(من قصيدة أوديب ملكا) المرحوم صلاح أحمد إبراهيم هكذا اجتاح الوباء الأصفر القهار “طيبة” هكذا عضت عليها لعنة الإثم وهزتها المصيبة ومشى الموت يحتُّ الناس يفنيهم بضربات رتيبة قرض الشبان والشيب، فلا حوش نجا دون ضريبة أو خلا من نائح : “طيبة” تحت المنجل الجائح، تحت الفزع الناطح، تجري شحبت حتى روابيها الخصيبة فاحتمت بالقصر تستصرخه وهي تنادي في لهاث: “أيها الكاشف للغمة ناديناك شاكين، أغثنا عظم الكرب، لبسنا خرق الذلة، ناديناك، ناديناك باكين غسلنا الأرض بالدمع، جأرنا باسمك الغالي، أغثنا يا أبا الكل أزل محنتنا يا من أزلت “اللغز” من قبل وهدمت البناء الشامخ العالي، أغث يا من إذا نودي أغاث” وأطل القائد المغوار من مقصوره في القصر كالوطواط كالجرذ الكئيب حوله الأحرار والأبرار يسعون هم الأبقار عجَّت في زريب ورآه الناس فانصاعوا إلى الصمت سوى صوت نشيج ونحيب لا ترى الساحة إلا أعينا شاخصة ترنو إليه وقلوب وجفت إلا أيادٍ مشرئبات رجاء ودعاء ورؤوس نكست من هول ما زلزلها بين يديه وانبرى فيهم خطيب قارئا من أحرف مشكولة قعّدها الكاتب تقعيد العروس: “إيه يا شعبي يا من أنجبت دوحة قدموس.. يطيب[1] عجز الكهان واستعجم عراف “زيوس” لم يعد غير الذي معبده من ذهب.. غير “أبولو” ما الذي جاء به “كريون” من “دلفي” فقد حار الدليل قل لنا “كريون” فالصبر قليل قل لنا والجرح يدمي ويسيل قل لنا أو مر يقل هذا الرسول وسنعطيه الذي فيها النصيب” وتنحى “لترسياس” اللبيب “لترسياس” الذي يصدق في كل نبوءة توأم التاريخ والتاريخ لم يفتح كتابه والذي لا يستحي أو يختشي في الحق من شيء فيابه والذي كرمه الرب بدعوات مجابة رامزا فيه إلى العقل بشقيه: ذكور وإناث[2] ** فتقدم… حمد الرب وأثنى ثم قال: “أيها الحاكم لا تركن إلى قول النفاق هذه العصبة لن تحميك إن حان المحاق لا ولا السيف فما في السيف للغادر واق والذي أقوى من السيف أو السياف أرواح على النطع بريئة فيك يا سفاح لا في الناس أسباب الخطيئة فانج إن شئت فكم طاغية زال وظل الشعب باق!” كلمات هدرت منه جريئة بينما جلل وجه البغي شيء كالكآبة لحظات، ثم لم يخف اضطرابه مزبدا فيه: “افتراءات مسيئة كاذب أعمى.. نشاط هادم أرعن.. أعمال دنيئة خطة مكشوفة دبرها، استوردها كريون- كريون..” ولم يفقد “ترسياس” هدوءه قائلا: “يكفيك يا هذا فلا يعفيك عما اقترفت كفاك بالفعل انفعال إنما العاقل من قيده العقل عن الزلة من قبل العِقال ربما كان الذي من بصر أعمى يرى ما لا يرى أعمى البصيرة والذي يحتقر الحق وقد بان استحق الظلم- فالحق له فصل المقال والذي يبدأ بالظلم إذا ما مسه ليس له أن يتظلم فتعلم.. أيها المغرور.. تكفي غرة بالمرء أن يحيا الفضيحة كل ما يكتم من أمر خبيئ سوف يعلم والخيانات لها ألف لسان يتكلم ونصيحة إن ترد خذها وإلا سوف تندم حاكم من حكّم الأمة لا من يتحكّم” هكذا أنهى “ترسياس” بمرأى من جنود الجائر الجبار والناس الغفيرة كلمات لعلعت منه جهيرة حين جروه إلى المحبس من غير جريرة وهو يدعو الناس في صوت له تعنو الجبال: “إيه يا مقهور لا تفزع من القهر فعمر القهر أيام قصيرة وتفاءل كلما اشتدت زنود البغي إرهافا وقل للنصر قد صارت نصيرة وتحرر بانتهاج السجن فالحر الذي سار إلى السجن ولم يسجن ضميره إنما الحكمة لا الحكم الذي يرفع أقدار الرجال في غد ينكشف ال…” مات بها الصوت وران الصمت إلا همهمات أخذت تعلو مع الأيام حين انفضحت ثمة أشياء خطيرة أقلقت “طيبة” في محنتها أكثر من ذاك البلاء: ملك أبناؤه اخوته فهو أبو اخوته أمه زوجته وهو باللعنة مثبوت جنى زوجته وهو الولد والوالد والمولود والقاتل والمقتول جرثوم الوباء آثر السلطة والسلطان بالقوة والجهل الذي يعصب عينيه الضلال وتحدى الشعب والحكمة والمنطق والعيش الحلال لقي المخدوع بالحرف مصيره فاقئا عينيه تجري بالدماء الفتحات هائما في الطرقات صائحا يستنزل الناسُ عليه اللعنات: ليتني متُّ ولم أجلب على نفسي الشقاء ليتني مت ولم أصغ إلى سلوى نفاق ورياء ويلتا قد طارت السكرة من رأسي فما في الكأس إلا السكرات ويلتا للعبرة الحية، للمجذوم بالروح، خليع الحق، شلو العبرات ويلتا يسخر مني ندمي، يسخر مني ألمي، نزف دمي، وجهي العمي.. حتى الممات [1] كان “عبود” يبدأ خطبه دائما “يطيب لي”.. [2] كان ترسياس الحكيم في هيئة رجل عجوز ذي أثداء كبيرة