كم هو جميل مشهد إحتفاء ملايين المواطنين بفرحة العيد، وياله من محزن منظر غالبية شعبنا وهم يصارعون الحياة في سبيل توفير مئات الآلاف من الجنيهات لتغطية مصاريف تلك المناسبة، كيما تدور عجلة الحياه في السودان وفقاً لرتابتها المعهوده، بين مقتدر وقادر، عاجز ومنزعج من ذلك الوضع غريب الأطوار، إنها صراعات البيوت السودانية من أجل البقاء الإجتماعي، المتطلبات المالية، سبل توفيرها، كيفية ذلك، تغطية العجز، آفاق مستقبليه،…الخ، وكالعادة، ففي خاتمة مطافهم الموسمي عَبَر الناس بالعيد، أو بأطرافه المهمشه وفقاً للمصطلحات السائده، أو عَبَر بهم، أو قل (طاف عليهم طائف وهم يصارعون)، حتى أزف صبح يومه، وحل مساءه، ثم فجر اليوم الثاني والثالث… الى حين أعلان إستئناف الحياه الطبيعية مجدداً، كما كانت على حالها من رتابة وكئآبة وهموم. وبالمقابل، هناك في الضفة الأخرى مئات الطلاب قضوا (الليلة ديك) بصورة أو بأخرى، لم يكونوا جزءاً من صراع كبش الفداء كما يُكتب، ويُنطق رسمياً، لم يكونوا طرفاً في (معركة الخروف) كما يُشاع شعبياً وإجتماعياً، كانت هموم المئات منهم تذهب بعيداً حيث يقطن ذويهم، في (الغربه) المكانيه، و(الغرب) الجغرافي، فخوره غرف داخليات الجامعات ببقاء طلاب من دارفور في ليالي العيد السعيد، ومُنكسة رأسها إدارات وإتحادات ذات الجامعات، والتي جعلت ذلك ممكناً بتآمر فج وتخطيط مُتعمَّد. ففي الوقت الذي شهدت فيه (الشوارع) السودانية عقداً إجتماعياً فريداً، وسكنت فيها (البيوت) حالة عقد إجتماعي متجدد عاماً بعد عام، (تعود الأيام، كل عام وأنتم بخير، العيد مبارك، إتفضلوا يآخ…)، إستقبل طلاب من أبناء الشعب عيدهم بلا لون، ولا رائحه، ولا طعم، على الرغم من محاولات تكيفهم مع الواقع، بإبداع منقطع النظير، وهكذا إنقسم الشعب الى ثلاث ضفاف، في الضفة الاولى تُنحر الضحايا البشريه والحيوانيه، إنها طبقة الدوله ومن لف لفها، وسبَّح بحمدها، ونال رضاءها، أما الضفة الثانية فقد شملت وتشمل عموم أهل السودان، (وناسه) البسطاء، من مقتدرين محدودين الى عاجزين عن شراء الأضحيه، الشيء الذي لم يُغيِّر في طبيعة حالهم يوم العيد، مجرد وجبة لا تختلف عن ما كانت عليه من قبل، أي ان الحال بات (عادياً تماماً، كالذي يمشي بخطو مطمئن كي يناما)، وبين الضفتين الأولى والثانية يحدث الصراع، فتتفكك الثانية، وتنهار ب (ناسها) لتسقط في الضفة الثالثه حيث يعجز السواد الأعظم من المواطنين، والطلاب عن اللحاق بتلك الحالة الطبيعية، وتحول ظروفهم عن الإيفاء بمجرد وجبة الإفطار العادية، ليس يوم العيد فقط، بل على مدار العام، ويالها من مفارقة عظيمة الشأن. تستعر في الضفة الثانية معارك (الإنتقال الطبقي المؤقت)، من طعم (الفول) الى تذوق (لحم) الأضحية، لكونه يمثل حدثاً إستثنائياً يمر عاماً بعد عام، كما الربيع المنعدم، غير أن هناك من البشر في الضفة الثالثه من يسعى ل (القفز فوق الطبقات)، بمحاولات سد الرمق بوجبه (فول)، مجرد طموحات محدودة، ب (القفز الطبقي) من طعم الجوع، الى تذوق ماتيسر من (ماء) ذلك (الفول) المعزول إجتماعياً في موائد الضفة الأولى الذاخره ب (مخرجات الخراف)، حيث يضعون ذلك (الفول) في عزلته، مع شيء من مجاملة الأغنياء له ب (نظرة عابرة)، أو ب (لقمة إضطرارية) ولسان فاعلها يقول (أنا ضُقت السعادة وفارقني الندم، قبالك كنت تائه حياتي عدم)، لكن يرد عليه (الفول) بإستهتار قائلاً على لسان الشاعر جيلي محمد صالح (ذكِّروه بالليالي الأيام التقينا)، وبينهما ينطلق همس طالب من الضفه الثالثه، ظفر ب (ماء الفول)، ففرح حاله، وسر خاطره، واخذ يردد على لسان الشاعر إسحق الحلنقي (أنا كُنت من قبلك بشيل الليل دموع وأطويه هَمْ، وانا قبلك الأيام قضيتها سراب يسلمني السراب، وبيك طويت من عمري صفحة ماضي مكتوب بالعذاب، ياعذاب)، إنه نعم الوفاء ل (الفول) في الضفه الثالثة (الوفية بناسها)، لصديقهم القديم المتجدد حيث تتم مقابلته (في زمن ماشي وزمن جاي وزمن لسه)، ويشوف – الطالب – (الماضي فيه باكر)، قائلاً : (أريت باكر يكون هسع) في مقطوعة إسحق الحلنقي ذاته. شتان بين طبيعة (الضفاف الثلاث) ومايجري في ساحاتها إبان (معارك الأعياد)، من هموم عادية، وهموم أكثر تواضعاً، وهموم تتحقق على حساب الهموم الأخرى لتضيف اليها هماً إضافياً، فالمسأله غاية في السهوله، إذ ان كل ما يأمله (الطلاب) تحقيق حلم بسيط، وواقعي، بالعودة الى ديارهم، أو السكن بإطمئان وسط ذويهم، بما يضمن سلامتهم النفسية والإجتماعية، بلا إبادة، او تعذيب، ولا حرق او تشريد، أو قل بلا إنتهاك لحقوق الإنسان، حتى لا تتحول داخليات الطلاب الطارده الى ملاذ أبدي، والى بديل أفضل من الموت بالرصاص كما هي عليه، ولعل تلك (الغرف) الغارقة في ظلامها، و(المتطرفه) بشدة حرها وبردها، أفضل من التوهان وسط الوحوش، وأكثر طمأنينه من معسكرات اللجوء الإضطراريه، ومدن العنصرية البغيضة. اليكم أعزائي عموم الطلاب، سلام العيد وفرحته ومعافاته، والى من يقطنون في داخلياتهم حتى الآن الود الكبير، والإعتذار الدائم إنابة عن البعض لما عجزنا عن معالجته إجتماعياً، وعن غياب إستثائي دون أن نكون معهم في ليلة العيد وفي صباحيته اللطيفه كما كنا من قبل، إنها المره الأولى منذ ثلاثة عشر عاماً في الظروف العادية، فقد إنقطع حبل السر بيننا والتعليم العالي، لكن ما إنقطع الموقف الفكري، ولا الإحساس ولا الإلفه، ووفقاً لشاعرنا الأستاذ التيجاني سعيد، نردد معه (قلت أرحل، أهوم ليل، وأساهر ليل اتوه من من مرفى لي مرفى)