسوؤل !! إذن اللوم عليكَ يا أبي ، كان يجب أن تقيم علاقات مشبوهة مع هؤلاء الذين يمسكون بزمام الأمور في هذا البلد ؟ كان الأجدر بك أن تركل أخلاقك ومبادئك ورائك ، لأجل هذه اللحظة ، فأنا وابنتك الأخرى وابنك لا نعمل ،، بالرغم من أننا نملك كل مقومات الوظيفة المناسبة لتخصص أفنيت نفسك وعمرك لترى تلك الشهادة ، إلا أننا نفقد فيتامين واو …… أشكركِ يا وزارة أل …. لأنكِ جعلتني أرى شيئا يعمل فيكِ بصدق ، ألا وهو المصعد … أخواتي الموظفات ، إخواني الموظفين .. أدرك جيدا مدى ذلك الغضب الذي استفحل بكم في هذه اللحظة ، لكن أرجوكم لا تصبوا غضبكم علي فتدركني لعنتكم كما أدركتني لعنة موظفة لازمتني منذ سنة ، عندما تناقشنا على كيفية كتابة كلمة ” أرجو” فهي تكتب هكذا ولكنها أصرت على أنها تكتب هكذا ” أرجوا ” ، معللة بأن لها باعٌ طويل في الوظيفة يجعلها تكتب كما تعودت ، كان يجب أن أجعلها تكتبها كيفما شاءت ، مالي ومال تلك الكلمة ، التي أوقفت حالي ، تلك الموظفة كانت قد شرعت بكتابة توصية بي لأستلم وظيفة في احدى الوزارات ذي العلاقة الشديدة معها ، لكن تَعنُتي بإملائية الكلم ، جعلها تتوقف عن إكمال التوصية ، وقالت حينها : لنرى متى ستتوظفين ؟؟؟؟؟ اعذروني جميعاً ، ففي هذا الزمن وككل زمن ، الصالح يذهب مع الطالح .. لَكم أن تُكذبوني ، معللين أنني ذكرتُ نصف الحقيقة …… انتهى 11/8/2011