ابن اخي شاب صغير كان يشاركني رحلة من ام درمان الى الخرطوم، وظل طول الرحلة يلاحظ كثافة عدد المتسولين والمجانين… انطلق فجأة قائلاً: يعني العيد يجيء يلقى الناس في الخرطوم الكبرى اما مجانين او شحادين ضحكنا في اسى.. وحاولت ان ادخل معه في نقاش طويل بغرض تحليل الظاهرة وتطمينه لمتغيرات شروط الحراك الاجتماعي والدور الذي ينتظرهم كجيل من اجل تغيير الواقع.. فاجأني بأن اخرج من جيبه شريط كاسيت وقال لي هذه اغنية للكحلاوي يقول فيها: «قالو على شقي ومجنون اريتني اجن وازيد في الجن» وضعت الشريط في المسجل ولم اسمعه فقد رحت مع الظاهرة بعيدا. لا يستطيع احد ان يتجاهل وجود الاعداد الكبيرة من المجانين والمتسولين في طرقات وشوارع الخرطوم والخرطوم بحري وام درمان بامتداداتها.. مجانين من كل الاعمار.. رجال ونساء شباب وشيوخ وكهول والمتسولون من كل الاعمار ايضا حتى الاطفال.. نعم الاطفال تتغير التصرفات والحركات والازياء.. ولكن الموضوع واحد.. غياب العقل والتسول.. الكل يلحظ هذا ويبتسم ابتسامة صفراء حزينة مع هزة رأس ويقول مساكين.. الدنيا وحالها او يقول ديل ماعندهم اهل يلموهم.؟. او نوع ثالث يستهجن هذا الوجود الطاغي في شوارع العاصمة ويرمي باللائمة على السلطات المحلية التي تتركهم هكذا يأذون مشاعرهم ويحرجونهم امام الضيوف. السؤال.. هل هذا يكفي؟ هل التعاطف السلبي يكفي؟ هل وضع الف او الفين او ثلاثة على يد متسول يحل مشكلته؟ هل التأفف الاستعلائي يكفي؟ هل كل هذا يكفي امام هذه الحقيقة التي لو اتينا بكمبيوتر وغذيناه بالمعلومات المعبرة عن واقع الحياة ومشاكل وسياسات الدولة الاقتصادية ودخول الناس ومنصرفاتهم وطلبنا منه ان يوافينا بمعادلة لكانت الاجابة استحالة المعادلة بمعنى استحالة القدرة العقلية والعصبية للمواطن السوداني ان يحتمل كل ما يحدث له او حوله وان تظل سليمة.. او بمعنى آخر ان يتحول السودان كله الى مستشفى كبير للامراض العقلية والنفسية والعصبية.. ولكن من اين نأتي بالدواء؟ هل نستسلم الى المصير الاسود المحتدم ام نتفادى لنزحف نحو كوات اشعاع الرجاء فما زال هناك بصيص أمل. وتبقى الحقيقة المعجزة.. ما زال هناك عقلاء ما زال هناك من يلحظ ويأسف لانتشار الانهيارات العصبية وحالات الاكتئاب والقلق والملل والتسول.. هل هذا يرجع الى اننا شعب يواجه الشدائد والاهوال مستلهماً تراثه الايجابي وحضارته العريقة وقيمه الروحية الاصيلة ضد الانهيار المحتوم ربما؟ اذن التنادي للزحف نحو الامل ممكن بل هو واجب مقدم على الذين ما زالوا يقاومون الضغوط ويتمسكون بقيم النضال من أجل ان تتسع دوائر اشعاع الاستقرار والهناء وتخلو شوارع ومدن السودان كله من المجانين والمتسولين. هذا مع تحياتي وشكري